أجرى الحوار ابرهيم بيرم ورضوان عقيل
منذ فترة بدا أن الخطاب الفكري والسياسي وحتى الفقهي للمرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، يمر بمرحلة تحول عميقة، فهو يمارس عملية نقد واضحة للأحزاب والحركات الاسلامية جميعها، ويذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يقدم نقداً للفكر الاسلامي المعاصر نفسه، معتبراً انه يعيش حال انكماش وجمود، كونه يعيد أحياناً ترداد ما قيل منذ مئات الاعوام. وفي رسالة يوجهها إلى مؤتمر اسلامي في الولايات المتحدة يخاطب المجتمعين: "إن المرحلة في حاجة إلى ذهنية جديدة، وتخطيط جديد، لنرتفع إلى مستوى ان تكون الامة، لنخطط حيث يخطط الآخرون (...) لنتحمل جميعاً مسؤولية الاسلام كله من خلال ما نملك من طاقات وما نتحرك فيه من اساليب".
وهذه الدعوى، تقترن بدعوة ذات أبعاد أكبر، عندما يدعو الجاليات الاسلامية في الغرب إلى الانخراط في الاحزاب والجمعيات الغربية لان "المصلحة العليا قد توجب ذلك"، شرط ان يكون هذا الانخراط "دخولاً سياسياً بحيث يبقى الانسان مع عقيدته والتزاماته".
هذا "الانفتاح" أو هذا التحول ربما ليس جديداً، فقد برزت ملامحه قبل فترة بعيدة، وتجسدت أكثر ما يكون في دعواته المتكررة إلى تنـزيه التاريخ وتنقية الفكر من "سمات التخلف، وأوهام الخرافة، ومتاهات التعصب والانغلاق"، فكانت هذه الدعوات مجتمعة باباً جلب على السيد رياحاً عاتية، وكانت منطلقاً لتباينات مع كثر ما برحت تتوالى فصولاً ومعارك هنا وهناك.
هذا هو المرجع فضل الله منذ بدأ رحلته قبل اكثر من 40 عاماً مثيراً للجدل، مضيئاً على جوانب فكرية جديدة، رافضاً الدور التقليدي لرجل الدين، مقتحماً عالم التغيير والتجديد.
ودائماً تجد لديه الجديد غير المألوف وغير المطروق، وهذا ما خرجنا به من حديثنا معه. وكان مدخل حديثه معنا، لدى سؤالنا عن صحته، "ان الارادة دوماً تقهر المرض في الجسم، وعلى الانسان الا يتوقف عن العطاء".
المحور الاساسي للحديث، كان حملة انتقاداته التي لم تتوقف للجمود والانكماش، وشكلت استمراراً لكل ما قاله في الآونة الاخيرة، فهو يؤكد ان "بعض الذين يشرفون على الاحزاب الاسلامية هم تماماً مثل بعض الذين اشرفوا على الاحزاب القومية أو العلمانية، فهناك الذين ينادون بالحكم الاسلامي ولكنهم يعيشون التخلف الذهني، بحيث يصـير الحكم الاسلامي مشكلة للاسلام".
ويذهب في نقده إلى أبعد من ذلك فيقول ان "الاحزاب الاسلامية حتى التي استطاعت ان تنجح في مبادراتها أو مواجهاتها، لا تزال تعيش في حُمى الخمسينات السياسية التي ادخلت الانفعال في عمق الممارسة السياسية".
ومع هذا النقد يعتقد المرجع ان "هناك نقاطاً مضيئة تتمثل في الحركة الاسلامية في تركيا وفي التجربة الايرانية اللتين يرى ضرورة ان تُدرسا، لان الاولى استطاعت أن تتمرد على الجدار العلماني، والثانية لا تمثل تياراً واحداً بل خيوطاً تفصيلية متنوعة". ومع هذا كله يرى أن "الاسلام ليس المسؤول عن التخلف والانكماش بل هناك استغلال سيئ لبعض النصوص أو المفاهيم لحماية الخطوط المتخلفة لمصالح معينة". ولمواجهة المرحلة يطرح المرجع الشيعي شعاراً ذا خطين: الاول رفض الاستكبار العالمي بكل خطوطه والثاني يقول فيه: "كيف نؤصل ثقافة إسلامية انسانية تعترف بالآخر وتعتبر الحوار اساساً لحل المشاكل وننسق مع الآخرين في مواقع اللقاء".
