الجريمة التي وقعت في العراق قبل أيام، وراح ضحيتها مجموعة كبيرة من المسلمين الشيعة هناك، هزت الضمير المسلم وهزت الضمير العالمي. الحديث عن فتنة طائفية، عن حرب أهلية في العراق لم يتوقف منذ سقوط النظام العراقي السابق. هذه الجريمة أعادت إلى الأذهان هذا الخوف، وهو خوف حقيقي، خوف متوقع، خوف ينتظره الكثيرون ويتمناه آخرون.
لمناقشة موضوع الوحدة الوطنية، لا سيما الوحدة الدينية في العراق، على اعتبار أن الشكل الأكثر تهديداً بالفتنة التي ستكون فتنة طائفية الطابع ومذهبية الضحايا، لن نجد أفضل من آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، أحد المراجع الشيعية الكبرى في العالم الإسلامي، وهو أيضاً مشهور كمفكر وفيلسوف إسلامي، وهو غني عن التعريف، ولهذا لن أطيل في تقديمه.
حالة الوحدة المذهبية والدينية في العراق
سماحة السيد، أنتم قد درستم في العراق وأقمتم فيها فترةً طويلةً، وفي النجف تحديداً، كيف كان جوّ الوحدة المذهبية والدينية في العراق آنذاك؟ وهل قصة الطائفية جديدة على الوضع في العراق؟
ج: لقد وُلِدتُ في العراق، وعشت فيه أكثر شبابي للدراسة، وعشت مع المجتمع العراقي بكل أطيافه، وكانت خلاصة هذه التجربة، أن العراق الذي يحتضن الكثير من التنوعات المذهبية والعرقية، لا يعيش الحساسية الحادة التي يمكن أن تتحول إلى فتنة مذهبية أو طائفية كما يحدث في بعض البلدان. من الطبيعي أن التنوع في كل مجتمع، بل في كل طائفة أو مذهب، يخلق بعض المشاعر القلقة، ولكنني طيلة المرحلة التي عشتها في العراق في العهد الملكي ثم في العهد الجمهوري في الانقلابات المتعددة، ومتابعتي للأوضاع في العراق قبل الحرب وبعدها، لم أجد هناك أية فرصة لفتنة مذهبية على مستوى السُنّة والشيعة بالطريقة التي تنتهي إلى حرب أو ما أشبه ذلك لا سمح الله. لقد كان الشيعة والسُنّة يلتقون سياسياً واجتماعياً ودينياً، وقد لاحظنا أن النظام الطاغي اضطهد فريقاً كبيراً من السُنّة ومن علمائهم، كما اضطهد الشيعة ، ولذلك فإني لا أجد هناك أية فرصة لفتنة مذهبية كما يتحدث الإعلام عن ذلك..
س: سماحة السيد، على ضوء ما تقدم، كيف تفسر لنا ما وقع في الأيام الأخيرة؟
ج: إنني أتصور أن المناخ الذي فرضه الاحتلال الأميركي وحلفاؤه، أوجد ساحة متحركة فوضوية تسمح للكثيرين، ربما في الداخل والخارج، أن يتحركوا بمثل هذه الجرائم التي تنطلق في موقع سُنّي هنا وموقع شيعي هناك، من أجل أن تخلق بعض المشاعر الحادة التي تجعل المتحمّسين هنا وهناك يتحركون بشكل حادّ، ولكني كنت ألاحظ وحتى الآن في علاقاتنا بالعلماء من السُنّة والشيعة، أنهم ينطلقون من أجل السيطرة على الواقع بمختلف الأساليب، وأن هناك شخصيات سياسية واجتماعية تتحرك في هذا الاتجاه. وهناك نقطة لابد من ملاحظتها، وهي أن العراق بلد عشائري، وعندما ندرس العشائر، نجد أن أكثر هذه العشائر ليست سُنّية بالخالص أو شيعية بالخالص، بل هناك نوعٌ من التداخل والتمازج، الأمر الذي يمنع حدوث أيِّ فتنةٍ في هذا الإطار.
