رأى العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أن كلّ الفرقاء العراقيين يفهمون أن الحرب الأهلية إذا ما حدثت في العراق، فإنها ستسقط الهيكل على رؤوس الجميع، ودعا من جهة أخرى الانتفاضة الفلسطينية إلى إجراء مراجعة لمسيرتها وحساباتها وإعادة دراسة وسائلها ونظرتها للمستقبل، لأنّ الحرب، التي لم تعد تقتصر على الداخل الفلسطيني، بل تمتد لتشمل العالم كله، باتت حرباً سياسية وأمنية وعسكرية وثقافية. ولبنانياً، استبعد فضل الله أيّ فرصة في المستقبل المنظور لأي وضع أمني متدهور بشكل شامل كالذي شهده لبنان سابقاً، "لكن بعض الاهتزازات والإرباكات السياسية أمر وارد"، كما قال، مؤكِّداً أن جميع اللبنانيين هم ضد أي اختراق للسلم الأهلي. "الخليج" التقت السيد فضل الله في منـزله في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان لها معه هذا الحوار.
* البعض يعتبر أن الأمة تنتقل من هزيمة إلى هزيمة بعد 11 أيلول/سبتمبر، لأن كل التطورات التي جاءت بعد ذلك التاريخ صبّت في مصلحة "إسرائيل"، فهل توافقون على هذه النظرية؟ وما السبيل للخروج من هذه الدوامة؟
ـ أنا لا أوافق على دقة هذه النظرة، لأن الأمة لم تُهزم، ربما الذي هُزم هو الأنظمة المشرفة على مقدرات الأمة والتي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالذين يعملون على هزيمة الأمة وإسقاطها ومصادرة ثرواتها وسياساتها وثقافاتها وغير ذلك.
لهذا فإننا عندما ندرس الأمة في الشعب الفلسطيني أو الأفغاني أو العراقي أو في أماكن كثيرة في العالم، وندرس كل هذا الرفض السياسي الذي ينتشر في كل مواقع الأمة دون أن يسقط أمام التحديات السياسية، فإننا نجد أن الأمة بحسب ظروفها لا تزال بخير. ولهذا فإن مثل هذه الانطلاقات هنا وهناك يمكن أن تتوسع وتكبر، ويمكن أن تسقط الكثير من الذين فرضوا أنفسهم على الأمة أو فرضتهم بعض نقاط الضعف في الأمة، أو فرضهم المستكبرون الذين يريدون إسقاط الأمة، فهؤلاء لا يمثّلون الخلود، بل يمكن أن يتساقطوا كما تساقط غيرهم. والآية الكريمة: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، ونحن نعرف كيف كانت أمريكا مستعمرة، وكيف كانت الصين مستعمرة لبريطانيا، وكيف كانت بريطانيا سيدة البحار وهكذا نلاحظ أن الأمم تتبادل مواقع الضعف والقوة.
إنّ علينا العمل للاستزادة من مواقع القوة ومحاولة تحويل نقاط الضعف إلى قوة بما تختزنه في داخلها من عناصر تؤكد روحية الأمة. إننا نتصور أن المسألة لا تستدعي هذا اليأس، فالله يقول: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، وإذا كان اليأس نتيجة الآلام والجراحات، فالله تعالى يقول: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}، ويقول سبحانه: {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}. لذلك فإننا نعتقد أن القيمة الكبرى هي الصبر الذي يتحول إلى صمود، والإرادة التي تتحول إلى حركة، والتطلع للمستقبل الذي يجعل الإنسان قوياً وثابتاً في الحاضر.
المشروع الأمريكي "الإسرائيلي"
* هل تلاحظون قاسماً مشتركاً بين المجازر في العراق وحروب المدن وما يجري في غزة؟ وهل ثمة مشروع أمريكي "إسرائيلي" مشترك على مستوى المنطقة؟
ـ إن أمريكا و"إسرائيل" تمثلان موقعاً واحداً، وذهنية واحدة، وحلفاً قوياً، وهكذا نلاحظ كيف أن أمريكا تقدم كل عناصر القوة والدعم لـ"إسرائيل" على المستوى العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي، بينما نجد "إسرائيل" تقدِّم كلَّ العون الأمني والعسكري لأمريكا في العراق، وتعبثان معاً في حركة الواقع السياسي العربي والإسلامي هنا وهناك، ولذلك نعتبر أن الوسائل التي تستخدمها "إسرائيل" في المدن والمخيّمات الفلسطينية والمجازر وتدمير البيوت، هي نفسها التي يقوم بها الجيش الأمريكي وحلفاؤه في العراق، ولكن المشكلة في العراق تكمن في وجود جماعة من التكفيريين الذين يسيئون إلى نظافة المقاومة، وذلك عندما يستخدمون عصبياتهم المذهبية في قتل النفس والناس الأبرياء بحسب ما يختزنونه من ذهنية التكفير والتضليل.
إننا نعتبر أن العالم في هذه المرحلة يواجه أكبر خطر في التحالف الأمريكي "الإسرائيلي"، والقضية لا تختص بالشعوب العربية والإسلامية، لكنّها تمتد إلى العالم كله، لأن أمريكا ومعها ربيبتها "إسرائيل"، تعملان على إضعاف كل مواقع القوة لدى الدول، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والروسي والصين وغيرها. إنهم لا يستخدمون نفس وسائلهم مع العالم الثالث، ولكن لكل موقع دولي وسيلة معينة يعملون على إضعافه، والقضية كلها هي كيف نعمل على مواجهة القوي في نقاط ضعفه بنقاط قوتنا، لأن ذلك هو الذي تنتصر فيه الشعوب وتبلغ بعض أهدافها في الطريق إلى بلوغ الأهداف كلها.
