هناك أكثر من سؤال يدور في أذهان شعوب المنطقة، ومنها: لماذا يتحرك الغرب بقيادة اميركا في تحريك الفتن والحروب في الشرق الأوسط الإسلامي، وفي البلاد العربية؟
لقد خطط هذا الغرب لتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، موقعاً ودوراً، وذلك في سياق إحكام السيطرة على منطقتنا، مبتدئاً بالحرب التي اجتاحت الشعب الفلسطيني، وشرّدته من أرضه، واستخدمت هذه الدولة سياسة الحديد والنار حيث شكّلت المجازر الوحشية المكوّن الرئيس للجيش الإسرائيلي، سواء في البنية او الأهداف، وكانت الإبادة المنظّمة لكل بنى وتشكيلات الشعب الفلسطيني هي السياسة المتّبعة، والمدعومة بتشجيع أميركي، ونفاق أوروبي، وعجز من الأمم المتحدة، وصمت او تشجيع عربي...
وما زالت المأساة الإنسانية والسياسية والاقتصادية تطبق على واقع هذا الشعب، لتقوده الى اليأس، ولتسقط مقاومته من أجل تحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية التي تدعمها الإدارة الأميركية على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية، من مصادرة الأراضي الفلسطينية لحساب المستوطنات والجدار الفاصل ومنع اللاجئين من العودة، الى غير ذلك مما يلقى رعاية وتناغماً من الغرب السياسي كله، وإن سجل بعض التحفّظات التي لا تؤدي الى نتيجة، الأمر الذي يوحي بأن الإدارات الغربية التي كانت الأساس في ولادة الدولة العبرية وقوتها لا تزال ترفض الدولة الفلسطينية على صعيد الواقع، وإن تحدثت عنها بعبارات هي للاستهلاك السياسي لا غير...
وإزاء هذا المشروع الغربي، لا تقف أكثر الدول العربية موقف الصمت والتخاذل فحسب، بل إنها وانطلاقا من حسابات لا تمت الى المصالح العربية والإسلامية بصلة تدعم هذا المشروع، لتكرّس مصادرة الشعب الفلسطيني لحساب إسرائيل، وهو ما دفعها لتقف من الانتفاضة التحريرية موقف الضغط الذي تصاعد الى مستوى خوض الحرب الخفيّة ضدها، ولا تزال مأساة الشعب الفلسطيني في داخل بلده وخارجه مستمرة بسبب الخطة الأميركية الإسرائيلية التي حددت ان المطلوب جعل فلسطين يهودية، كما صرّح الرئيس الأميركي بذلك في بعض تصريحاته.
وإذا انتقلنا الى العراق، البلد الإسلامي العربي الحضاري، فإننا نلتقي بالاحتلال الأميركي البريطاني لهذا البلد بذريعة اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتصويره بأنه يمثل الخطر على العالم كله، وهو ما يدخل كما أكدت كل الوقائع في إطار مفردات الكذب والافتراء والتزوير... ونحن وإن كنا لا ننكر ان هذا البلد كان يعيش المعاناة من الاستبداد المدمر في حكم الطاغية، لكن الجميع يعلم انه كان صنيعة اميركا في كل خططه وسياساته ومجازره وجرائمه وحروبه، فقد كان موظفاً عند مخابراتها، حتى إذا انتهى دوره تحركت بجحافلها العسكرية للسيطرة عليه، وقد استخدمت في هذا السبيل كعادتها سياسة الخداع، حيث استغلت نقمة الشعب العراقي على النظام الديكتاتوري لتصوير احتلالها بأنه عملية إنقاذية لهذا الشعب وتحريره من حكمه الظالم...
ولكن أميركا ومعها بريطانيا أدخلت العراق في متاهات أمنية وسياسية واقتصادية، وخططت لإثارة الفتن المذهبية في داخله، وحرّكت كل الظروف لإدخاله في أتون حرب أهلية من خلال أكثر من خطة أمنية وسياسية... لكن الشعب العراقي عاش في الواقع دوّامة من المجازر اليومية اجتاحت كل مواقعه الدينية والاجتماعية والتربوية والسياسية، عبر عمليات مختلفة، اتخذت عناوين الاصلاح والديموقراطية في الظاهر، وبذلك كان مضمون السياسة الأميركية في هذا الإطار إطلاق كل ما هو مدمر من جعبة استراتيجيتها، وهكذا فتحت الأبواب واسعة أمام قوى التكفير والصهينة والتفتيت والاحتكارات، لتسلب ثرواته، وتقتل عمّاله ومثقفيه وعلماءه ورجال أمنه، تحت سمع الاحتلال وبصره...
