العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، يقرأ ويحلّل المتغيرات الاستراتيجية وانعكاساتها على الواقع العربي والإسلامي، ويصنف محطة تحرير الأسرى على أنها "تلقي الضوء على المستقبل" كرؤية جديدة للتعامل مع العدوّ الإسرائيلي.
يدعو فضل الله إلى الانفتاح على الساحة الشعبيّة والتحرك نحوها، لأنها تنبض بالحرية والحياة والعنفوان، ولا تزال تنادي بالحقوق العربية، بعكس الصمت السياسي المطبق للأنظمة العربية.
لا شك أن هناك هوّة واسعة بين الحكومات العربية وشعوبها، وهذه الهوّة لا تُردم إلا بمزيد من التناغم بين الخطاب الرسمي والتطلعات الشعبية.
الحديث مع السيد فضل الله يتوسع ويتشعب باتجاه مختلف القضايا والملفات الإقليمية والدولية.
تحرير الأسرى وعلاقته بالواقع اللبناني
س: بدايةً، سماحة السيد، كيف تقرأ عملية تحرير الأسرى، ومفاعيلها على الصعيد الوطني؟ وكيف السبيل لاستثمار هذه الخطوة على المستوى السياسي الداخلي؟
ـ في البداية، القراءة الاستراتيجية تُلقي الضوء على ما تختزنه هذه المسألة من عناصر مستقبلية، قد تخلق لنا رؤيةً جديدة للتعامل مع العدّو، امتداداً إلى أكثر من محور إقليمي ودولي في قضايا الساعة، باعتبار أن الفكرة التي لا يزال الإعلام يتداولها من خلال الأنظمة العربية، وربما بعض الأنظمة الإسلامية، تأتي تحت تعبير أن هناك عمقاً للهزيمة الواقعية أمام العدو، لأن العدو ـ بمقتضى هذه الفكرة ـ يملك ما لا نملك، فهو يملك أقوى سلاح في المنطقة، ويحظى بأقوى دعم في العالم، كون الدعم الأميركي له مطلق لا حدود له، بالإضافة إلى التفاصيل في خلفية الدعم الأوروبي له، والذي يخضع بطريقة أو بأخرى لأكثر من ضغط أميركي في المسألة الإسرائيلية، وإفادته من سيطرة اللوبيات اليهودية في أكثر من بلد أوروبي.
_ وإلى ماذ أدّى ذلك؟
ـ كانت الفكرة أنَّ العرب لن يستطيعوا الانتصار على إسرائيل، وحتى لو قُدر لهم أن ينتصروا، فإن هذا الانتصار سيتحوَّل إلى هزيمة، لذلك فإن التجربة التي قامت بها المقاومة في لبنان، أكَّدت من خلال مسألة تحرير الأرض أو تحرير الأسرى، أن هناك إمكانية للانتصار على العدوّ بالسلاح المتمثّل بالروح الاستشهادية، وذلك إذا أتقنّا استخدام حركة هذا السلاح؛ هذه الروح التي قد تفقدنا الكثير من الشباب، ولكن تربحنا العَّز والكرامة والحرية والأرض.
أما مسألة تحرير الأسرى، فإنها استطاعت أن تعطينا انتصاراً في السياسة، وأثبتت أن المقاومة تملك الرشد السياسي في التفاوض، وفي فهم نقاط ضعف العدو، فعندما كان الكثير منا يتحدث عن أن التحرير لا يستكمل إلا بتحرير الأسرى، لم يكن هناك أي أفق لهذا التحرير، عدا عن تعمّد الأسلوب الإسرئيلي، إذلال أي قوة عربية أو إسلامية في مثل هذه المسائل.
لهذا فإن اختطاف الجنود الإسرائيليين، استطاع أن يجعل كيان العدو يعيش مأزقاً داخلياً، استولد الكثير من الجدل السياسي والإعلامي، ووضع حكومته تحت ضغط قويّ، وهذا ما شكَّل ورقةً رابحةً للمقاومة، مكّنها من جرّ العدوّ إلى التفاوض، وإدارة هذا التفاوض بطريقة رشيدة ودقيقة جداً، حالت دون تمكين إسرائيل من ممارسة ضغوط تحويلية على مستوى اللعبة.
ـ هل ترون أن هذه الحالة المستجدّة ستساهم في بناء استراتيجية جديدة؟
ـ إن هذا الانتصار استطاع أن يرسم استراتيجية جديدة، باعتبار أن الواقع التقليدي الموجود في الساحة العربية، سواء على مستوى مسؤولي الأنظمة أو الإعلاميين والمحللين السياسيين، يعتبر أن المقاومة عبثية ولن تتمكن من الانتصار، وأن التطورات في العالم سوف تنعكس سلباً على المقاومة. فكانت عملية تحرير الأسرى التي أكدت المعادلة التي كنت أتحدث عنها منذ سنين، أن للضعيف نقاط قوة، وللقوي نقاط ضعف، فلنحارب القوي في نقاط ضعفه بنقاط قوتنا.
التأثير عربياً
ـ على الصعيد العملي، كيف السبيل إلى تطوير هذه المنهجية الجديدة على ضوء المعطيات السياسية الانهزامية في العالم العربي؟
ـ علينا، أولاً، أن ننفتح على الساحة الشعبية، لأنها لا تزال تحتفظ بالكثير من الكرامة والعزة والحرية، وهذا ما لحظناه بعد عملية إطلاق الأسرى، في مقابل صمت سياسي عربي على مستوى الأنظمة العربية، لكنهم كانوا يتحدثون بطريقة فيها شيء من الحياء والخجل.
