العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، هو أحد الرموز الكبار الذين أغنوا الحياة الإنسانية والروحية في الشرق العربي والإسلامي، وهذا الرجل الذي يختزن الكثير من عناصر الفكر، تكمن أهميته في مدى الانفتاح والعقلنة التي يتعاطى بها مع أمور الدين والدنيا على السواء، وفتاواه الشهيرة ذات الطابع الثوري، تعدّ معلماً من معالم الرقي الإنساني وتطبيع الدين مع القيم المعاشة، ومنع التطرف الفكري من التغلغل في ثنايا العقيدة الدينية لتحويلها إلى مجرد سلاح يخدم منطق الانغلاق والتعصب.
والسيد فضل الله من أبرز الفاتحين على صعيد أنسنة القيم الدينية والاجتماعية والسياسية وتوجيهها إلى حيث يجب أن تؤدي إلى خدمة البشرية وتطورها.
قال السيد فضل الله في مقابلة أجرتها "الحوادث" معه، عن نتائج إعادة انتخاب بوش رئيساً لأمريكا:
ـ عندما ندرس خلفيات الرئيس بوش الذي خرج على العالم في ولايته الأولى بالمفهوم الديني الذي حشد في داخله مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كشخصية تشعر بدور رسولي في تنفيذ هذه العناوين في العالم، باعتبار أن لأمريكا موقعاً مميزاً في قيادة العالم حسب ما تختزنه الإدارة الأمريكية في موقعها القيادي.
عندما ندرس هذه الذهنية الدينية المغلّفة بأكثر من غلاف، فإننا نجد تأثير المحافظين الجدد الذين يعيشون خطوطهم الفكرية بطريقة أقرب إلى الخرافة وإلى نوع من أنواع العصبية الهستيرية ضد العالم.
فنحن نلاحظ أن هؤلاء المحافظين في أدبياتهم يتحدثون بلغة الحرب في كل مشكلة عالمية، ولا سيما المشاكل المتعلقة بالشرق الأوسط في استراتيجيتهم لجهة الدعم المطلق لإسرائيل، أكثر ما تفكر به أمريكا التي اعتبرت أن إسرائيل هي جزء من الأمن الأمريكي. فالمسألة الإسرائيلية لديهم تتصل بمسألة انتظار ظهور السيد المسيح في فلسطين، حتى تستكمل إسرائيل بناء إمبراطوريتها ويدخل اليهود في المسيحية.
إن هذه القضية بعيدة عن كلِّ الحسابات السياسية، وعن كلِّ الأساليب الدبلوماسية،
فعندما ندرس ذلك كله، وندرس تأثُّر الرئيس بوش بهذه الذهنية، وعندما نتمعّن في الانتخابات الأمريكية التي كانت تتحرك تحت تأثير ذهنية أخلاقية ممزوجة بالمشاعر،
والأفكار الدينية، كما في قضيتي زواج المثليين والإجهاض
اللّتين تقف المسيحية منهما موقفاً سلبياً، فإننا نلتقي مع مسار الحرب الاستباقية التي انطلقت من خلال تأكيد موقع أمريكا العالمي من جهة، ومواجهة ما يسمى الإرهاب،
بعد أحداث 11أيلول (سبتمبر) من جهة أخرى، ما يجعل الرئيس الأمريكي يختزن في شخصيته واستراتيجيته شخصية الإمبراطور الذي يحمل السيف مهدداً به كل من يعترض على السياسة الأمريكية، سواء بالحرب العسكرية أو الدبلوماسية أو السياسية، تماماً كما فعل مع أوروبا التي وصفها بأوروبا العجوز.
عندما ننظر إلى ذلك، فإنه من الصعب أن نجد إمكانيات للتغيير في الولاية الثانية للرئيس بوش، وما يتحدث به البعض عن أنه سيكون أكثر تحرراً، فهذا الكلام غير واقعي، لأن المسألة في أمريكا ليست مسألة الرئيس، لكنها مسألة الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس والمؤثرات الواقعية التي تتدخل في شخصيته، ومنها اللوبي الصهيوني والمحافظون الجدد والإدارة الأمريكية، حيث تتكامل كل هذه العناصر لاتخاذ القرار، وربما يرتبط القرار بشخصية واحدة في الإدارة الأمريكية يتأثّر بها الرئيس. كما ينقل أن الرئيس يتأثر بأكثر من شخصية سياسية في هذا المجال، وأن القرارات لا تصدر منه شخصياً. لذلك لا نعتقد أن سياسة بوش لن تتغير في الولاية الثانية، على ما يقول به البعض، سواء بالنسبة إلى إيران أو العراق أو فلسطين.