ولكن في الوقت ذاته، بدأ الاحتلال يسقط في وحول العراق ورماله المتحرّكة، من خلال المقاومة المتنوّعة التي بدأت تجتاح أمنه، وتدمّر مواقعه، الأمر الذي جعله يعيش فشلاً سياسياً وتخبّطاً استراتيجياً، ما أوقعه في مستنقعات لا يعرف كيف يخرج منها، ودفع أميركا ومعها الغرب السياسي للهروب الى الامام، حيث جرى استهداف أكثر من بلد لتفجير المشاكل فيه، وهذا ما نلاحظه في موقفه من إيران وسوريا باتهامه لهما بأنهما يقفان خلف الفوضى التي تحاصره وتحاصر الواقع في العراق.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الإدارة الأميركية لا تزال تخطط للبقاء طويلاً في العراق، لتحقيق استراتيجيتها وحماية أطماعها البترولية، ومحاولة الضغط على البلدان المجاورة، ولعلنا لا ننسى ان من بعض أهداف هذا الاستكبار في احتلال العراق هو إسقاط البلد القوي الذي وقف شعبه ضد إسرائيل، مما كان من الممكن ان يشكّل خطراً على هذا الكيان الغاصب، وقد صرّح مسؤولوه بأنهم أسقطوا القوة التي كانت خطراً على الصهيونية، ويعرف الجميع بأن إسرائيل بجيشها ومخابراتها تتحرك مع جيش الاحتلال الأميركي ومخابراته للعبث بأمن العراق، وإثارة الفتنة في داخله، واستغلال مواقعه الاقتصادية...
وستبقى مأساة هذا الشعب ما دام الاحتلال الأميركي أسيراً لمصالحه وأطماعه، من دون ان يحرّك الغرب ساكناً في إنقاذه، ومن دون ان يتدخّل العالم العربي في حلّ مشكلته، ويعود السبب الى خضوعه للسياسة الأميركية التي تمنعه من التدخّل الإنقاذي لو استطاع الى ذلك سبيلا... أما الأمم المتحدة فإنها واقعة تحت الضغط الأميركي وتحالفاته الأوروبية وغيرها.
وفي سياق هذا التوجّه، كان للبنان موقعه في هذه الاستراتيجية الأميركية، لذا امتدت الحرب الى هذا البلد الذي أرادته الولايات المتحدة الأميركية ان يتحوّل الى قاعدة لنفوذها في خططها السياسية والآنية التي تتمثل في إسقاط قوة الرفض والممانعة والمقاومة التي يمتلكها ضد العدوان الإسرائيلي، وتطويع سياسته بما يخدم أطماعها في لبنان ويسهّل لإسرائيل اختراق أرضه وجوّه وبحره، لذا لم تتأخّر الإدارة الأميركية من استغلال بعض الثغرات السياسية والأمنية في لبنان، فاحتوت لنفسها فريقاً سياسياً لا ينفتح على قضايا العالم العربي في مسألة الصراع مع إسرائيل، بل يتحرك ضد هذا البلد العربي او ذاك، في عملية استغلال لبعض الأخطاء والمشاكل. وقد تحركت واشنطن ضمن هذه الأجواء على وقع خطة سياسية تستهدف تعقيد أوضاع المقاومة وإرباك سياستها، ما دفعها للضغط على مجلس الأمن حيث جرى إصدار أكثر من قرار يمسّ استقلال لبنان، ويثير موضوع المقاومة تحت غطاء بعض العناوين الوطنية.
وإذ نجح اللبنانيون في احتواء هذه الضغوط واستيعابها، عبر تحويل التناقضات الداخلية، التي عمل الأميركي لتفجيرها، الى ساحة الحوار سياسي الذي كاد ان ينتهي الى تفاهم وطني، حتى جاءت الحرب الإسرائيلية التي استغلت خطف الجنديين الإسرائيليين من أجل عملية التبادل بالأسرى اللبنانيين، فكانت الفرصة لأميركا أن تخوض هذه الحرب بيد إسرائيل، لتدمّر لبنان كله في بنيته التحتية، وفي قتل المدنيين من شعبه ولا سيما شعب الجنوب، وفي المجازر المتنوّعة التي تستهدف أطفاله ونساءه وشيوخه، وتدمّر البيوت على ساكنيها...