ويخلص إلى عدم اعتبار ما يجري بأنه حرباً صليبية (تشن على المنطقة) عندما تتعلق المسألة بأميركا أو بريطانيا أو كل الذين يتحركون من خلال مصالحهم للسيطرة على الواقع الاسلامي"، ولا يفوته أن يصف موقف الفاتيكان المناهض للحرب على العراق بأنه "رائع جداً"، وعلى المواقع الاسلامية أن تخطط لحملة عالمية وتنسيق في عملية تعاون اسلامي - مسيحي.
السياسة الاستهلاكية
* ننطلق من مقولتك الاخيرة "اننا استغرقنا في السياسة حتى نسينا الله وعلينا أن نستعيد صلاة الحركة وصيام الحركة". ماذا تعني بهذا الكلام؟
- كانت هذه الملاحظة مرتكزة على دراسة الواقع في حركة الاسلاميين، وربما غيرهم من بعض العلمانيين والقوميين، من حيث الاستغراق في السياسة الاستهلاكية، وذلك بالطريقة التي تنفصل فيها عن القاعدة الفكرية التي تحدد للانسان خطوطه العملية في وعي مفردات السياسة أو التحرك في مجالاتها، وخصوصا أن الساحة العامة في المنطقة العربية ادخلت السياسة في باب الاستهلاك بدلا من أن تدخله في حركة الانتاج، ولهذا اصبحت في كثير من اشكالها تمثل الشعار الذي يراد منه اجتذاب الجماهير في غرائزيتها، بدلا من التخطيط للحركة المستقبلية في ما تعطيه المسألة السياسية من سلب هنا أو ايجاب هناك. لذا كنت افكر أن نظرتنا إلى الواقع الذي نعيشه ويمتزج فيه الخاص بالعام والمحلي بالاقليمي والدولي، يجب أن تكون شاملة تبتعد عن التجزيئية. وإذا اردنا أن ندرس المسألة السياسية، اي أن نمارس السياسة بعيدا عن الثقافة والاجتماع والاقتصاد، فاننا لن نحصل على اي حل سياسي للواقع، أو لن نستطيع أن نفهم الواقع السياسي في هذا المجال، لان السياسة عندما تنطلق في اي موقع في العالم فانها ترتبط بجذورها الواقعية في حركة الانسان والحياة.
* ولكن دعوتم مرارا في خطاباتكم وكتاباتكم إلى الانخراط في الحياة السياسية والاستغراق فيها، الا يبدو الان أن ثمة مفارقة أو تباينا؟
- كلا، أن تدخل الحياة السياسية في أي ساحة، معناه أن تستوع كل مفرداتها. فعندما تعيش في مجتمع بدوي أو متحضر فإنّ طبيعة المفهوم السياسي في اطلاق الفكرة وطبيعة الطرح ومراعاة الاجواء تختلف بين موقع وآخر.
إن السياسة ليست مجرد موقف ترفض فيه الاحتلال أو الظلم، بل لا بد لك من أن تعالج مسألة الاحتلال كوسيلة ثقافية تجعل الخطاب السياسي يحمل كل العناصر الثقافية الحية المتصلة بمسألة الاحتلال، حتى يعرف كيف يحرك طاقته في الرفض أو المواجهة.