* ماذا عن الشريط الذي ظهر فيه أسامة بن لادن، وهل استفاد منه بوش؟
ـ من الطبيعي أن يكون هناك بعض التأثير، وأتصوّر أن بوش استفاد منه، لأن اللغة التي صاغها هذا الشريط هي لغة قد تختزن بعض التفسيرات لما قام به هذا الرجل (بن لادن)، ولكنها في الوقت نفسه تتحدث عن تهديدات مستقبلية في هذا المجال، ما يؤكد الاستراتيجية التي اتبعها الرئيس في تخويف الشعب الأمريكي من "القاعدة" وأنه الشخص الوحيد الذي يحمي الشعب الأمريكي من الأخطار.
* هل تعتقد أن في العالم أصوليتين تحاكي إحداهما الأخرى؟
ـ إن هناك أصولية أمريكية تحاول أن تفرض نفسها على كلِّ تطورات الواقع السياسي والاقتصادي العالمي، لأن الأصولية في خطرها تنطلق من خطين: الأول، هو عدم الاعتراف بالآخر في مصالحه وقضاياه وأفكاره. والثاني، هو قضية اعتبار العنف طريقاً للتغيير. وهذا الأمر يتمثل بالسياسة الأمريكية الآن، لأن أمريكا لا تعترف بالآخر في خطتها للسيطرة على العالم، إلا إذا كان الآخر خاضعاً لها، وثانياً فإن الحرب الاستباقية التي تمثلت في فلسطين بدعم إسرائيل، وفي أفغانستان والعراق، وحتى في إيران، تدل على أن أمريكا ترى أن العنف هو الأساس للتغيير.
وهذا أيضاً ما قرأناه في بعض التصريحات للمحافظين الجدد بعد نجاح الرئيس الأمريكي في الولاية الثانية، فهم يقولون إنهم نجحوا في خطة العنف التي تحركوا بها في تأسيس قوة أمريكا وسيطرتها وسياستها، ما يعني أن هناك أصولية أمريكية لم تبلغها أية أصولية دينية، في أي خط من خطوط الحركة السياسية أو الأمنية في العالم.
* ماذا عن سوريا ولبنان والقرار 1559؟
ـ أتصوّر أن هذا القرار كان يمثِّل صدمةً إعلاميةً أكثر مما يمثِّل صدمة سياسية. أما بالنسبة إلى سوريا، فإن المطلوب ليس انسحابها من لبنان، بل المطلوب ترتيب الأوضاع الحدودية بينها وبين العراق، ومنعها بشكل وبآخر من التدخل في الشؤون العراقية لمصلحة ما يسمى المقاومة العراقية. وأتصور أن المسألة استطاعت أن تصل إلى تحقيق إيجابيات في العلاقات الأمريكية السورية على مستوى الأرض. فقد لاحظنا كيف أن سوريا بدأت تعمل على ترتيب الساتر الترابي على طول الحدود مع العراق، وما يؤكد ما نقول، أن الموفد الأمريكي إلى دمشق "بيرنز"، تحدث مع الرئيس بشار الأسد عن الحدود السورية ـ العراقية في أغلب جلسته معه، فيما كان حديثه عن موضوع الانسحاب من لبنان في آخر اللقاء، وتم ذلك بشكل مقتضب.
لذلك، فإنني لا أتصوّر أن الانسحاب السوري من لبنان هو الهدف للقرار 1559، والجميع يعرفون أنّ الانسحاب في هذه المرحلة ليس واقعياً من الناحية السياسية أو الأمنية على الأقل، من خلال الواقع الإقليمي والدولي، ومن خلال
بعض الأمور التي قد تطرح في الساحة، كمسألة الوجود الفلسطيني في المخيمات التي لا يمكن لأية حكومة لبنانية أن تسيطر عليها، وخصوصاً مع امتداد هذا الوجود في مفاصل السياسة العربية.