* هل تتخوفون من حدوث حرب أهلية في العراق؟
ـ أتصور أن كلمة حرب أهلية كبيرة عندما نتحدث عن الأوضاع السياسية في العراق، ولكنها قد تخلق إرباكاً هنا وهناك، وأتصوّر أن كل الفرقاء من العراقيين يفهمون أن الحرب الأهلية إذا حدثت في العراق، فإنها ستسقط الهيكل على رؤوس الجميع، ولذا فإن هذا يمنح الواقع بعضاً من التوازن.
الانتفاضة ومراجعة الأسلوب
* يتحدث البعض عن أن أربع سنوات مرّت من عمر الانتفاضة، وأنّه لا بد من مراجعة جذرية في أسلوبها وعملها..
ـ في كل خطوة تخطوها الانتفاضة هناك حاجة للمراجعة، لأن الانتفاضة تواجه الاستكبار الأمريكي ومعه كل المؤيدين لأمريكا والمتحالفين معها في ما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط، كما إن "إسرائيل" تملك الكثير من الخبرات العلمية والخبرات السياسية وتملك أصول اللعبة، ونعلم أنها دولة كبرى على مستوى القوة العسكرية والأمنية، ولهذا فإن على الفلسطينيين من رجال الانتفاضة أو السلطة إذا أخلصت لحركتها في مواجهة الاحتلال، أن يراجعوا حساباتهم وأن يدرسوا وسائلهم وأساليبهم ونظرتهم إلى المستقبل في كل خطوة من الخطوات التي يتحركون فيها، لأن الحرب لم تعد مجرد حرب سلاح أو صواريخ أو عبوات، وإنما صارت سياسية وأمنية وعسكرية وثقافية لا تقتصر على الواقع الداخلي لفلسطين، بل تمتدّ إلى العالم كله في كل موقع من المواقع التي لها علاقة بالقضية الفلسطينية، ولا بد أن نلاحظ كيف نخوض الصراع الثقافي والديني بالنسبة إلى ما يثيره اليهود من تاريخية الحق اليهودي في فلسطين، أو من العنصر الديني مقارناً بالواقع التاريخي الإسلامي الذي يعتبر فلسطين وقفا إسلامياً، كما يعتبرها اليهود وقفاً يهودياً، كما يزعم اليهود.
إننا نعتبر أن القضية متعددة الأبعاد والوسائل والحركة.
* الاختراقات "الإسرائيلية" الأخيرة في سوريا (اغتيال أحد قادة حماس) وحتى في لبنان، هل تعتبرونها إشارة لاختلال ميزان القوى حتى على المستوى الأمني؟
ـ أتصوّر أن "إسرائيل" تحاول القيام ببعض الاختراقات الصوتية من أجل أن توحي لليهود في داخل فلسطين، ولا سيما الليكود، أنها تملك القدرة على أن تتجاوز الواقع الخاص بالانتفاضة في فلسطين لتمتد في محاربتها إلى أكثر من بلد، دون أن يملك هذا البلد أو ذاك من البلاد العربية أن يرد عليها نتيجة الضغوط والظروف السياسية الحادة التي تحيط بالمنطقة بفعل الوجود الأمريكي وموقفه من سوريا أو من أي بلد آخر. ولكني أعتقد أن "إسرائيل" تعرف أن هناك خطوطاً حمراً لا يمكن أن تمتد بها بعيداً عن هذه الاختراقات الصوتية.
الدور اللبناني يتضاءل
* هل لبنان مرشح لهزات أمنية بعد محاولة اغتيال النائب مروان حمادة؟
ـ إنني من خلال دراستي للبنان، أجد أنه ليس هناك أية فرصة في المستقبل المنظور لأي وضع أمني شامل، كالوضع الأمني الذي عاشه لبنان سابقاً في حرب أمريكا و"إسرائيل" على الفلسطينيين، ولكن من الممكن جداً حدوث بعض الاهتزازات التي تريد أن تسجل نقطة هنا وأخرى هناك في الجدل السياسي وبعض الإرباكات السياسية في لبنان، ولكننا نعرف أن اللبنانيين بأجمعهم ضد أي اختراق للسلم الأهلي بالشكل الذي يعيد الاهتزاز الأمني الشامل إلى لبنان.
* هل تتوقعون حصول عمليات اغتيال أخرى بعد محاولة اغتيال النائب مروان حمادة؟
ـ لا أتصور أن المسألة يمكن أن تتطور إلى هذه الكثرة المتصورة من خلال السؤال.
* هل تغير شيء ما في لبنان بعد القرار 1559 وتقرير أنان؟ البعض يتحدث عن أن لبنان بدأ يفقد شيئاً من دوره السابق..
ـ أعتقد أن الدور اللبناني قد تضاءل وتراجع منذ نهاية الحرب. لقد كان للبنان دور في المصالحات العربية وأكثر من خطة تتحرك هنا وهناك، إضافة إلى الجانب الاقتصادي، لذلك ليس هناك دور جديد يمكن أن يتطور سلبياً ويفقد لبنان بعض ما هو فيه، إنما هناك مسألة "إسرائيلية" يمكن أن تحدث إرباكاً سياسياً هنا وهناك دون أن تقترب من الإرباك الأمني الكبير.
أجرى الحوار في بيروت: هاني عبدالله
صحيفة الخليج الإماراتية :6 رمضان 1425هـ الموافق 20 تشرين أول - أكتوبر 2004م