س: سيدي، كان لافتاً أنَّ الكنيسة الأنغليكانية كانت أوَّل من بادر كطرف خارجي لعقد لقاءات سُنّية شيعية لتدارك هذه الفتنة ولعدم انتشارها، أو للحدّ من انتشارها، ولم نسمع كثيراً عن مبادرات مسلمة من الخارج، لا سيما بعد هذه الجريمة؟
ج: لقد كان هناك أكثر من مبادرة في بعض البلدان، ومنها لبنان، فقد التقى المسلمون السُنّة والشيعة على جميع المستويات الدينية والسياسية والثقافية والحزبية في أكثر من لقاء انطلقت منه الاحتجاجات والاستنكارات صوتاً واحداً وأتصور أن الأصوات الطيبة التي انطلقت من العلماء في مصر وفي الخليج وفي كثير من البلدان الإسلامية، توحي بأن المسلمين جميعاً يشعرون بالتحدي الكبير الذي تعيشه البلاد الإسلامية، والتي يراد لها أن تختلط فيها الأوراق من أجل إيجاد فتنة مذهبية على مستوى العالم الإسلامي. إنني أعتقد أن هناك وعياًٍ إسلامياً وحدوياً يدرس العراق كما يدرس الجسم الذي يراد من خلال المحيطين به أن يجرحوا كل جانب منه. إنني أعتقد أن العالم الإسلامي بفعاليته الدينية بخير، حتى لو لم يجتمع العلماء المسلمون في مؤتمر خاص، لأنهم يعيشون عقلية المؤتمر بشكل عفوي طبيعي في إخلاصهم للإسلام، وفي تخطيطهم للوحدة الإسلامية على المستوى الشعوري الذي قد ينطلق ليتحرك على المستوى العلمي.
الطوائف الدينية ومقاومة الاحتلال الأميركي
س: سماحة السيّد، إن الحديث عن الوحدة هو كلام جميل بلا شك، ولكن المراقبين للوضع في العراق، يلاحظون بعض الفروقات المذهبية بعيداً عن الصراع المباشر، يعني أنّ هناك حالةً شيعيةً لاحتكار الاضطهاد. صحيح أنك ذكرت في المقدمة أن اضطهاد النظام السابق لم يقتصر على الشيعة، وإنما اضطهد الكثيرين في العراق من سُنّة وشيعة وعرب ومن غير عرب، ولكن هناك محاولة واضحة لاحتكار هذا الاضطهاد شيعياً، وهناك اختلاف واضح يلمسه الجميع الآن ويتحدث عنه الجميع. فكيف تفسر لنا هذا الاختلاف الكبير في رد الفعل على الاحتلال الأميركي، على الأقل تجاه ما يرد في وسائل الإعلام، حيث تنسب الجزء الأكبر والأعظم من المقاومة وما يجري على الأرض من صِدام مع الأميركان إلى الجانب السُني...؟
ج: هناك نقطتان في السؤال: النقطة الأولى هي مسألة احتكار الاضطهاد من قبل المسلمين الشيعة، وإننا نتصور في هذا المجال أن الشيعة لم يحتكروا مسألة الاضطهاد، فهناك حديث عن اضطهاد تعرّض له مسلمون سنة وأكراد ومسيحيون وآشوريون وتركمان.. وما إلى ذلك. وأعتقد أن هناك أكثر من صوت لدى الفعاليات الإسلامية الشيعية، بأن الاضطهاد لم يقتصر على الشيعة، وإن كانوا عاشوا القسم الأكبر منه، من خلال المقابر الجماعية بلحاظ بعض الخصوصيات التي أحاطت بالمعارضة للنظام الطاغي.
لذلك نحن نتصور أن على كل فريق في العراق عاش الاضطهاد أن يرفع صوته، وقد رأينا كيف أن الأكراد رفعوا صوتهم، وكيف أن التركمان رفعوا صوتهم وما إلى ذلك، لهذا هذه ليست مسألة تنطلق من خلال احتكار بالمعنى السياسي أو الطائفي للاحتكار.
