بيروت ـ باسمة عطوي
إذا كان اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري أدى في ما أدى إليه إلى إجماع العدد الأكبر من اللبنانيين على حدٍّ أدنى من الاتفاق السياسي في ما يختص بمسائل البلاد الداخلية.
فإن تحول المرجعيات الدينية إلى العمل السياسي لم يكن مرة أوضح مما هو اليوم. ففي وقت تلتقي هذه المرجعيات في العلن على ما قد يسميه البعض «نهائية لبنان العربي ووحدة كيانه»، يبقى الخلاف المستتر قائماً على تصنيف الوضع الداخلي المتفجر وتحديد أفقه المقبل، أكان من باب اتفاق «الطائف» أم لجهة قرار مجلس الأمن رقم 1559.
وبانتظار ما قد تسفر عنه المشاورات التي وعد رئيس الحكومة المكلف عمر كرامي أن تشمل أطراف المعارضة والموالاة والمراجع السياسية والدينية على اختلافها، تبقى بلورة المشهد السياسي اللبناني معلقة ومفتوحة على الاحتمالات كافة.
فبينما يرى مطران الروم الأرثوذكس لمحافظة جبل لبنان جورج خضر أن الخلاف «نتاج اللعبة السياسية الداخلية»، خصوصاً في الأوساط الإسلامية، ينتقد المرجع الشيعي العلامة محمد حسين فضل الله الأحزاب التي «تختزن بعداً طائفياً في شعور بعض الفئات بالإحباط مقابل شعور فئات أخرى بالحرمان سابقاً».
أما مفتي محافظة البقاع للطائفة السنية الشيخ خليل الميس، فيحمل بدوره على ديمقراطية هي «خليط من المفاهيم الدينية والوطنية»، داعياً إلى تحديد مفهوم الوطنية بذاته.«البيان» التقت المرجعيات الثلاث وكان الحوار التالي :
فضـل اللـه:
يرى المرجع السيد محمد حسين فضل الله، أن التطورات الأخيرة التي شهدها لبنان بعد اغتيال الحريري قد تحمل في طيّاتها نوعاً من التجاذب الطائفي والسياسي، إلا أن هذه المسألة أخذت بعد التطورات الأخيرة على حد قوله: «بعداً سياسياً ينفتح على أبعاد علاقات إقليمية أو دولية في تأثر بعض التيارات السياسية اللبنانية بالواقع الدولي، سواء من خلال البعد التاريخي لعلاقات هذه التيارات في بعض المواقع الدولية، أو من خلال الاستفادة من هذا الموقع أو ذاك في تطلعاتها في الجانب المحلي».
وبالتالي، فإن المسألة «قد تحمل في داخلها بعض هذا التجاذب الطائفي والسياسي على المستوى الإقليمي أو الدولي، لأنه من الصعب جداً فصل أي تحرك لبناني عن العمق الطائفي في ما يختزنه الطائفيون، وعن الامتداد الإقليمي أو الدولي في ما يختلفون عليه».
ويتابع: «كان خطابنا الديني المنفتح على الخطوط السياسية، خطاباً شاملاً لكل اللبنانيين لأننا نحترم التنوعات الدينية والثقافية والسياسية لدى الشعب اللبناني ككل شعوب المنطقة، لكننا نعتقد انه يمكن للبنانيين أن يعيشوا هذه الوحدة في التنوع. فنحن كنا ولم نزل ندعو إلى أن تحل شخصية المواطنة محل شخصية الطائفة، ليعيش اللبناني في انتمائه إلى هذا الوطن شخصية المواطن الذي يلتقي بالمواطن الآخر بعيداً عن انتمائه الطائفي».
لكن هل تنفصل الطائفة الشيعية عن الواقع اللبناني تحديداً؟ يجيب «نحن كمرجعية دينية لم ننفصل عن الواقع اللبناني والعربي والإسلامي، لأننا نتحرك من إلى الجانب الإنساني العام، من الجانب المحلي والإقليمي، وقد حاولنا أن نلتقي بكل الأطياف المتنوعة في لبنان، سواء على المستوى الحزبي أو على مستوى ما يسمى المعارضة والموالاة واليمين واليسار أو التيارات الدينية، وكنا نعمل على التواصل بين الأطياف، على أساس تركيز القاعدة الواحدة: المواطنة المتنوعة الخطوط، والتي تلتقي على القضايا الواحدة في لبنان في الأمور الحيوية والمصيرية».