وكانت المفاجأة أن العالم المستكبر وقف في مؤتمر الثمانية مع إسرائيل ضد الشعب اللبناني ومقاومته، ثم تحوّل الى مؤتمر روما، ثم الى استخدام مجلس الأمن في إصرار مريب على استمرارية الحرب التي يتساقط فيها المدنيون يومياً، ولا سيما الأطفال منهم، وبذلك بات الغرب الخاضع لأميركا وحشاً يتقاسم معها نهش لحوم أطفال لبنان والارتواء من دمائهم، وهو يرفض وقف إطلاق النار، حتى إذا تعاظم الضغط من قِبَل الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الحر، وبدأ يخرج بل يهدد الأنظمة المتعاملة مع الغرب، أخذت القوى المستكبرة تخطط لقرار أمني سياسي يستهدف إعطاء نصر لإسرائيل لم تستطع الحصول عليه بالحرب، في قرار غامض تكاملت فيه سياسة أميركا مع فرنسا وفق حركة المصالح بينهما، من دون ان يكون للبنان حتى الدولة أي دور في تفاصيل القرار، تماماً كما لو لم يكن موجوداً، لأنها ترى ان من واجب اللبنانيين الخضوع والطاعة انسجاماً مع الشعار السياسي الذي رفعه بعض اللبنانيين وهو <تنفيذ قرارات الشرعية الدولية>، حتى لو كانت هذه القرارات ضد أمن لبنان واستقلاله، ومع مصلحة العدوان الإسرائيلي الحالي والمستقبلي.
إن من الدروس الأساسية لما حدث ويحدث هو أن العالم العربي والإسلامي قد اكتشف مجدداً، ولا سيما من هذه التجربة التي يمر بها لبنان والمنطقة، ان الغرب لا يحترم إنساننا، ولا يزال يتحرك من خلال تعقيداته التاريخية وعنفوانه الاستكباري وخصوصاً أن الذين يحكموننا قد سقطوا تحت تأثير استكباره... إننا لا نتحدث في المسألة من خلال أية مشاعر دينية مما يحمله الكثيرون في الغرب، بل من خلال الواقع التاريخي والحاضر المرّ في تجربتنا معه.
وانطلاقا من هذه الوقائع، لا بد لشعوبنا ان تأخذ بأسباب الوعي لتعرف كيف تواجه العلاقات مع الغرب بما يضمن لها الحرية والعزة والكرامة والاستقرار، ولتعرف أن الغرب سوف يبقى إسرائيلياً ولن يكون عربياً او إسلامياً في مواقفه السياسية، وأن شعوب العرب والمسلمين بالنسبة الى الغرب ليست إلا بقرة حلوباً، لا بشراً تحترم إنسانيتهم وبشريتهم... وليعرف العالم العربي والإسلامي أن الوحدة الشاملة المرتكزة على الإحساس بالهوية، والاستناد الى عناصرها الأصيلة في حركته، وعلى استخدام كل مواقع القوة والقدرة عنده، وترتيب حساباته بدقة وتنظيم على أساس الأولويات والبرامج المدروسة... إن ذلك كله سوف يمنع الآخرين مهما كانت قوتهم من مصادرة أوضاعنا وإسقاط وجودنا، لأن مسألة العلاقات على جميع المستويات سوف تخضع لحسابات المستقبل في الأمة لا لحسابات الآخرين، وقد جاء في الحديث المأثور: <إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين>، ولقد لُدغنا من الغرب في إداراته الرسمية ألف مرة.
هل سأل الرئيس الأمريكي نفسه ـ مع إدارته ـ عن السبب في نشوء حركة الإرهاب في العالم العربي والإسلامي، ليعرف الجواب من عمق الواقع النفسي لدى العرب والمسلمين، والقهر الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يتمثّل في المسألة الفلسطينية، من خلال الطريقة التي تدير بها أمريكا أوضاع المنطقة مما لا علاج له بالقوة العسكرية الرادعة، بل بمعالجة جذوره في الواقع؟ ثم، هل يرى هذا الرئيس وإدارته أن الاحتلال الذي يصادر إرادة الشعوب يمكن أن يحقق لها الحرية؟ بل هل يمكن لأيّ احتلال أن يحقق للناس إرادتهم في الحرية الحقيقية؟ نحن نعلم أن الاحتلال الأمريكي وحليفه البريطاني أسقط الدكتاتورية في العراق، ولكن ذلك كان لحساب السياسة الأمريكية التي كان الطاغية في العراق حليفها الذي ينفّذ سياستها منذ عشرات السنين، ولكن الطريقة التي يدير بها الاحتلال أوضاع العراق أدخلت هذا البلد في النفق الأمني المظلم الذي يحصد أرواح مئات الألوف من الشعب العراقي، من دون أن تحرك هذه القوات الاحتلالية أيّ جهد في هذا الاتجاه، لأن أمريكا تريد البقاء طويلاً في العراق، مما يجعل من الانفلات الأمني مبرراً لها للبقاء؟!