* هل يعني هذا أن الكلام الذي تطرحونه تلتزمه الحركات والاحزاب الاسلامية؟
- انا لا أستطيع أن اتحدث عن شمولية في السلب أو الايجاب، لكنني أتصور أن مشكلة الاحزاب الاسلامية، حتى التي استطاعت أن تنجح في مبادراتها أو مواجهاتها، انها لا تزال تعيش في حمى الخمسينات السياسية التي ادخلت الانفعال في عمق الممارسة السياسية بحيث تحوّل الجانب السياسي في العلاقة بين القيادة والقاعدة، إلى حالة شعاراتية تجتذب الجماهير اكثر مما تثقفهم. وأقدم ملاحظة في هذا المجال هو اننا لو أردنا أن نقوم باستفتاء ميداني للقاعدة الشعبية سواء عند الاحزاب الاسلامية أو العلمانية والتي تندفع مع قادتها نحو رفض الاحتلال أو الواقع الظالم أو ما شابه ذلك، فاننا نلاحظ انها لا تملك ثقافة ما تتحرك فيها. لتجر عملية استفتاء في مسألة مواجهة اسرائيل تشمل كل الاحزاب العربية القومية والاسلامية، فكم هي نسبة القاعدة الشعبية التي تملك فهماً صحيحاً لطبيعة المشروع الصهيوني. هناك كلام عام أن اسرائيل دولة احتلال ولها اطماع في العالم العربي والاسلامي وثمة تحالف بينها وبين اميركا. اما الآليات والاسلوب والافق وكيف يمكننا أن نطور تجربة ناجحة لتجربة ناجحة اخرى، وكيف يمكن أن ندرس عناصر النجاح في هذه العملية أو عناصر الفشل في تلك العملية فلا شيء عنها. فقضية أن ينجح الفرد في موقع ليست حالة غيبية وانما هي خاضعة لما يتصل بجهده من جهة وللظروف الموضوعية المحيطة بموقعه وحركته سواء كانت ظروفاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ما يجعله يفكّر بأن نجاحه في موقع معين لا يعني نجاحه في الموقع الآخر. قد ينجح في مواجهة معينة لان الطرف الآخر لم يكن مستعداً للأساليب التي حركها، لذلك عندما تتضح الاساليب ويحاول أن يحتويها فإنه لا يستطيع أن يكررها، ولا بد من أن يبحث عن جديد يستغفله فيه اذا أمكنه أن يستغفل العدو.
المسلم والحكم
* في كتابك "الحركة الاسلامية" الصادر في الثمانينات تحدثت طويلاً عن موضوع الاحزاب وقلت: إن الاحزاب الاسلامية "صنعت قاعدة وقدمت الاسلام كمشروع متكامل"، فهل هذا الكلام لا يناقض ما تطرحه الآن؟
- لا، ليس ثمة تناقض. انا كنت اقول إن المجتمع الاسلامي بشكلٍ عام كان يعيش الاسلام بفعل عصور التخلف بعيداً عن الجانب الحركي فيه. حيث الانسان المسلم لا يعيش مسؤولية الحكم أو الحاكم وانما يعتبر عملية الحكم والحاكم خارج نطاق اسلامه وتدينه. ونستذكر هنا بعض الكلام الشعبي الذي كان يتحدث عن مقولة: "ما لنا والدخول بين السلاطين"، كأن مسألة السلاطين لا ترتبط بالوجدان الشعبي الا من خلال الانفعال بها سلباً أو ايجاباً، أو علينا الاّ نتدخل على أساس أن هذا الامر ليس من شؤوننا. وهكذا كانت الفكرة من خلال هذه الذهنية المتخلفة، أن القيمة الروحية للانسان ولا سيما العالم الديني هي الابتعاد عن السياسة، حتى انه عندما يتحدث عن انسان في مستوى القيمة يقال: "لا شغل له في الدنيا خربت ام عمرت، ليس له الا سجادته وكتابه وقرآنه" وما إلى ذلك، وكأن البعد عن الحياة جزء من الدين. وهذا كلّه جعل الانسان المسلم في شكل عام يعيش على الهامش وليس له إلا الانفعال حيال الحكم المسيطر عليه سواء سلباً أو ايجاباً. وهذا ما لاحظناه في تاريخ الحكومة العثمانية اذ لم يلاحظ في اغلب هذا التاريخ، أن هناك حركات فاعلة واجهت الظلم الذي كان يعيشه الناس.
