ما هي خلفيات حدث 11 سبتمبر (أيلول) الموجّه ميدانياً ضد أميركا، هل هي خلفيات إسلامية في المطلق، وما هي المؤثرات الثقافية أو الأمنية في حدوثها، ومن هي الجهة التي تختفي وراءها بشكل غير مباشر، إذا كانت الجهة الإسلامية تنفذها بشكل مباشر، ولماذا لم تبادر أميركا إلى القيام بعملية قضائية مستقلة ونزيهة دقيقة لتحديد الجهة التي تقف وراءها، ولماذا أهملت المعلومات التي تحدثت عن اليهود الذين كانوا على علم بها، قبل وقوعها، مما أدى إلى إعلام الموظفين اليهود بعدم التوجه إلى مركز التجارة العالمي في موعد الحدث، وكيف طوي هذا الأمر بسرعة، في الوقت الذي لا يزال التحقيق حول تقصير هنا أو هناك مما قد لا ينتهي إلى نتيجة؟
ربما كان من الممكن أن يكون للعناصر الإسلامية دور التخطيط والتنفيذ، من خلال اتهام القاعدة وأدواتها بفعل الإعلام المتحرك في هذا الاتجاه، والملاحقة لعناصرها في أكثر من موقع بعد الهجوم على أفغانستان. ولكن السؤال: ما هو السبب في هذه الحركة من قبل هؤلاء الذين كانوا يتعاونون تعاوناً مباشراً مع أميركا على جميع المستويات، في مرحلة احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي، وكان الإعلام الأميركي يصفهم بالمجاهدين، وكانت الأجهزة الأميركية تستنفر كل حلفائها وأصدقائها وعملائها في العالم لمساعدتهم مادياً وإعلامياً وسياسياً؟
الجهاد تغيير المعنى
لقد كانت كلمة الجهاد بمفهومها الفقهي تدفع كل هؤلاء إلى محاربة الكافرين الظالمين، المهيمنين على بلاد المسلمين وعلى مقدراتهم، وهذا هو العنوان الذي تحركوا من خلاله في مواجهة السوفيات، وهذا هو العنوان الذي استخدمه الأميركيون لإثارة الحماس في خط المواجهة لأنهم، أي الأميركيين، كانوا يثيرون العصبية الدينية في محاربة السوفيات ليزداد المسلمون المجاهدون حماساً في القتال. وهكذا تجذرت هذه الثقافة الجهادية في وجدانهم المنفتح على قتال الكافر.
ثم تحررت أفغانستان من الاحتلال، وحلت مكانها أميركا وفريقها في تلك المنطقة وفي المناطق الأخرى، وبدأت المعلومات الدينية في أكثر من حديث في الحث على إخراج المشركين من جزيرة العرب، وكما في المسألة الفلسطينية، وفي عناوين إسلامية أخرى تنفتح على واقع المسلمين المأساوي في البوسنة والهرسك وغيرهما. وكان للثقافة الطالبانية في أفغانستان دورها في ذلك بطريقة ضبابية، تعتمد الفتاوى الدينية، التي قد يملك أصحابها إخلاصاً ولكنهم لا يملكون وعياً سياسياً للواقع.
وكانت أحداث سبتمبر هي النتاج الكبير لهذه التراكمات الثقافية، بالأساليب والوسائل التي كانت قد انتشرت في حركة التفجيرات الاستشهادية، التي تدفع الإنسان من خلال حالة روحية عميقة إلى الاستشهاد الجهادي الذي يختصر الطريق إلى الجنة.
شعارات الحرب النفسية
واهتزت الدنيا بالحدث، الذي واجهت فيه أميركا أول مواجهة، تتحدى عنفوانها المنفتح على موقعها القيادي كأقوى سلطة في العالم... وبدأ التفكير في رد الفعل النفسي الذي سيطر على كل دول العالم، بما فيها دول الشرق الأوسط، في عملية تأييد ودعم وتعاطف مع أميركا. وفكر القائمون على الإدارة الأميركية في خطة عسكرية تجتذب المسألة النفسية، بما يحقق الصدمة الحادة التي تستعيد فيها عنفوانها الكبريائي. وكانت أفغانستان هي الضحية الأولى في حربها الجديدة، باعتبارها مركز القاعدة، إضافة إلى وجود أكثر من عنصر في إسقاط حكومتها التي قدمت صورة مشوهة عن الإسلام، وإدارة شؤون شعبها، الذي أدخلته إلى مرحلة القرون الوسطى.