والنقطة الثانية، وهي قضية الاحتلال، فإنني أتصور أن مسألة الاحتلال ليست مقبولة من أيّ عراقي، ولكن التعقيدات التي أحاطت بدخول الأميركيين إلى العراق، جعلت البعض يفكرون بأن المقاومة لابد أن تكون مقاومة سلمية نتيجة اجتهادات معينة، ونتيجة دراسات خاصة يستوحون منها أو يستنتجون أنه ليست هناك ظروف بالمعنى الدقيق _ كالظروف الموجودة في لبنان _ للمقاومة العسكرية، ولقد رأينا أن الأميركييّن والبريطانيّين الذي كانوا ينتظرون أن يُستَقبَلوا في الجنوب عندما دخلوا من طريق الكويت بالورود، اُستُقبِلوا بالرصاص، ولم يستقبلهم الشعب بأية طريقة بأي احتفال ترحيـبي أو ما إلى ذلك..
س: سماحة السيد، كيف تفسر لنا غالبية الاجتهادات التي تقول بأن المقاومة المسلّحة يبدو طابعها العام سنيّاً، في حين أن غالبية الاجتهادات التي تنادي بالمقاومة السلمية طابعها العام شيعي؟
ج: قلت إن هناك ظروفاً ربما فرضت نفسها في هذا الجانب أو ذاك الجانب، وقد تكون هناك أكثر من مسألة لا تخلو من تعقيد، وخصوصاً عندما نلاحظ أن العنف قد أصاب الكثير من العراقيين من السُنّة ومن الشيعة، كما أنه وُجِّه إلى المنظمات الإنسانية وإلى الشرطة العراقية التي يراد لها _ بقطع النظر عن طبيعتها _ أن تحفظ الأمن الداخلي. لذلك فإنني ألاحظ بأن المسألة أكثر تعقيداً مما يطرحه الإعلام في هذا المجال، وهناك فريق من السُنّة والشيعة، سواء داخل مجلس الحكم الانتقالي أو خارجه، قد تكون اجتهاداتهم في عدم الانطلاق بالمقاومة العسكرية. لهذا ليست القضية سُنّية أو شيعية في هذا المجال، ربما كان ذلك نتيجة ظروف الاضطهاد التي عاشها المسلمون الشيعة من خلال النظام الطاغي وخوفاً من رجوع النظام قبل أسر الطاغية، وربما كان بسبب عدم وجود امتداد استراتيجي يمكن أن يدعم المقاومة... ربما كانت كل هذه المفردات شاركت في هذا المجال. وإنني _ حسب معرفتي بالواقع _ أجد أن المسألة ليست بهذه الشمولية التي تجعل الشيعة كلهم في جانب والسُنّة كلهم في جانب، بل ربما وصلتني بعض الأخبار أن هناك مقاومة عسكرية في بعض المناطق التي تُعرف بأنها مناطق شيعية.
س: من جانب آخر، وبغضِّ النظر عن السُنّي والشيعي، هناك روح انتقام. نحن بلا شك لن نختلف على وحشية ما كان يجري في العراق قبل سقوط النظام، لكن هناك روح انتقام سارية، سواء في مجلس الحكم أو عند الأحزاب السياسية التي انتعشت بعده، هناك كلام خطير يقال عن تصفية حزب البعث وعن ملاحقة البعثيين، وكلنا يعلم أن غالبية أعضاء حزب البعث إنما كانوا من النفعيين في المقام الأول، فهم دخلوا الحزب لقضاء بعض المصالح ولتيسير أحوالهم، ولكن روح الانتقام لا شك في أنها ستفيض لتشمل الجميع...