وفي الواقع، فإن قيمة الحركات الإسلامية التي تشكل جزءاً من المجتمع في تخلفها وتقدمها، ولا نتحدث عن شمولية في هذا المقام، تنبع من أنها استطاعت أن تطلق هذا الفكر وتعلن أن الاسلام ليس مجرد عبادات أو معاملات فردية أو عناوين طائرة في الهواء أو يمثل اخلاقاً مثالية لا علاقة لها بالحياة، مما جعل الناس تحدد موقفها من هذا الخيار بين من يرتضيه ولا يرتضيه، وفي هذا المجال فإن هذه الحركات استقطبت قاعدة شعبية واسعة وعندما نتحدث عما حققته هذه القاعدة فليس معنى ذلك انها تمثل مستوى من الوعي للاسلام واصالته وحضارته وانفتاحه على العالم لان الذين يشرفون على الاحزاب الاسلامية هم تماماً مثل بعض الذين أشرفوا على الاحزاب القومية أو العلمانية. فهؤلاء جميعاً وإن اختلفوا في وجدانهم الثقافي، إلا أنهم قد يعيشون التخلف الذهني بحيث تشكل تجربة الحكم الاسلامي مثلاً مشكلة للاسلام اكثر مما تكون حلاً له، وخصوصاً عندما تعطي صورة سلبية عن الخطوط الاسلامية الثقافية والسياسية والاجتماعية كالذين يطرحون الاسلام على أساس انه يمثل ديكتاتورية الحكم الاسلامي بحيث لا يملك المسلمون أن يقفوا امام الحاكم ليعترضوا أو يثوروا عليه أو ما شابه ذلك.
وربما نجد أن هناك من يخلط في تناوله للقضايا بين الرؤية المعاصرة أو التاريخية بطريقة أو بأخرى، كما أن عدم وجود صيغة قانونية مكتوبة بطريقة علمية موضوعية تفصيلية للاسلام في عملية الحكم، يجعل الاجتهادات كثيرة وواسعة إلى حد يمكن أن تمثل اقصى حالات التخلف، كما قد تمثل اقصى حالات الانفتاح الذي ربما يخرج به هؤلاء عن الاسلام في هذا المجال. لذلك ثمة فرق بين وجود قاعدة شعبية تعيش هذا المناخ وان يتم التحدث عن هذه القاعدة في شكل ايجابي مطلق، وهذا ما لاحظناه في الاحداث الاخيرة التي حصلت وخصوصاً في 11 ايلول، ما جعل البعض من القادة الاسلاميين يفكر في طريقة القفز في الفضاء من دون درس النتائج السلبية أو الايجابية في هذه الحركة. وكذلك لاحظنا أن احداث 11 ايلول ساهمت في تقديم خدمة لاميركا على مستوى العالم لم تحلم بها في كل تاريخها، من دون أن نسيء إلى إخلاص أي أحد، لكن هناك فرق بين أن تكون مخلصا أو مصيباً.