ـ وكيف السبيل إلى التفاعل بين النخب السياسية والقاعدة الشعبية؟
أعتقد أنّ علينا أن نطوِّر دراستنا للواقع، وأن نقوم بحملة إعلامية تثقيفية للساحة الشعبية، لأن ثقافة القضية تتحرك في النخبة ولا تنـزل إلى الشارع العربي إلا على مستوى الشعارات، أما طبيعة عمق القضية وامتدادها ومشاكلها، فإن القيادات العربية لا تريد للشعب أن يعيشها. إنّنا نأخذ من العدوّ أن الشعب يستطيع أن يسقط الحكومة، وأن هذه الأخيرة تخاف من الشعب، ونعرف من العدوّ الصهيوني أن لا مقدس عندهم في أي قيادة، إنما المقدس مستقبل الشعب.
أمريكا رأس الإرهاب
ـ هناك نظرية غربية قد يكون شارك بن لادن في تثبيتها، مفادها أن العمل الاستشهادي هو عمل إرهابي، كيف يمكن مواجهة ذلك؟
ـ إن إثارة قضية الإرهاب هي مسألة مسيّسة وليست واقعية. إن جميع الحروب التي أقامتها أميركا كانت مخطّطة منذ بداية الثمانينات، وإن أميركا استفادت من أحداث 11 أيلول، واعتبرت أبطالها مسلمين من أجل الحملة ضد العرب، والحقيقة أن أميركا تعمل على صنع الطغاة والحروب لأهداف خاصة بها، فقد ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الأنظمة العربية في دعم الحرب ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ولا نزال نقرأ أن الإعلام الأميركي يتحدث عن المحاربين ضد الاتحاد السوفياتي بأنهم مجاهدون، إضافةً إلى أن كل ما حدث ويحدث في أفغانستان، ينطلق من خطة أميركية بطرق غير مباشرة، من خلال الدعم الباكستاني ودعم الدول البترولية، لتصنع واقعاً جديداً، يسمح لها بأن تقلبه، باعتبار أنه سوف يؤدي إلى الكثير من السلبيات في تلك المنطقة، فقد عملت أميركا على تهيئة الظروف لتسيطر على أفغانستان كمدخل للسيطرة على المنطقة، منتظرةً الوقت المناسب الذي يسمح لها بذلك، ولينطلق الشعب الأميركي لدعم إداراته في هذا المجال أيضاً.
وسوف يظهر المستقبل الكثير من الأسرار حول أحداث 11 أيلول، وعلاقة اليهود بها، وكذلك الاستخبارات الأميركية التي كان بإمكانها أن تمنع حصول الكارثة ولم تفعل. وحرب العراق أيضاً جرت بتخطيط أميركي مسبق، فحاكم العراق كان موظفاً لدى الاستخبارات المركزية الأميركية، كما كان أداةً بيدها للحرب ضد إيران، وكذلك هيّأته لاحتلال الكويت وإثارة الحرب، ولتشرّع لنفسها إقامة قواعد عسكرية أميركية في المنطقة، ولتبقيه بحاجة إليها لتقضي من خلاله على الانتفاضة العراقية بعد حرب الكويت.
ـ ما هي أبرز الاستهدافات الأميركية من كل ذلك؟
ـ تريد أميركا أن تخلق لنفسها مناخاً عالمياً يسمح لها في التدخّل في كل بلد عربي يحاول بدوره أن يبرّىء نفسه من هذه التهمة الأميركية. وهذا ينطبق على مسألة الإرهاب، فأميركا ضد أي قوة تهدد مصالحها في العالم، وإذا كانت تعتبر أن ضرورات الحرب قد دعتها إلى إلقاء قنبلة على هيروشيما، فإن المجاهدين الفلسطينيين قد دعتهم ضرورات الحرب إلى العمليات الاستشهادية، بعد أن حاصرتهم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً. إنّ علينا مواجهة الأفكار التي تتحدث عن "لا أخلاقية" و"لا شرعية" الأعمال الاستشهادية.
ولماذا لا يتحدث المحلّلون السياسيون التجريديون عن الطائرات التي تقصف وتقتل الأبرياء لتغتال شخصاً"مطلوباً"؟! وما علاقة هذه الحرب بتجريف المزارع ومنع الفلسطيني من تحصيل قوته؟!
في القضية الفلسطينية
ـ من هنا، في أي اتجاه تتحرك القضية الفلسطينية؟
ـ لا أعتقد أنها تتحرك نحو السقوط، أما بالنسبة لقضية الخلاف بين السلطة والانتفاضة، فهي لن تبلغ الخطوط الحمراء، لأن السلطة تعرف أن العمل ضد المقاومة سوف يسقطها، هذا وقد استطاعت المقاومة أن تتجذّر داخل الشعب الفلسطيني، بحيث نسمع أن حركة حماس تتقدم على السلطة في شعبيتها.
واقع العراق
ـ هل يسير العراق نحو التفتيت؟
ـ العراق بتصوري، وبحسب طبيعة المعطيات، لن يقسَّم بالرغم من وجود إثارةٍ للفتنة بين السنّة والشيعة، وبين التركمان والآشوريين والعرب والأكراد، وبعض المشاكل الإقليمية، لكنَّ العراق لن يفقد وحدته لأنها متجذّرة، فالسنة والشيعة لا يريدون إقامة دولة مستقلّة كلّ على حدة، والجدل هو حول طبيعة التمثيل والأكثرية والأقلية.
أجرى المقابلة رامي الريّس
مجلة "الأنباء" الخميس: 12 شباط 2004 - العدد 1520