ج: نحن قلنا وقال الكثير من العلماء في النجف، إنه لا يجوز للناس أو لأي حُكم أن يحاسب أي شخص إلا إذا ثبتت عليه الجريمة بشكل شرعي، وإن مجرد الانتماء إلى حزب البعث أو حتى الانتماء إلى الدولة قد يكون ناشئاً من ظروف خاصة من دون أن يكون هؤلاء مخلصين للنظام هنا وهناك، لذلك فالمسألة من الناحية الشرعية أنه لا يجوز لأحد أن يشمل الناس جملةً واحدة، ولكن مشكلتنا في الشرق أننا نبقى في هذه الذهنية العشائرية، فإذا أخطأ فريق من عشيرة أعطينا الحكم عليه للعشيرة كلها، وهكذا بالنسبة إلى ما نلاحظه في الجوانب المذهبية، فإننا في ملاحقاتنا للإعلام وللتعليقات التي تتحدث هنا وهناك، ربما ينطلق شخص من المسلمين السُنّة ليقوم بجريمة معينة، فيقال إن السُنّة قاموا بذلك، أو يقوم شخص شيعي فيقال إن الشيعة قاموا بذلك. إنَّ علينا أن نعمل على أساس العدالة الإسلامية، والعدالة الإنسانية، بأن لا نحكم على المجموع من خلال بعض الأفراد، والله يقول: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى}.
س: سماحة السيِّد، من خلال صِلاتك بالداخل العراقي، هل تعتقد أن هذه الروح هي المنتشرة في أوساط النخبة الإسلامية في العراق، سُنّية كانت أو شيعية؟
ج: علينا أن نفرق بين المشاعر العاطفية الحادّة التي لا تزال تعيش آلام الماضي ومآسيه، وبين الذهنية العقلانية الموضوعية. إنني عندما أستمع من العقلاء إلى هذا الجانب أو ذاك الجانب، أرى أن هناك ميزاناً شرعياً للأشياء، فالشخص الذي لم يشارك في جرائم النظام، ولم يؤذ الناس بأي طريقة من الطرق، هو بريء لا يجوز محاكمته ولا تجوز معاقبته. هذا أمر إسلامي، وعلى كل الإسلاميين والعلماء والمتدينين أن يقفوا عند حدود الله في ذلك.
الخطاب الإسلامي والاعتراف بالآخر
س: من الملاحظ أن هناك تطوّراً كبيراً في الخطاب الإسلامي في العقود الأخيرة، لكن الاعتراف بالآخر، سواء كان دينياً أو قومياً أو مذهبياً، لم يصل بالانفتاح إلى درجة أن يقبل الآخر دون السعي إلى تغييرهم. فهل تقر بوجود هذا الضعف فينا؟ وإلى أي درجة هو مسؤول؟
ج: إنني أتصوّر أن في الخطاب الإسلامي نوعاً من إلغاء الآخر، ولعلَّ اتهام المسلمين أو الإسلاميين بالأصولية التي هي عبارة عن اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير، وعدم الاعتراف بالآخر، لعلّ هذا ناشئ من بعض الظواهر الموجودة في المجتمع الإسلامي.
لكنّنا عندما ندرس الإسلام من خلال القرآن الكريم، نجد أن القرآن اعترف بالآخر، وقد كان الآخر في الدائرة الدينية هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما تحدث القرآن عن الصابئة واعترف بهم وأراد للمسلمين أن يحاوروهم بالتي هي أحسن، وأن يبحثوا عن نقاط اللقاء بينهم وأن يعيشوا معهم. ونحن نعتقد أن التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوة وحتى الآن قد احتضن الآخر، فاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم كانوا يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين في حقوقهم التي قد ينتقصها نظام هنا ولكنه يعطيها نظام آخر. ونحن كنا نتحدث مع وسائل الإعلام الغربية، بأن العرب والمسلمين احتضنوا اليهود وكرَّموهم وأعطوهم المجال الواسع للاقتصاد، حتى إنهم كانوا يسيطرون على أسواق بغداد وغير بغداد، وأن اليهود اُضطهدوا من قبل الغرب. لذلك نحن نعتقد أن الإسلام اعترف بالآخر فحاوره، وأراد لنا أن نحاوره بالطريقة الإنسانية «بالتي هي أحسن».