ويتحدث الرئيس الأمريكي عن الديمقراطية في العراق، ولكن الجميع يعرف ـ حتى البرلمان العراقي والحكومة العراقية ـ أن قوات الاحتلال لا تسمح للمسؤولين في العراق بأية حرية في أية مبادرة مستقلة، أو بإدارة الوضع الاقتصادي بشكل فاعل لحل المشكلة الإنسانية والخدماتية للشعب، بل إن بعض الشركات الأمريكية قامت بنهب الثروة العراقية من خلال مشاريع وهمية.
ثم، ألا يتساءل هذا الرئيس: لماذا تقوم المقاومة العراقية بمحاربة احتلاله، ألا يجد في ذلك دليلاً على أن هناك حركة لاسترداد الشعب حريته؟ وإذا كان هناك إرهابيون من التكفيريين ممن يقومون بالمجازر على أساس مذهبي، فإن ذلك كان من خلال "الفوضى البنّاءة" السياسية والأمنية التي بشّر بها الرئيس بوش.. إننا نتفق معه أن هناك حرباً بين الحرية والإرهاب، ولكنها حرية الشعب في تقرير مصيره وإرهاب الاحتلال في مصادرة حرية هذا الشعب.
أما في لبنان، فلم تكن الديمقراطية فيه هبة من الرئيس الأمريكي في برنامجه، بل إن الديمقراطية في هذا البلد تمتد منذ ما بعد الاستقلال، ولم تكن الحرية التي يتحرك بها الشعب اللبناني في الفكر والإعلام والسياسة توجيهاً أمريكياً، ولكن اللبنانيين يمارسون ذلك كله بإرادتهم الحرة، وإذا كانت هناك بعض الثغرات التي انفتحت في الجدار اللبناني مما عانى منه اللبنانيون، فقد كان ذلك من خلال العبث السياسي الذي قامت به الدول الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا، لتنفيذ سياستها في المنطقة من خلال اعتبار لبنان ساحة لذلك، ومن خلال الإرهاب السياسي الأمني الإسرائيلي الذي قام بتدمير لبنان لأكثر من مرة، وبموافقة من أمريكا وتأييدها ومساعدتها.
وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن أن لبنان هو "مسرح النشاط الإرهابي الأكثر عنفاً"، فإننا نوافقه على ذلك، ولكن الإرهاب هو الذي انطلق من خلال إرهاب الدولة الذي مارسته أمريكا سياسياً في خطتها المتوافقة مع خطة إسرائيل، في إنضاج مشروع الشرق الأوسط الجديد على نار حارة يحترق في لهيبها اللبنانيون، بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم، وتحترق معهم كل بنيته التحتية في عملية تدمير شاملة لم يسبق لها مثيل، مما كان الرئيس الأمريكي يعيش معه الفرح النفسي والسياسي في نجاح مشروع الإبادة للبنانيين، كعقاب لهم على إيمانهم بالحرية في رفض الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الاستكبارية الأمريكية.
إنه يتحدث عن الحرية للعراقيين واللبنانيين، ولكن الشعوب تتحدث عن الإرهاب الأمريكي المتحالف مع الإرهاب الإسرائيلي ومع كل قوى الاستكبار العالمي ـ بما فيه الاتحاد الأوروبي ـ التي وقفت مع عملية التدمير والإبادة للبنان وفلسطين، حتى أن الأمم المتحدة لم تستطع ـ بضغط من هؤلاء ـ أن تقرر وقف إطلاق النار، بل تركت المسألة خاضعة للغموض اللفظي الذي يُراد له أن يخضع في تفسيره وتأويله لمصلحة إسرائيل.
أيها الرئيس: لقد خرجت من التاريخ مطروداً، ومصحوباً باللعنات، وقد عملت بكل سياستك ـ مع إدارتك ـ على أن تعمّق الكراهة لأمريكا، لأنك سقطت تحت تأثير إسرائيل لتكون خاضعاً للصهيونية من خلال الذين يحيطون بك.. إنك تملك بكل قوتك الهائلة أن تدمّر لبنان، وتقتل شعوبنا، ولكنك لن تستطيع أن تدمِّر إرادتنا الحرّة في الحرية والعزة، وفي الرفض لكل سياستك وسياسة أحلافك الاستكبارية..
وسيبقى لبنان البلد الرافض للاستكبار والمستكبرين، وستبقى المقاومة حركة حرية وانفتاح على الإنسان كله، وعلى الخير كله، ضد محور الشر الأمريكي.