إلى ذلك، يربط فضل الله الوضع القائم محلياً بالاهتزازات التي تشهدها المنطقة، سواء على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، أو على مستوى الأوضاع في العراق وأفغانستان.
اغتيال الحريري رفع الصوت
وعن عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يقول السيد فضل الله «هذه المسألة الصعبة يمكن أن تطل على أكثر من خلفية سياسية. فمستوى الأمن الذي وصل إليه لبنان، قد لا ترتاح إليه إسرائيل، وهي تريد من خلال زعزعة الأمن خلط الأوراق في لبنان، ليعيش حالةً من الاهتزاز الأمني، وهذا السبب الذي يجعل الإنسان يفكر بأن الإسرائيليين كانوا وراء ذلك».
ويضيف: «ربما يفكر بعض الناس أيضاً بشخصية الحريري وامتداداته الإقليمية والدولية، ما يجعل أكثر من فريق يتأثر بحركته هنا وهناك، هذا إضافةً إلى ما يُراد للمنطقة، من خلال حركة الولايات المتحدة، من إثارة الاهتزاز فيها على أكثر من صعيد، ما يجعل الإنسان يشعر بأن هناك خلفيات دولية وإقليمية يمكن أن تكون وراء هذا الحدث المأساوي».
وينتقد السيد فضل الله مشاركة عدد من الأحزاب بالتظاهرات والاعتصامات المعارضة التي تلت اغتيال الحريري، رافضاً في الوقت ذاته الحديث عن إحباط طائفة على حساب أخرى. ويشير في هذا المجال إلى وجود «احتقان عميق جداً يرجع إلى عشرات السنين داخل الأحزاب اللبنانية، ولا سيما تلك التي تختزن بعداً طائفياً في شعور بعض الفئات في لبنان بالإحباط، مقابل شعور فئات أخرى سابقاً بالحرمان، الأمر الذي جعل التطورات الأخيرة من خلال هذا الحدث الكبير، فرصة للتنفيس وإثبات الوجود، ولا سيما أن التدخلات الدولية أوجدت مناخاً جديداً يملك فيه اللبنانيون القدرة على الصراخ السياسي بصوت عال».
ويتابع: «لذلك، فإنّ اغتيال الحريري أوجد فرصة للاستفادة من هذا الموضوع سياسياً، من خلال فئات قليلة لا نجد في تاريخها احتراماً وتقديراً والتقاءً مع سياسة الراحل الكبير»، ويتّهم سماحة السيد هذه الفئات بالسعي إلى «استغلال الحادثة لتؤكد موقعها أو موقفها، أو لتصل إلى هدفها مما يسميه البعض الانقلاب الأبيض، ريثما تتحرك التطورات الدولية لفرض وضع جديد قد يستفيد منه هذا أو ذاك».
وعن فرض الحالة السياسية في لبنان اليوم نوعاً من العزلة على الطائفة الشيعية يردّ: «أن الشيعة يفكرون بالمواطنة في كل بلد يعيشون فيه، بحيث يتساوون مع المواطنين في الحقوق والواجبات. ولذلك فإننا نعتقد أن هذه الإثارة، عندما يتحدث البعض عن "هلال شيعي" أو "مشروع شيعي"، تختزن في داخلها سلبيات كبرى قد تكون طائفية عند الذين يرفضون الشيعة أو يكفرون الشيعة، أو لدى الذين لا يرتاحون للحالة الثورية التي تمثلت في الجمهورية الإسلامية في إيران، وفي المقاومة الإسلامية في لبنان.
حتى إننا فوجئنا بالرئيس (الفرنسي) جاك شيراك يقول إنه لا يثق بالشيعة بل بالسنة، وهو الرئيس العلماني الذي يتحدث بالجانب الطائفي في الدائرة الإسلامية في هذا المجال.
خضر: الكل متفق على انسحاب السوريين
من جهته، يشدد المطران جورج خضر على أن المرجعيات الروحية انضمت إلى المدنيين في موقعهم بعد اغتيال الحريري في المطالبة بخروج الجيش السوري، عملاً ببنود اتفاق الطائف أو بالقرار 1559. وفي ما يرفض تصنيف «حزب الله» من بين المنظمات الإرهابية أو وصفه بأنه «ميليشيا»، يشير في موقع آخر إلى أن الحزب وحركة «أمل» لا يمثلان بالضرورة كل الشيعة، رغم أن الخلاف الظاهر اليوم هو «نتاج اللعبة السياسية الداخلية».