لكننا نعرف أن هناك بعض الاجتهادات المغلقة التي قرأت بعض النصوص من جانب ولم تقرأها من جانب آخر، ولهذا دخلت مسألة التكفير والتضليل في دائرة المذهب الواحد، فهناك بعض الناس في هذا المذهب يكفّرون إخوانهم في نفس المذهب لاختلافهم معهم في بعض الخطوط الفكرية أو الشرعية أو في بعض الأحاديث المَرْوِية هنا وهناك، لذلك نرى أن المسألة ناشئة من التخلف الاجتهادي ومن التراكمات التاريخية التي عاشها المسلمون في عصور التخلف، وإني أتصور أن هناك في الواقع المعاصر مجتهدسن يعيشون هذا الانفتاح ويتحركون على أساس الاعتراف بالآخر، لا بمعنى السقوط أمام فِكرِه، ولكن بمعنى احترام فكره ومحاولة النقاش معه بطريقة علمية وموضوعية. ولابد لكل العلماء ولكلِّ المثقفين الإسلاميين أن يقوموا بحملة ثقافية لتوعية المسلمين في مسألة الاعتراف بالآخر والحوار معه والتعايش معه، وأنا أتفق معك في أن الوحدة لا تزال على السطح، لأنها بقيت في سطح النخبة، أما القاعدة، فلا تزال تعيش خصوصية المذهبية الحادَّة المغلقة، ولهذا يجب على علماء المسلمين أن يثقفوا القاعدة بالوحدة الإسلامية التي هي الأساس لحركية الإسلام ولقوة العالم الإسلامي أمام التحديات التي تواجهه من كل مكان.
حيادية الشيعة والوحدة الإسلامية
سؤال من متصل: تناهى إليّ أنّ السيّد الخامنئي أصدر فتوى تقضي بالوقوف على الحياد ما بين صدام وأميركا، والسيستاني تابِع للخامنئي، وقد أخذ هذه الفتوى منه، والشيعة يتبعون السيد السيستاني، فكان الحكم بالوقوف على الحياد أو المقاومة السلمية، وأنا أعرف بأن الحياد في الإسلام مرفوض، كما إنني أرى أن الوحدة مستحيلة بين الشيعة والسُنّة، الشيعة وقفوا مع الأميركان في فترة الحياد، في حين أن القرضاوي السُنّي وقف ضد الحرب، وما أريد أن أعرفه، هو هل إن الإمام الحسين (ع) وقف على الحياد مع يزيد أم حاربه وشكراً؟؟
ج: الحياد المرفوض هو أن يكون هناك قبول للاحتلال الأمريكي للعراق، أما حياد إيران، فهو حياد بمعنى عدم التدخل العسكري في هذه المعركة، لأنها لا تشعر بأن لديها قدرة في هذا المجال، تماماً كما لم تتدخل كل دول المنطقة في مسألة الاحتلال الأميركي للعراق، بل وقفت موقف الحياد، على الأقل من ناحية عسكرية وأمنية، وربما رأينا بعض البلدان وقفت إلى جانب أميركا في هذا المجال. لذلك فالمسألة من هذه الناحية ليست بالطريقة التي يفهمها السائل الكريم.
أما قضية أن السيد السيستاني هو تابع للسيد خامنئي، فمع احترامنا لهما جميعاً، فإن السيد السيستاني يمثل مرجعية مستقلّة في العالم الإسلامي الشيعي على الأقلّ، وهو ليس تابعاً لأحد، بل هو مستقلّ ويملك مرجعيةً واسعةً في هذا المجال. فالكلام الذي قاله الأخ ليس صحيحاً، كما إننا نعرف الكثير من المسلمين الشيعة في العالم الإسلامي الذين وقفوا ضد الاحتلال الأميركي قبل الحرب بكلِّ قسوة، في الوقت الذي وقفوا ضد طغيان صدام بكل قسوة، وأظن أن الجميع يعرف أنني أطلقت فتوى قبل الحرب تقول: «لا يجوز مساعدة أميركا في ضرب الشعب العراقي وفي السيطرة على مقدراته الاقتصادية والسياسية». لذلك هناك الكثير من العلماء المسلمين الشيعة ومن مثقفي الشيعة رفعوا الصوت عالياً ضد الاحتلال الأميركي، ولا نزال نرفع الصوت عاليا ضد الاحتلال الأميركي، ولذلك أنا أرجو من الأخ ومن كل الإخوان أن لا ينظروا إلى القضية من جانب واحد.