لذلك أتصوّر أن طرح الانسحاب السوري، بقطع النظر عن مسألة الصواب والخطأ فيه ليس واقعياً في هذه المرحلة التي تهتز فيها المنطقة.
* هذا تحليل موضوعي للأمور، لكن ماذا عن رأيك الشخصي في هذا التنسيق الأمريكي ـ السوري؟
ـ إن هذا التنسيق لا تستهدف منه سوريا منع المقاومة، فقضية الدعم السوري للمقاومة العراقية لا تتمثل دائماً بالخطط المباشرة، والحدود السورية لا يمكن إغلاقها لا من طرف العراق ولا من طرف سوريا، لأنها حدود صحراوية لا يمكن حمايتها من طرف أية دولة، حتى لو كانت عظمى.
* هل هناك توافق أمريكي سوري؟
ـ هناك نقطة مهمة في علاقات الدول فيما بينها، وهي أنّ من الصعب على أية دولة أن تعطي كل أوراقها. لذلك فإن العلاقات بين سوريا وأمريكا هي علاقات معقدة في هذا المجال، ولا سيما بعدما دخلت فرنسا على الخط، ولم يكن هذا الدخول فاعلاً وقوياً، لأن أمريكا كانت تريد من أوروبا أن تدخل معها لأهداف محدّدة، لذلك فإن سوريا تتحرّك على أساس أن تعطي وتأخذ.
* هل تتوقّعون ضربة عسكرية لسوريا؟
ـ إن فشل أمريكا في العراق يمنعها من أن تقوم بأي عمل عسكري، ولا سيّما ضدّ سوريا، فأمريكا ما تزال تعتبر أن سوريا تمثل عنصراً فاعلاً وقوياً في سياستها في المنطقة، لأن سوريا هي الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تواجه الحركات الأصولية والراديكالية، وهو ما لا تستطيع فعله أي دولة أخرى في المنطقة. ولذلك فإن أمريكا في حاجةٍ إلى سوريا، فالتوازن في المنطقة يحتاج إلى عنصرين: سوريا وإسرائيل معاً، ولذلك فإنه لا يمكن لأمريكا أن تكسر الجرة مع سوريا كلياً، لأن إسرائيل تمثل القوة العسكرية والاقتصادية، وسوريا تمثل القوة السياسية.
* ماذا عن العملية السياسية في العراق؟ وهل الشيعة باتوا حلفاء لأمريكا؟
ـ إن العراقيين يعيشون جوعاً للحياة السياسية، والانتخابات المقبلة قد تمنحهم نوعاً من أنواع الإحساس بالاستقرار السياسي من خلال اختيارهم لممثّليهم، بقطع النظر عما إذا كان ذلك سيتمُّ تحت تأثير قوات الاحتلال أو بشكل عراقي مستقل. إن المسألة السياسية ملحّة بالنسبة لكلِّ عراقي، لأنها تضمن للعراق الأمن والاستقرار.
أما بالنسبة للشيعة، فهم يقاومون الاحتلال جملةً وتفصيلاً، ولكن الأحوال التي كانوا فيها جعلتهم يهادنون الاحتلال، وقد رأينا كيف قامت حركة مقتدى الصدر بمقاومة الاحتلال، وإن كانت لا تملك الكثير من الإمكانات التي تستطيع معها أن تستمر في هذا الموضوع. لذلك فإن الحديث عن أن الشيعة هم مع الاحتلال حديث غير دقيق، وما نعرفه عن المرجعية هو أنها ضد الاحتلال، لكن قد لا نجدها في موقع القادر على مواجهة الاحتلال عسكرياً.
* هناك كلام يقول إن المقاومة الشيعية للأمريكيين قد تؤدّي إلى خسارة الشيعة لدورهم الوطني؟
ـ أعتقد أن الشيعة ليسوا فريقاً واحداً، والمسألة لا ترتكز على أساس طائفي مغلق، فهناك من الشيعة علمانيون وإسلاميون، وهم لا يمثلون فريقاً سياسياً واحداً يمكن جمعه لإعطائه طابعاً معيناً مع الاحتلال أو ضده.
إن الأكثرية الشيعية ضد الاحتلال، ولكن قد يكون هناك اختلاف في طريقة مقاومة الأمريكيين.
بيروت:مجلة "الحوادث"6 شوّال 1425هـ الموافق 19 تشرين الثاني - نوفمبر 2004م، العدد:2507