ولم تقتصر أميركا على قوتها العسكرية، بل أدخلت حلف الأطلسي بكل قواته في المعركة، واعتقلت الكثير من المتهمين بالانتماء للقاعدة بشكل عشوائي بعد إسقاطها لحكومة طالبان، ولا تزال اللعبة مستمرة هناك تحت عناوين جديدة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، والأمن والرخاء للشعب الأفغاني، الذي لا يزال يتخبط في قلب المعاناة المتنوعة.
وكان شعار الحرب ضد الإرهاب هو شعار الحرب العالمية الثالثة، التي اجتذبت كل دول العالم الكبيرة والصغيرة. وكان المسلمون هم الهدف الاستراتيجي لهذه الحرب، ليكونوا الضحايا لها في إرباك أمنهم والسيطرة على اقتصادهم وتدمير سياستهم ومحاربة ثقافتهم، وفرض الإصلاح الأميركي على أوضاعهم، تحت تأثير الفكرة بأن ذلك كله سوف يمنعهم من العبث بأمن العالم، وإنتاج أجيال إرهابية جديدة بفعل الثقافة المتشددة التي تدفعهم إلى المواجهة ضد مصالح الدول الكبرى ولاسيما أميركا. وهكذا رأينا كيف فرضت أميركا ومعها حلفاؤها الإرباك الأمني على المسلمين، وسلطت أنظمتهم على محاصرة كل المعارضين للسياسة الأميركية وكل المعترضين على خططها الاستكبارية، حتى عاد العالم الإسلامي ساحة للفوضى الأمنية التي تجاوزت المواجهة من خط الخارج، إلى خط الداخل، في تفجيرات وحشية لا إنسانية، تحت تأثير الفوضى النفسية والأمنية من خلال فتاوى غير شرعية. وبهذا عاش المسلمون في مجتمعاتها في حالة اهتزاز امني وتعقيد ثقافي واتجاه تكفيري يستحل فيه المسلم دم أخيه المسلم، كما يستحل دم المستأمن والمعاهد. أن القضية كلها من تأثير الخطة الإرهابية الأميركية في عملية الحرب ضد الإرهاب كما تسميها.
وامتدت المسألة في خطورتها إلى الخطة الأميركية الإسرائيلية باعتبار المسألة الفلسطينية في حركة المقاومة الفلسطينية في أوضاع الانتفاضة حركة إرهابية لا بد من أن تخضع لخطة الحرب على الإرهاب، فتكون إسرائيل في موقع الضحية للإرهاب التي تدافع عن نفسها، بينما يكون رجال الانتفاضة في الموقع الإرهابي، في الوقت الذي يعرف الجميع أن حركة الانتفاضة هي حركة تحرير لا حركة إرهاب، وأنّ الفلسطينيين هم الذين يحاربون الإرهاب الصهيوني، ويدافعون عن أنفسهم. ولكن الإدارة الأميركية لم توافق على تحديد مفهوم الإرهاب، لأن ذلك يخالف خطتها المرسومة في دعم إسرائيل، على حساب العرب والمسلمين كلهم.