* اذاً أين مشكلة الفكر الاسلامي والحركية الاسلامية وخصوصا في هذه المرحلة حيث الاحباط والعجز اللذان تعيشهما الحركات الاسلامية؟
- مشكلة الحركة الاسلامية هي أن هناك خطوطا عامة يلتزمها الجميع مثل "ان الاسلام عقيدة ونظام" أو "ديننا سياسة وسياستنا دين" ولكن ما هي التفاصيل، وما هي صلاحية الحاكم الاسلامي؟ هل هذا الحاكم هو انسان يخضع للمحاسبة الشعبية ام انه يملك كل الصلاحيات ويستطيع أن يلغي الدولة؟ هل الحاكم الاسلامي، بقطع النظر عن قضية المقدسات التاريخية التي تتصل بالانبياء والائمة، هل يملك هذا الحاكم القداسة ايضا ام انه مجرد انسان يملك ثقافة وتجربة وموقعا أو امتدادا من الشعب من خلال استفتاء شعبي وما إلى ذلك، ولا بد من أن يحاسب كما يحاسب اي انسان آخر؟ من حق الانسان المسلم أن يقف أمام الحاكم ليحاسبه ولا يجوز للحاكم أن يحاسب هذا الإنسان لأنه انتقده. لعل هذه هي الصيغة الاسلامية الحقيقية التي نستوحيها من حركة النبي محمد(ص) عندما وقف أمام اصحابه في آخر حياته، وقال لهم: "انكم لا تمسكون أو تعلقون عليّ بشيء لأني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرمت إلا ما حرّم القرآن". أي أن النبي يقول لهم أنا في آخر حياتي أقدم حسابي لكم وأقول لكم إنني لم أخالف القانون. والى جانب ذلك نتوقف عند حادثة أخرى لها دلالاتها العميقة، وتتصل بموقف النبي(ص) من شخص جاءه عندما كان يوزع الغنائم بعد معركة حنين وكان هذا الشخص حديث العهد في الاسلام، فقال": "اعدل يا محمد"، فلم يعلق النبي ولم يحاسبه أبداً على هذا الكلام.
وعلى الخط نفسه، يستوقفنا أحد نصوص "نهج البلاغة" للامام علي، جاء فيه: "لا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي أو لعدل يعرض عليّ فان من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه اثقل. فلا تكفوا عن مشورة بحق أو مقالة بعدل فاني لست بفوق أن اخطئ ولا آمن ذلك من فعلي الا أن يكفي الله من نفسي ما هو املك به مني". علما أن الشيعة يعتقدون أن علياً معصوم. وهو هنا يدعو الناس إلى أن ينقدوه ويحاسبوه على حكمه.
ونقرأ ايضا في الجانب الاخلاقي والعملي، أن علياً كان جالسا مع اصحابه وبينهم شخص من الخوارج الذين ثاروا عليه، فظهرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال الامام: "إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها (انحرافها)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته". فقال هذا الخارجي: "قاتله الله كافراً ما افقهه"، فقام عندها القوم يريدون النيل من هذا الرجل الذي كفّر الإمام، لكنه أشار إليهم بالتزام الهدوء وقال لهم: "رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب".
بناءً على ما تقدّم، ومن خلال أكثر من شاهد فإننا نرى أن أي شخص في الاسلام يملك حق محاسبة الحاكم وان الاخير بحسب طبيعة علاقته بالناس لا يملك أي قداسة في مسألة الحكم لأن الحاكم حتى لو كان نبياً أو إماماً ليس فوق القانون. وعلى هذا الأساس فإن في الحركات الاسلامية مناخاً يجعل الحاكم فوق النقد وربما يُحاسب الذي ينتقده بسبب هذه الهالة من القداسة بتهمة الاساءة اليه. لذلك نقول إن ثمة مناخاً إسلامياً، ولكن ليس من الضروري أن يكون في الخط الذي يمثل نقاء الاسلام وصفاءه.
* قلت في أحد أحاديثك الاخيرة أن الفكر الاسلامي توقف عن الانتاج والعطاء منذ 500 سنة. لمَ هذا التاريخ بالذات؟
- تحدثت عن الخمسمئة عام للدلالة على اننا لا نعيش الواقع. وبالتالي تجمّدنا عند تلك المرحلة، وهو ما أدّى إلى تراجع الإسلام الحضاري عن الركب العالمي.
* يتراجع رغم كل ما نشهده من حضور وتأثير للحركات الاسلامية اليوم؟
- كما قلت الحركة الاسلامية لا تمثل وحدة، وقد تلتقي من فوق، اما القواعد فقد لا تملك هذا اللقاء الذي يجعلها تتوحد الا في المسائل العاطفية التي تجذب أو تتحدى المشاعر الاسلامية كالقضية الفلسطينية وما إلى ذلك.