هناك أكثر من سؤال يدور في أذهان شعوب المنطقة، ومنها: لماذا يتحرك الغرب بقيادة اميركا في تحريك الفتن والحروب في الشرق الأوسط الإسلامي، وفي البلاد العربية؟
لقد خطط هذا الغرب لتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، موقعاً ودوراً، وذلك في سياق إحكام السيطرة على منطقتنا، مبتدئاً بالحرب التي اجتاحت الشعب الفلسطيني، وشرّدته من أرضه، واستخدمت هذه الدولة سياسة الحديد والنار حيث شكّلت المجازر الوحشية المكوّن الرئيس للجيش الإسرائيلي، سواء في البنية او الأهداف، وكانت الإبادة المنظّمة لكل بنى وتشكيلات الشعب الفلسطيني هي السياسة المتّبعة، والمدعومة بتشجيع أميركي، ونفاق أوروبي، وعجز من الأمم المتحدة، وصمت او تشجيع عربي...
وما زالت المأساة الإنسانية والسياسية والاقتصادية تطبق على واقع هذا الشعب، لتقوده الى اليأس، ولتسقط مقاومته من أجل تحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية التي تدعمها الإدارة الأميركية على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية، من مصادرة الأراضي الفلسطينية لحساب المستوطنات والجدار الفاصل ومنع اللاجئين من العودة، الى غير ذلك مما يلقى رعاية وتناغماً من الغرب السياسي كله، وإن سجل بعض التحفّظات التي لا تؤدي الى نتيجة، الأمر الذي يوحي بأن الإدارات الغربية التي كانت الأساس في ولادة الدولة العبرية وقوتها لا تزال ترفض الدولة الفلسطينية على صعيد الواقع، وإن تحدثت عنها بعبارات هي للاستهلاك السياسي لا غير...
وإزاء هذا المشروع الغربي، لا تقف أكثر الدول العربية موقف الصمت والتخاذل فحسب، بل إنها وانطلاقا من حسابات لا تمت الى المصالح العربية والإسلامية بصلة تدعم هذا المشروع، لتكرّس مصادرة الشعب الفلسطيني لحساب إسرائيل، وهو ما دفعها لتقف من الانتفاضة التحريرية موقف الضغط الذي تصاعد الى مستوى خوض الحرب الخفيّة ضدها، ولا تزال مأساة الشعب الفلسطيني في داخل بلده وخارجه مستمرة بسبب الخطة الأميركية الإسرائيلية التي حددت ان المطلوب جعل فلسطين يهودية، كما صرّح الرئيس الأميركي بذلك في بعض تصريحاته.
وإذا انتقلنا الى العراق، البلد الإسلامي العربي الحضاري، فإننا نلتقي بالاحتلال الأميركي البريطاني لهذا البلد بذريعة اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتصويره بأنه يمثل الخطر على العالم كله، وهو ما يدخل كما أكدت كل الوقائع في إطار مفردات الكذب والافتراء والتزوير... ونحن وإن كنا لا ننكر ان هذا البلد كان يعيش المعاناة من الاستبداد المدمر في حكم الطاغية، لكن الجميع يعلم انه كان صنيعة اميركا في كل خططه وسياساته ومجازره وجرائمه وحروبه، فقد كان موظفاً عند مخابراتها، حتى إذا انتهى دوره تحركت بجحافلها العسكرية للسيطرة عليه، وقد استخدمت في هذا السبيل كعادتها سياسة الخداع، حيث استغلت نقمة الشعب العراقي على النظام الديكتاتوري لتصوير احتلالها بأنه عملية إنقاذية لهذا الشعب وتحريره من حكمه الظالم...
ولكن أميركا ومعها بريطانيا أدخلت العراق في متاهات أمنية وسياسية واقتصادية، وخططت لإثارة الفتن المذهبية في داخله، وحرّكت كل الظروف لإدخاله في أتون حرب أهلية من خلال أكثر من خطة أمنية وسياسية... لكن الشعب العراقي عاش في الواقع دوّامة من المجازر اليومية اجتاحت كل مواقعه الدينية والاجتماعية والتربوية والسياسية، عبر عمليات مختلفة، اتخذت عناوين الاصلاح والديموقراطية في الظاهر، وبذلك كان مضمون السياسة الأميركية في هذا الإطار إطلاق كل ما هو مدمر من جعبة استراتيجيتها، وهكذا فتحت الأبواب واسعة أمام قوى التكفير والصهينة والتفتيت والاحتكارات، لتسلب ثرواته، وتقتل عمّاله ومثقفيه وعلماءه ورجال أمنه، تحت سمع الاحتلال وبصره...