س: سماحة السيد، إنّ النبرة الجهادية عبر التاريخ كانت نبرة سُنّية، في حين كانت النبرة الشيعية سلمية، فما رأيك بذلك؟
ج: إنني أسأل من يقول ذلك عن المقاومة الإسلامية في لبنان، هل هي سُنّية أم شيعية؟ وهل إن الموقف الذي تقفه المقاومة الإسلامية ويقفه المسلمون الشيعة جميعاً، بما فيهم إيران، مع المقاومة الفلسطينية ودعمها بكل وسائل الدعم، في الوقت الذي لا يدعمها أحد من البلدان العربية الأخرى بالطريقة التي يدعمها المسلمون الشيعة، هل هؤلاء مجاهدون أو هم مسالمون؟؟ إن الشيعة يأخذون أحكامهم من الكتاب والسنّة ومن الأئمة (ع)، الذين حديثهم هو حديث رسول الله (ص)، لأننا نؤمن بالكتاب والسُنّة النبوية الشريفة من خلال قوله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر/7). ولكن ما يختلف فيه الشيعة عن السُنّة هو طريقة توثيق الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوثيق الرواية عن الأئمة (ع)، فليس كل ما يرد عن الأئمة (ع)، حتى لو كان في الكتب الشيعية المعتبرة، نأخذه دون توثيق، بل لابد لنا من أن نوثق كل ما ورد عنهم، وقد دعانا أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن لا نقبل حديثاً ورد عنهم إلا ما وافق كتاب الله وسُنّة نبيه، أما ما خالف كتاب الله فهو زخرف. لذلك فإن المسألة ليست كما يطرحها السؤال.
سؤال من متّصل: لقد أشرت في كلامك إلى مسألة التخلّف الاجتهادي، وقد فُهِمَ من الكلام أنّك حصرته في السنّة، فهل التخلّف تخلّف سني أم هو تخلّف إسلاميّ عام؟
ج: أنا كنت أتحدث عن التخلف الاجتهادي لدى المسلمين سُنّةً وشيعةً، أتحدث عن التخلف كمنهج، عندما ينطلق المجتهد من خلال قواعد خاصة من دون أن ينفتح على الأفق الآخر وعلى القواعد الأخرى وعلى وجهة النظر الأخرى، ثم إن مسألة الثقافة تختلف، فهناك المجتهدون الذين عاشوا ثقافة عصرهم، بينما انطلق مجتهدون آخرون في العصور في ثقافات أخرى، بما فيها الثقافة الإسلامية، ولذلك نجد أنهم اختلفوا في تفسير القرآن بين تفسير منفتح على قضايا العصر وعلى الحقيقة الإسلامية وبين تفاسير أخرى، وهكذا بالنسبة إلى الاجتهادات وما إلى ذلك، ولم أقصد التخلف الاجتهادي السُنّي، بل قصدت التخلف الاجتهادي من السُنّة والشيعة معاً..
سؤال من متّصل: لماذا استبعد حزب البعث باعتباره حزباً كبيراً من مجلس الحكم في العراق، على الرغم من وجود أحزاب كثيرة مثل الحزب الشيوعي؟
ج: هذا أمر تُسأل عنه أميركا التي عينت مجلس الحكم، وليس لنا دخل في هذا المجال من قريب أو بعيد، فبإمكان الأخ أن يوجه المسألة إلى أميركا لا إلى الشيعة.