مشكلة الغرب
* ولكنك في نقدك المستمر للحركات الاسلامية تلتقي مع نقد الغرب؟
- أعتقد أن مشكلة الغرب انه يطرح المسألة في شكل شمولي ويحاول أن يعطي حكماً مبرماً وساحقاً مفاده أن الحركات الاسلامية تمثل التخلف، ونحن نرفض ذلك لاننا نعرف أن ثمة حركات تملك الرؤية المعاصرة والاسلوب الواقعي للعمل الاسلامي، وتحاول أن تنفذ من الكثير من الفجوات في الواقع السياسي. قد لا نتكلم ايجابياً عن هذه الحركات، بشكل عام، لكن لا يجوز إلا أن نسجل لها بعض الايجابيات في مسألة المرونة الواقعية. عندما ندرس الآن تجربة الحركة الاسلامية في تركيا نجد انها بقطع النظر عن مفرداتها الفكرية والثقافية قد استطاعت أن تتمرد على كل هذا الجدار العلماني الذي حاول أن يصادر الاسلام في هذا البلد. واستطاعت أن تحصل على اكبر قاعدة شعبية من خلال شعاراتها الاسلامية، اضافة إلى السلوك العام لاكثر من قيادة اسلامية، وحاولت بطريقة أو باخرى أن تمارس المرونة في اختراق بعض الفجوات في النظام العلماني هناك أو في السياسات الدولية والاقليمية. إن هذه التجربة التركية لا بد أن تدرس. وكذلك التجربة الايرانية لان البعض يرفعها إلى السماء والبعض الآخر يسقطها إلى الحضيض. القضية ليست كذلك لانها لا تمثل تياراً واحداً بل خطوطاً تفصيلية متنوعة. ربما يتحدث البعض عن إيجابيات في التيار الاصلاحي (في ايران) والبعض الآخر يرى إيجابيات في التيار المحافظ باعتباره يحرص على استقامة الفكر الاسلامي وما إلى ذلك. لذلك علينا دائماً أن ندرس كل حركة اسلامية بايجابياتها وسلبياتها، وأن نعرف أن الحركات الاسلامية مثل الحركات العلمانية لا تعيش في المطلق، ولا تتحرك خارج الظروف الموضوعية التي تحيط بك، وعندها لا يكفي أن تنادي بالعدل، في حين أنّك محاصر بألف موقع من مواقع الظلم. ولا يكفي أن تؤمن بالفكرة أو تحرّكها في الوجدان الشعبي لتنتصر، بل لا بد لك أن تدرس الارضية لتتحرك عليها.
إن المشكلة في تقويم الحركات الاسلامية هي أن بين الناس من ينظر اليها على اساس الاسود أو الابيض في المطلق. ونحن نعرف أن الظروف الموضوعية التي تحيط بك قد تحولك إلى اللون الرمادي. لست من الذين يرفضون اللون الرمادي في المطلق، بل اعتقد أن حركتك حتى في الجانب الشرعي يمكن أن تنطلق في الجو الرمادي على اساس درس الاصلح والاهم.
الاجتهاد المفتوح
* يقال إن الجمود الذي يعيشه الفكر الاسلامي يتحمل المسؤولية الكبرى عنه الفكر الشيعي كون باب الاجتهاد فيه مفتوحاً؟
- لعل هناك تفصيلاً في هذه المسألة، حيث أن الآخرين من اخواننا من أهل المذاهب الاسلامية الاخرى (السنّة) بدأوا يفتحون باب الاجتهاد، ويتحركون في درس المستجدات والمتغيرات في ذهنية قد تنفتح في شكل واسع بعيداً عن دائرة اجتهادات السابقين وذلك بطريقة اجتهادية معاصرة. أما بالنسبة إلى الفكر الشيعي واجتهاده، فإنه ربما انطلق في البداية في أفق كبير، ولكنه بدأ ينكمش إلى حد ما، والسبب تكبيل حركة الاجتهاد بمقدسات معينة مثل قضية ينتهي مجتهد إلى ما يخالف مشهور العلماء من المتقدمين، ومشهور العلماء ربما يملك، لدى الكثيرين في الاجواء الحوزوية، شيئاً من القداسة لا ينظرون اليه في القواعد الاصولية، ولكنهم يلتفتون إلى الانسان الذي يمكن أن يُفتي بفتوى تخالف المشهور على اساس الدليل، وهنا قد يتعرض بعض الاشخاص لمشاكل.