ولكن في الوقت ذاته، بدأ الاحتلال يسقط في وحول العراق ورماله المتحرّكة، من خلال المقاومة المتنوّعة التي بدأت تجتاح أمنه، وتدمّر مواقعه، الأمر الذي جعله يعيش فشلاً سياسياً وتخبّطاً استراتيجياً، ما أوقعه في مستنقعات لا يعرف كيف يخرج منها، ودفع أميركا ومعها الغرب السياسي للهروب الى الامام، حيث جرى استهداف أكثر من بلد لتفجير المشاكل فيه، وهذا ما نلاحظه في موقفه من إيران وسوريا باتهامه لهما بأنهما يقفان خلف الفوضى التي تحاصره وتحاصر الواقع في العراق.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الإدارة الأميركية لا تزال تخطط للبقاء طويلاً في العراق، لتحقيق استراتيجيتها وحماية أطماعها البترولية، ومحاولة الضغط على البلدان المجاورة، ولعلنا لا ننسى ان من بعض أهداف هذا الاستكبار في احتلال العراق هو إسقاط البلد القوي الذي وقف شعبه ضد إسرائيل، مما كان من الممكن ان يشكّل خطراً على هذا الكيان الغاصب، وقد صرّح مسؤولوه بأنهم أسقطوا القوة التي كانت خطراً على الصهيونية، ويعرف الجميع بأن إسرائيل بجيشها ومخابراتها تتحرك مع جيش الاحتلال الأميركي ومخابراته للعبث بأمن العراق، وإثارة الفتنة في داخله، واستغلال مواقعه الاقتصادية...
وستبقى مأساة هذا الشعب ما دام الاحتلال الأميركي أسيراً لمصالحه وأطماعه، من دون ان يحرّك الغرب ساكناً في إنقاذه، ومن دون ان يتدخّل العالم العربي في حلّ مشكلته، ويعود السبب الى خضوعه للسياسة الأميركية التي تمنعه من التدخّل الإنقاذي لو استطاع الى ذلك سبيلا... أما الأمم المتحدة فإنها واقعة تحت الضغط الأميركي وتحالفاته الأوروبية وغيرها.
وفي سياق هذا التوجّه، كان للبنان موقعه في هذه الاستراتيجية الأميركية، لذا امتدت الحرب الى هذا البلد الذي أرادته الولايات المتحدة الأميركية ان يتحوّل الى قاعدة لنفوذها في خططها السياسية والآنية التي تتمثل في إسقاط قوة الرفض والممانعة والمقاومة التي يمتلكها ضد العدوان الإسرائيلي، وتطويع سياسته بما يخدم أطماعها في لبنان ويسهّل لإسرائيل اختراق أرضه وجوّه وبحره، لذا لم تتأخّر الإدارة الأميركية من استغلال بعض الثغرات السياسية والأمنية في لبنان، فاحتوت لنفسها فريقاً سياسياً لا ينفتح على قضايا العالم العربي في مسألة الصراع مع إسرائيل، بل يتحرك ضد هذا البلد العربي او ذاك، في عملية استغلال لبعض الأخطاء والمشاكل. وقد تحركت واشنطن ضمن هذه الأجواء على وقع خطة سياسية تستهدف تعقيد أوضاع المقاومة وإرباك سياستها، ما دفعها للضغط على مجلس الأمن حيث جرى إصدار أكثر من قرار يمسّ استقلال لبنان، ويثير موضوع المقاومة تحت غطاء بعض العناوين الوطنية.
وإذ نجح اللبنانيون في احتواء هذه الضغوط واستيعابها، عبر تحويل التناقضات الداخلية، التي عمل الأميركي لتفجيرها، الى ساحة الحوار سياسي الذي كاد ان ينتهي الى تفاهم وطني، حتى جاءت الحرب الإسرائيلية التي استغلت خطف الجنديين الإسرائيليين من أجل عملية التبادل بالأسرى اللبنانيين، فكانت الفرصة لأميركا أن تخوض هذه الحرب بيد إسرائيل، لتدمّر لبنان كله في بنيته التحتية، وفي قتل المدنيين من شعبه ولا سيما شعب الجنوب، وفي المجازر المتنوّعة التي تستهدف أطفاله ونساءه وشيوخه، وتدمّر البيوت على ساكنيها...