س: هل كانت الأمور مهيَّأة أميركياً بحيث كان لابد أن يقع ما وقع؟
ج: إنني أتصور أن دراستنا الدقيقة للحكم في العراق منذ أن انطلق وانطلقت الانقلابات التي أدت إلى الانقلاب الأخير، كانت تتحرك مع السياسة الأميركية، وكان الطاغية صدام متحركاً مع خطوط السياسة الأميركية، لأن أميركا كانت تريد له أن يقوم بما قام به، إما من خلال حربه ضد إيران التي دمَّرت العراق وإيران معاً اقتصادياً، أو من خلال احتلاله للكويت، أو في حربه ضد شعبه عندما انطلقت الانتفاضة الشعبية في العراق وساعدته أميركا على ذلك. المسألة هي أنَّ الظروف التي سبقت احتلال العراق هيَّأت مناخاً لهذا الاحتلال بطريقة وبأخرى، ونحن نعرف أن أميركا لا تريد بالإسلام وبالمسلمين وبالمستضعفين خيراً، أميركا هي الدولة التي تريد بسط سيطرتها على العالم كله. ولذلك فنحن نعتقد _ وقد تحدثنا منذ عشرين سنة حتى الآن، وقبل احتلال العراق وبعده _ أن أميركا في سياستها التي تريد فيها الهيمنة على العالم هي شر لا خير فيه، حتى إننا بعد حدوث المجزرة المأساة في كربلاء والكاظمية، كنا نتحدث ونقول إن المخابرات المركزية الأميركية التي كانت موجودة في العراق في عهد النظام السابق، وكذلك المخابرات الإسرائيلية الموساد التي دخلت إلى العراق مع الجيش الأميركي _ وقد قال مسؤول أميركي إننا لا نتحاور مع إسرائيل بل إننا نعمل معاً _ هي التي تتحمّل المسؤولية الأساسية. لقد قلنا ذلك ولا نزال نقول ذلك، وأن لديهم عملاء هنا وهناك تماماً كما هم العملاء في فلسطين الذين يتحركون من أجل التجسّس على المجاهدين في الانتفاضة هنا وهناك.
سؤال من متّصل: أنا من معتنقي الإسلام حديثاً، وقد عرفت الإسلام برسوله (ص)، ولكنني ألاحظ هذا الحديث الدائم عن سنّة وشيعة، مع أن الدين واحد، والكتاب واحد. فلماذا مثل هذا الكلام دائماً؟
ج: إنني أقدِّر هذه الروح الوحدوية التي لابد أن تعيش في روحية كل مسلم ومسلمة، أن نكون مسلمين لأن الله سمّانا المسلمين{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} (الحجّ/78). إننا مسلمون، ولذلك كنت أقول في أكثر من مداخلة إن على السُنّي أن يقول أنا مسلم سُنّي، وإن على الشيعي أن يقول أنا مسلم شيعي، بحيث ينفتح على الإسلام في فهمه لمذهبه الاجتهادي هنا وهناك، لا أن نجعل السُنّية والشيعية تماماً كالدينين المُختَلِفَين اللذَين يعيشان خصوصياتهما من خلال التراكمات التاريخية.
أنا أقدر ذلك وأقول إن علينا أن ننطلق على أساس أننا مسلمون، ثم إذا اختلفنا في اجتهاداتنا فالله قال: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ} (النساء/95). ونحن نعتقد أن الصحابة في المرحلة الأولى بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد عرفوا كيف يديرون ما اختلفوا فيه بالمستوى الذي لا يُسقِط الإسلام في المؤامرات التي كانت تُحاك له من هنا وهناك، كما أننا نقرأ في كلمات الإمام علي (عليه السلام) الذي يختلف الشيعة والسُنّة على مسألة إمامته وعدم إمامته في الدرجة الأولى، كان يقول: «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة»، وكان يقول عندما تحدث عن موقفه الحيادي من النـزاع في الخلافة: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»، وكانوا يتشاورون في قضايا الحرب والسلم، وكان أحدهم يحفظ الآخر، حتى إن الأمام علي (عليه السلام) أشار على الخليفة عمر بأن لا يذهب إلى الفرس عندما دعاه قائد الجيش، حتى لا يقع في مواجهة الخطر هناك.
إن علينا أن نعرف أننا مسلمون، وأن هناك خطوطاً إسلامية اجتهادية لابد لنا من أن نتحاور حولها بطريقة علمية موضوعية لا تُسقط الواقع، ولا تسقط الهيكل على رؤوس الجميع..
وما نريده من الوحدة، هو أن نتوحَّد على كتاب الله وسُـنّة نبيه، ونتوحد على التوحيد، والنبوّة، والإيمان باليوم الآخر، وبأركان الإسلام وبكل الشريعة في ما اتفقنا فيه، وأن نتحاور في ما اختلفنا فيه.
حوار سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله مع فضائية الجزيرة
الخميس 20 محرم 1425 الموافق 11-3-2004م