* أي مثل المشاكل والانتقادات التي تتعرض لها مرجعيتك؟
- ربما كنت من تعرض لهذا الأمر، ولكن ثمة علماء من قبلي تعرضوا لهذه المشاكل.
* الانكماش الذي تتحدث عنه هل يعود إلى ثقافة الحوزات الدينية ام إلى القاعدة؟ من هو المسؤول؟
- سبب هذا الانكماش ليس سياسياً، بل انه البقاء في دائرة القواعد المعلبة التي تحركت في الجانب الاصولي والفقهي.
* يأخذ الغرب على الاسلام انه فكر نمطي اي انه لم يخرج من الانماط التي عاش فيها منذ قرون؟ وكل من حاول الاجتهاد والخروج بدءاً من سماحتك اضافة إلى شخصيات اكاديمية مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد وعشرات الآخرين قوبلوا بحرب شعواء؟
- إن مسألة أن تقابل بحرب شعواء ليست مشكلة كبيرة، بل انني ازعم أن العالم غير الاسلامي عاش هذا النوع من المشاكل، فمن طبيعة المجتمعات انها لا تلتقي مع الخارج عن المألوف، وعندما نريد أن نضرب مثلاً ولو سياسياً، يتصل بدائرة الحرب المرتقبة على العراق التي نعيشها الآن، نرى أن الإعلام الغربي يتحدث عن المحاور المعارضة للسياسة الاميركية بطريقة تشبه طريقة التكفير والتضليل الموجودة عندنا. وهكذا نلاحظ مثلاً بالنسبة إلى المواقع العلمانية، فنحن عندما ندرس الماركسية وتحركها في الاتحاد السوفياتي أو في الصين قبل التطورات الاخيرة، كنا نجد نوعاً من التكفير العصري أو التضليل المتبادل. ولا ننسى كيف أن الاتحاد السوفياتي رجم (الرئيس اليوغوسلافي الراحل) جوزيف تيتو بالانحرافية وما إلى ذلك. فهذه من المشاكل التي يرزح تحتها المجتمع الإنساني عندما ينطلق أفراده من خلال تعصبهم لفكرةٍ ما أو لسياسةٍ ما أو وضعٍ ما. لذلك فإن هذه المسألة ليست حكراً على العالم الاسلامي، ولعلها مشكلة العالم الثالث بما فيه الشعوب الموجودة في اميركا اللاتينية، ومشكلة المجتمع الذي لم يتطور كثيراً.
إن الاسلام ليس مسؤولاً عن هذا التراجع، لأن هناك فرقاً بين أن يكون التخلف منطلقاً من قداسة اسلامية تحميه، أو من استغلال سيئ لبعض النصوص أو المفاهيم، لحماية هذا النوع من الخطوط المتخلفة لمصالح معينة هنا وهناك. واننا نقول للغرب صحيح اننا عشنا في عصور متخلفة وفقدنا الكثير من الاصالة الاسلامية والثقافية، لكن الغرب يتحمل مسؤولية كبرى في هذا المجال، لأنه فرض علينا هذا التخلف من خلال حركة الاستعمار. ونحن نعرف أن الغرب بما فيه الغرب الاميركي الذي يتحدث عن ضرورة إصلاح العالم الاسلامي وادخاله في الديموقراطية، يحرس الكثير من انظمة التخلف وسيزيد من حراسته لها في المستقبل رغم كل ما يطرحه من شعارات التقدم والتطور. المشكلة التي نواجهها في هذا النوع من الاحكام هي النظرة غير الموضوعية. نحن نؤمن بأن لدينا سلبيات ولكن ثمة تياراً اسلامياً كبيراً يعمل على التخلص من هذا الواقع.