ويقول: «بعد التحاق لقاء قرنة شهوان (المعارض) برئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط، وبوجود رموز إسلامية، بدا بوضوح أن الفرز على الساحة اللبنانية ليس طائفياً. فالمطالبة بجلاء القوات السورية لم تبق محصورة بطائفة واحدة، أو انقسام اللبنانيين بين متجرئين على دعوة القوات السورية للانسحاب وبين آخرين لم يقولوا شيئاً، فأنا شخصياً لا أجزم بأن الذين يسمون الموالين يرغبون ببقاء الجيش السوري إلى الأبد، غير أنهم ظهروا وكأنهم يفضِّلون إرجاء هذا الخروج».
ويلخّص المطران خضر نقاط الاختلاف والاتفاق بين الطوائف على الشكل الآتي: «بعد خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، وبعد التظاهرة التي جرت في ساحة رياض الصلح، بدا واضحاً أن اللبنانيين لهم مطلب واحد، ونقطة اللقاء في هذا المطلب أنهم جميعاً يضعون أنفسهم تحت سقف اتفاق الطائف».
ويشير إلى أنّ الخلاف حول انسحاب القوات السورية إلى البقاع وفق ما نص عليه الطائف، أو إلى ما وراء الحدود بحسب ما جاء في القرار 1559، يكمن «في التفاصيل وليس في المقولة السياسية. لذلك لا أرى بين الموالاة والمعارضة أيّ خلاف سوى في نقطة استقالة رؤساء الأجهزة الأمنية».
ويتابع: «منذ سنوات، لم ألق لبنانياً واحداً يرحِّب ببقاء القوات والأجهزة السورية في لبنان. إذاً في القلوب ليس من خلاف، كذلك في أحاديث المجالس المقفلة، ولكن الخلاف الظاهر اليوم هو نتاج اللعبة السياسية اللبنانية الداخلية، بمعنى أن الطائفة الشيعية ممثّلةً بحزب الله وحركة أمل ـ وهذا لا يدل على كل الشيعة ـ تبدو قوية جداً من حيث العدد والتنظيم والنبرة العالية، ولعل الشيعة يجدون في الرعاية السورية دعماً لطموح إلى تبوّؤ المراكز الأولى في الحكم عندما يستقيم الحال».
ويضيف: «المسيحيون الذين يتكلمون بصوت عال هم بالدرجة الأولى الموارنة الذين قال بطريركهم (نصرالله بطرس صفير) منذ سنوات بضرورة رحيل القوات السورية، مع التركيز الواضح والحاد على الأخوَّة التي تربطنا بالشعب والدولة السورية. واللبنانيون في هذه النقطة صادقون، سواء كانوا يحبون التحالف مع الجارة لقناعتهم، أو كانوا ينتظرون دعماً لطائفتهم، ولكن المسيحيين طبعاً بمعظمهم، التحقوا بالركب العربي بعد أن كانوا روّاده، ولا سيما بعد اتفاق الطائف، أي أن المسيحيين مقتنعون بأن المسلمين انضموا إلى لبنان. ومن هنا، فإنّ النـزاعات القديمة حول لبنانية هذا المواطن أو ذاك زالت تماماً».
ويشدِّد خضر على أنّه ما زال هناك تأثير سوري في لبنان رغم رحيل قواته العسكرية وأجهزة الاستخبارات، مؤكداً أن «جُل ما يطلبه اللبنانيون أن تُترك لهم إدارة بلادهم الداخلية، وتاريخنا منذ الاستقلال يدل على أننا لم نترك سوريا في خياراتها الخارجية، وهذا بطريقة أو بأخرى سيبقى، ولا سيما أن اللبنانيين ليس لديهم مصالح كبيرة في العالم، وما سيبقى حتماً هو وحدة المسار، إذا كان المراد بها ألاّ يتفرد لبنان بتوقيع معاهدة مع إسرائيل، وسنكون آخر الموقعين».
أما في الحديث عن القرار 1559، فيرى أن على لبنان الالتزام به، مشيراً إلى انه من حيث الهدف، لا يناقض اتفاق الطائف، ويتابع: «لكن ما نرفضه جميعاً، هو الحديث غير المباشر عن حزب الله بأنه حزب إرهابي، لأننا مقتنعون بأنه لم يثبت عليه أي إرهاب خارج حدود لبنان».
وأضاف: «الحزب قام بتحرك عسكري ضد العدو ولم يتجاوز وظيفة المقاومة، برضى الدولة والوجدان اللبناني بهذه الوظيفة. ولذلك نرفض اعتباره ميليشيا، أما بقاء سلاحه أو نزعه، فهو شأن لبناني داخلي يمكن النقاش فيه لاحقاً».