ولم تكتف أميركا بذلك كله، بل أطلقت شعاراً جديداً، وهو الحرب ضد أسلحة الدمار الشامل باعتبار خطرها على الأمن الأميركي وعلى العالم، ولا سيما إذا حصلت عليه الدول التي تعتبرها أميركا محور الشر، باعتبارها تمثل التهديد الإرهابي للعالم. وقد كان ذلك وسيلة لتحقيق الخطة التي أرادت من خلالها إعلان الحروب الإستباقية، وكان العراق الضحية الأولى لهذا الاتهام، ودخلت الأمم المتحدة للتفتيش عن هذه الأسلحة ولم تستطع الوصول إلى تأكيد ذلك. ولم تسمح للأمم المتحدة استكمال البحث لأنها كانت قد قررت احتلال العراق بهذه الحجة، ما أدى إلى إرباك الواقع الدولي حول هذا الموضوع، لأن القضية لدى أميركا هي السيطرة على المنطقة كلها، من خلال حرب العراق، ليكون جسراً تعبر عليه للمنطقة لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وتغييرها للمستقبل الذي تريد أن تصنعه في كلمات الحق التي يراد بها باطل. وما زالت تتخبط في الرمال المتحركة العراقية التي أغرقت جنودها بأكثر من مقاومة اعتراضية، بحيث أصبحت تدافع الآن عن أمن جنودها لا عن أمن الشعب العراقي، الذي لا يزال يتخبط في حالات الانهيار الأمني، والذي لم يحقق له الاحتلال أي عملية إنقاذية حسب الوعود التي أعطاها لهذا الشعب. وهكذا رأيناها تقفز إلى دول الجوار العراقي باتهامات ظالمة بأسلحة الدمار الشامل، وبتهديدات بالحرب أو بالحصار أو العقوبات الاقتصادية.
التوظيف الأمريكي للحدث
ولا تزال أميركا تنتقل من حرب عسكرية إلى حرب سياسية واقتصادية، لتستغل أحداث 11 سبتمبر التي توحي لها بالمظلومية في الوضع الأميركي الداخلي، لتخويف مواطنيها، ولاستخدام ذلك في حملة الانتخابات الرئاسية ولفرض القوانين الضاغطة على العرب والمسلمين من مواطنيها، بلحاظ الخوف من تهديدهم للأمن الأميركي.
إننا نلاحظ أمام تداعيات أحداث 11 سبتمبر أن المسلمين، لو كانوا وراء هذه الأحداث على صعيد الخطة والتنفيذ، فهم لم يستفيدوا شيئاً، بل أنهم واجهوا أكثر المشاكل صعوبة على مستوى اقتصادهم وسياساتهم وأمنهم وثقافتهم، وان أميركا هي المستفيدة استراتيجياً وتكتيكياً منها، بحيث لو صرفت عشرات المليارات من الدولارات لتصل إلى هذه المكاسب التي حصلت عليها، لما وصلت إلى ذلك. ولذا فإن على القائمين على الشؤون الإسلامية في العالم الإسلامي، أن يدرسوا الأسباب الواقعية، ولا سيما الثقافية، في التصورات الخاطئة والأساليب المتشددة المتعصبة، ليعالجوها بالوسائل الحكيمة التي قد تعنف في موقع وترق في موقع آخر. وان يعيدوا النظر في نقاط الضعف التي يختزنها الواقع الإسلامي على مستوى الصدمة التي تهز الأرض من أعماقها، لإنتاج بذور الخير بدلا من بذور الشر، وفي القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية على أساس الحاجات الذاتية الطبيعية، لا على أساس المطالبات الإصلاحية الخارجية، ثم البحث في الطريقة المثلى لتكامل القضايا الإسلامية، ولا سيما قضية التحرير والتخفيف من الضغوط الخارجية، وإبعاد الواقع كله عن حركة الإرهاب كله، لمصلحة المسلمين لا لمصلحة الدول الإرهابية من المستكبرين.
وإذا كانت أميركا تنادي بالإصلاح السياسي في الواقع الإسلامي، فعلينا أن نطالبها بإصلاح سياستها الخارجية والأمنية والاقتصادية لتكون صديقة للشعوب، لا عدوة لها، لأن استمرارها في مسلسل العنف والاحتلال ومعاداة القضايا العربية والإسلامية، لحساب حلفها الاستراتيجي مع إسرائيل، قد يخلق أكثر من 11 سبتمبر على مستوى الحرب الفكرية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن الحرب الأمنية. أن الشعوب قد تستسلم للضغوط طويلاً، ولكن حذراً من صحوتها من رد الفعل بقوة.
جريدة الشرق الأوسط "لندن":26 رجب 1425هـ الموافق 11 أيلول - سبتمبر 2004م