وكانت المفاجأة أن العالم المستكبر وقف في مؤتمر الثمانية مع إسرائيل ضد الشعب اللبناني ومقاومته، ثم تحوّل الى مؤتمر روما، ثم الى استخدام مجلس الأمن في إصرار مريب على استمرارية الحرب التي يتساقط فيها المدنيون يومياً، ولا سيما الأطفال منهم، وبذلك بات الغرب الخاضع لأميركا وحشاً يتقاسم معها نهش لحوم أطفال لبنان والارتواء من دمائهم، وهو يرفض وقف إطلاق النار، حتى إذا تعاظم الضغط من قِبَل الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الحر، وبدأ يخرج بل يهدد الأنظمة المتعاملة مع الغرب، أخذت القوى المستكبرة تخطط لقرار أمني سياسي يستهدف إعطاء نصر لإسرائيل لم تستطع الحصول عليه بالحرب، في قرار غامض تكاملت فيه سياسة أميركا مع فرنسا وفق حركة المصالح بينهما، من دون ان يكون للبنان حتى الدولة أي دور في تفاصيل القرار، تماماً كما لو لم يكن موجوداً، لأنها ترى ان من واجب اللبنانيين الخضوع والطاعة انسجاماً مع الشعار السياسي الذي رفعه بعض اللبنانيين وهو <تنفيذ قرارات الشرعية الدولية>، حتى لو كانت هذه القرارات ضد أمن لبنان واستقلاله، ومع مصلحة العدوان الإسرائيلي الحالي والمستقبلي.
إن من الدروس الأساسية لما حدث ويحدث هو أن العالم العربي والإسلامي قد اكتشف مجدداً، ولا سيما من هذه التجربة التي يمر بها لبنان والمنطقة، ان الغرب لا يحترم إنساننا، ولا يزال يتحرك من خلال تعقيداته التاريخية وعنفوانه الاستكباري وخصوصاً أن الذين يحكموننا قد سقطوا تحت تأثير استكباره... إننا لا نتحدث في المسألة من خلال أية مشاعر دينية مما يحمله الكثيرون في الغرب، بل من خلال الواقع التاريخي والحاضر المرّ في تجربتنا معه.
وانطلاقا من هذه الوقائع، لا بد لشعوبنا ان تأخذ بأسباب الوعي لتعرف كيف تواجه العلاقات مع الغرب بما يضمن لها الحرية والعزة والكرامة والاستقرار، ولتعرف أن الغرب سوف يبقى إسرائيلياً ولن يكون عربياً او إسلامياً في مواقفه السياسية، وأن شعوب العرب والمسلمين بالنسبة الى الغرب ليست إلا بقرة حلوباً، لا بشراً تحترم إنسانيتهم وبشريتهم... وليعرف العالم العربي والإسلامي أن الوحدة الشاملة المرتكزة على الإحساس بالهوية، والاستناد الى عناصرها الأصيلة في حركته، وعلى استخدام كل مواقع القوة والقدرة عنده، وترتيب حساباته بدقة وتنظيم على أساس الأولويات والبرامج المدروسة... إن ذلك كله سوف يمنع الآخرين مهما كانت قوتهم من مصادرة أوضاعنا وإسقاط وجودنا، لأن مسألة العلاقات على جميع المستويات سوف تخضع لحسابات المستقبل في الأمة لا لحسابات الآخرين، وقد جاء في الحديث المأثور: <إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين>، ولقد لُدغنا من الغرب في إداراته الرسمية ألف مرة.
هل سأل الرئيس الأمريكي نفسه ـ مع إدارته ـ عن السبب في نشوء حركة الإرهاب في العالم العربي والإسلامي، ليعرف الجواب من عمق الواقع النفسي لدى العرب والمسلمين، والقهر الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يتمثّل في المسألة الفلسطينية، من خلال الطريقة التي تدير بها أمريكا أوضاع المنطقة مما لا علاج له بالقوة العسكرية الرادعة، بل بمعالجة جذوره في الواقع؟ ثم، هل يرى هذا الرئيس وإدارته أن الاحتلال الذي يصادر إرادة الشعوب يمكن أن يحقق لها الحرية؟ بل هل يمكن لأيّ احتلال أن يحقق للناس إرادتهم في الحرية الحقيقية؟ نحن نعلم أن الاحتلال الأمريكي وحليفه البريطاني أسقط الدكتاتورية في العراق، ولكن ذلك كان لحساب السياسة الأمريكية التي كان الطاغية في العراق حليفها الذي ينفّذ سياستها منذ عشرات السنين، ولكن الطريقة التي يدير بها الاحتلال أوضاع العراق أدخلت هذا البلد في النفق الأمني المظلم الذي يحصد أرواح مئات الألوف من الشعب العراقي، من دون أن تحرك هذه القوات الاحتلالية أيّ جهد في هذا الاتجاه، لأن أمريكا تريد البقاء طويلاً في العراق، مما يجعل من الانفلات الأمني مبرراً لها للبقاء؟!