الميس: المشكلة في تحديد مفاهيم الوطنية
المشكلة بالنسبة إلى المفتي خليل الميس تكمن في تحديد مفاهيم الوطنية، وهو يبدي في الوقت ذاته أسفه لقيام بنية لبنان على أسس طائفية، ويشير في هذا الإطار إلى أن ما يحصل في لبنان اليوم يلغي الثوابت التي قام عليها النظام، وهو على حد قوله: «لغز يحتاج إلى تفسير».
كما يحمل بشدة على الساسة اللبنانيين الذين «يطالبون بديمقراطية هي خليط من المفاهيم الدينية والوطنية، ولهذا نجد أن الرئاسات الأولى الثلاث موزَّعة وفقاً للمعيار المذهبي، وكذلك المقاعد النيابية الموزعة وفقاً للمعيار الطائفي».
أما عن الخلاف في تحديد المفاهيم فيقول: «هناك اتفاق على نهائية لبنان كوطن، وهذا أمر جيد، لكن الخلاف بين اللبنانيين هو على مفهوم الوطنية، يعني أن مشكلة لبنان أنه قائم بغيره أكثر مما هو قائم بذاته، فدائماً يكون المواطن اللبناني على استعداد لان يرنو نحو الخارج، ولهذا السبب، ارتضت كل البلاد العربية بحدودها وشعبها إلى حد ما، أما في لبنان، فهناك طموح عجيب لدى اللبنانيين بأنهم أكبر من وطنهم».
ويضيف: «السياسي اللبناني لديه تطلّع دائم نحو الخارج، وهذه ثغرة في النظام اللبناني الذي لا يمنح اللبنانيين الشعور بالاكتفاء الذاتي سياسياً وديمقراطياً، لذا نراه دائماً يلجأ إلى البديل للحصول على هذا الاكتفاء».
ويتطرق الميس إلى النقص في القيادات السنية، مشدداً على ضرورة «الحفاظ على لبنان تحت شعار الولاء والوفاء، شرط ألا يكون أي من الشعارات على حساب الآخر»، مشيراً في الوقت ذاته إلى وجود أطراف «تنادي بالوفاء على حساب الولاء للوطن، وأطراف أخرى تنادي بالولاء للبنان على حساب الوفاء التاريخي لجيراننا،» ويشدّد على أن «ما تريده الطائفة السنية هو الولاء أولاً والوفاء ثانياً».
واعتبر أن «تهديد الطائفة السنية يعني تهديداً لكل لبنان، وغياب الحريري صدمة للبنان وليس للطائفة السنية فقط. أما التحدي الكبير، فهو في إيجاد شخصية سنيّة تعطي لبنان كما أعطاه الحريري، الذي كان سيغتال بسبب حجمه الدولي ونمطه في الأداء» لأي طائفة انتمى، «لأنه عنصر وطني يجمع كل الأطراف، وهذا ما يخيف الآخرين».
أما في ما يتعلق بفترة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان، فيعتقد الميس أن «عدم تطبيق اتفاق الطائف مسؤولية تقصيرية تقع على كل الحكومات المتعاقبة منذ أوائل التسعينات، والمعارضة اليوم تستقوي بالقرار 1559 لإضعاف سوريا»، مؤكداً أن «ضعفنا كلبنانيين يؤذي سوريا». وأضاف «إن السياسيين اللبنانيين يستقوون بالخارج لإثبات أنفسهم داخلياً، علماً أننا ننتمي إلى وطن وأمة، ولبنان يُعاقب بسبب عروبته ومقاومته، ولا يمكن فصل لبنان عن محيطه العربي، علماً أن بعض الأطراف تريد عزله عن هذا المحيط».
كما يلفت إلى دعوة قدَّمها إلى مجلس المفتين «لمطارحة ومصارحة، ولو بمجارحة، للوصول إلى خطوط عامة تحدِّد الصواب والخطأ في المسيرة التي يقوم بها الشارع السنيّ»، مشيراً إلى انه «لا نريد أن نلهب المعركة، ولكن في الوقت ذاته لا يجوز أن نغيب عنها».
وتحدَّث عن ضرورة «تصويب مسارها وتهدئتها وطمأنة الأطراف الأخرى»، مشدداً على ضرورة عقد قمة روحية لضبط الشارع وإراحة الناس، وعدم تكريس غلبة طائفة على أخرى.
مجلة البيان الإماراتية
بيروت 12 صفر 1426هـ الموافق 22 آذار- مارس 2005م