ويتحدث الرئيس الأمريكي عن الديمقراطية في العراق، ولكن الجميع يعرف ـ حتى البرلمان العراقي والحكومة العراقية ـ أن قوات الاحتلال لا تسمح للمسؤولين في العراق بأية حرية في أية مبادرة مستقلة، أو بإدارة الوضع الاقتصادي بشكل فاعل لحل المشكلة الإنسانية والخدماتية للشعب، بل إن بعض الشركات الأمريكية قامت بنهب الثروة العراقية من خلال مشاريع وهمية.
ثم، ألا يتساءل هذا الرئيس: لماذا تقوم المقاومة العراقية بمحاربة احتلاله، ألا يجد في ذلك دليلاً على أن هناك حركة لاسترداد الشعب حريته؟ وإذا كان هناك إرهابيون من التكفيريين ممن يقومون بالمجازر على أساس مذهبي، فإن ذلك كان من خلال "الفوضى البنّاءة" السياسية والأمنية التي بشّر بها الرئيس بوش.. إننا نتفق معه أن هناك حرباً بين الحرية والإرهاب، ولكنها حرية الشعب في تقرير مصيره وإرهاب الاحتلال في مصادرة حرية هذا الشعب.
أما في لبنان، فلم تكن الديمقراطية فيه هبة من الرئيس الأمريكي في برنامجه، بل إن الديمقراطية في هذا البلد تمتد منذ ما بعد الاستقلال، ولم تكن الحرية التي يتحرك بها الشعب اللبناني في الفكر والإعلام والسياسة توجيهاً أمريكياً، ولكن اللبنانيين يمارسون ذلك كله بإرادتهم الحرة، وإذا كانت هناك بعض الثغرات التي انفتحت في الجدار اللبناني مما عانى منه اللبنانيون، فقد كان ذلك من خلال العبث السياسي الذي قامت به الدول الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا، لتنفيذ سياستها في المنطقة من خلال اعتبار لبنان ساحة لذلك، ومن خلال الإرهاب السياسي الأمني الإسرائيلي الذي قام بتدمير لبنان لأكثر من مرة، وبموافقة من أمريكا وتأييدها ومساعدتها.
وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن أن لبنان هو "مسرح النشاط الإرهابي الأكثر عنفاً"، فإننا نوافقه على ذلك، ولكن الإرهاب هو الذي انطلق من خلال إرهاب الدولة الذي مارسته أمريكا سياسياً في خطتها المتوافقة مع خطة إسرائيل، في إنضاج مشروع الشرق الأوسط الجديد على نار حارة يحترق في لهيبها اللبنانيون، بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم، وتحترق معهم كل بنيته التحتية في عملية تدمير شاملة لم يسبق لها مثيل، مما كان الرئيس الأمريكي يعيش معه الفرح النفسي والسياسي في نجاح مشروع الإبادة للبنانيين، كعقاب لهم على إيمانهم بالحرية في رفض الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الاستكبارية الأمريكية.
إنه يتحدث عن الحرية للعراقيين واللبنانيين، ولكن الشعوب تتحدث عن الإرهاب الأمريكي المتحالف مع الإرهاب الإسرائيلي ومع كل قوى الاستكبار العالمي ـ بما فيه الاتحاد الأوروبي ـ التي وقفت مع عملية التدمير والإبادة للبنان وفلسطين، حتى أن الأمم المتحدة لم تستطع ـ بضغط من هؤلاء ـ أن تقرر وقف إطلاق النار، بل تركت المسألة خاضعة للغموض اللفظي الذي يُراد له أن يخضع في تفسيره وتأويله لمصلحة إسرائيل.
أيها الرئيس: لقد خرجت من التاريخ مطروداً، ومصحوباً باللعنات، وقد عملت بكل سياستك ـ مع إدارتك ـ على أن تعمّق الكراهة لأمريكا، لأنك سقطت تحت تأثير إسرائيل لتكون خاضعاً للصهيونية من خلال الذين يحيطون بك.. إنك تملك بكل قوتك الهائلة أن تدمّر لبنان، وتقتل شعوبنا، ولكنك لن تستطيع أن تدمِّر إرادتنا الحرّة في الحرية والعزة، وفي الرفض لكل سياستك وسياسة أحلافك الاستكبارية..
وسيبقى لبنان البلد الرافض للاستكبار والمستكبرين، وستبقى المقاومة حركة حرية وانفتاح على الإنسان كله، وعلى الخير كله، ضد محور الشر الأمريكي.