ومن الطبيعي أن عملية التغيير، والتي مر بها الغرب قبلنا بأقصى ما يكون من خلال الحروب التي حصلت هناك، لا بد أن تواجه بمثل هذه التحديات.
المستضعفون والمستكبرون
* تحدثت مراراً عن اهمية "الشعار" فما هو الشعار الذي تراه جديراً بهذه المرحلة؟
- عندما تريد أن تدخل الحرب أو تريد أن تحرك الجماهير، فمن الطبيعي أن توازن بين الجانب العقلاني والعاطفي، لأن الانسان ليس عقلاً أو عاطفة فقط، لا بد لنا في كثير من الحالات أن نزاوج بين الاثنين. وان الشعار يمثل احد الاسلحة النفسية التي تصنع عنصر الاثارة للناس حيث تجعلهم اقوى في مواجهة التحديات الكبرى التي تحاول أن تخاطبهم بطريقة التبريد النفسي.
وأعتقد أن شعار المرحلة لا بد أن يتحرك في خطين:
الأول رفض الاستكبار العالمي بكل خطوطه ومفاعيله ومعطياته، وجعل الصراع معه يندرج تحت عنوان صراع بين المستضعفين والمستكبرين، وهذا شعار يحتم علينا اللقاء بكل التيارات المعادية للاستكبار في العالم. ونحن نلاحظ حتى في التظاهرات الاخيرة أن الذين رفعوا شعاراً ضد الحرب على العراق، هم مجتمع الشباب، في الغرب والشرق الذي يقف ضد العولمة، مما يعني أن هناك حركة للمستضعفين قد لا تأخذ هذا العنوان حرفياً، لكنها تعيشه وتتحرك فيه. وفي تصوري أن ما يحدث الآن في الادارة الاميركية وعند حلفائها ينطلق من أن هناك استكباراً عالمياً اقتصادياً وسياسياً وامنياً يعمل على مصادرة حقوق المستضعفين سواء في صراعاته بين القوى المكونة له حين يتحرك أحدهم ليأخذ حصة أكبر من الآخر، أو في توحد قواه لإسقاط مصالح المستضعفين تحت اعتبارات معينة. هذا الشعار لا بد لنا أن نطرحه وذلك بالطريقة التي تجعل كل قضايانا وخصوصاً المسألة الفلسطينية تندرج في خانة الصراع بين استكبار واستضعاف، فضلاً عن كل قضايا الشعوب الافريقية واللاتينية، وكذلك مسألة الحرب ضد العراق بما هي احتلال اميركي لهذا البلد والمنطقة.
أما الشعار الثاني فيتصل ببناء ثقافة اسلامية انسانية تعترف بالآخر وتعتبر الحوار أساساً لحل المشاكل في هذا المجال، وتنسق مع الآخر في مواقع اللقاء على أساس: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} تتجه لإصلاح الواقع السياسي. وفي هذا المجال فإننا لا نستطيع أن نشرّع للنظام العراقي الطاغي الذي صادر شعبه والمنطقة كلها، تحت سيطرة أميركا التي تصنع كل يوم طاغية لتستغني عنه بعد ذلك لمصلحة طاغية آخر ملمعاً بثياب ديموقراطية، لذا علينا أن نعمل على اساس التخطيط للخروج من كل هذا النوع من التخلف السياسي الذي يمكن بعض الاجهزة من أن تفرض على الشعوب أشخاصاً ليلعبوا دور حرّاس مصالح المستكبرين، وان نعمل أيضاً على أساس أن يملك الشعب حريته في دائرة كبيرة جداً في المسألة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإنني اتصور أن أي فكر يحمل القيمة عند أصحابه لا يخاف من الحرية.
* في هذا الاطار اين تأتي دعوتك للمسلمين إلى الانخراط في الاحزاب الغربية؟
- بين هذين الخطين اللذين اشرت إليهما سابقاً، لا بد لنا أن نؤكد حقيقة، هي اننا لسنا ضد الغرب، بل ضد الادارات الغربية التي نشعر بأن شعوبها تعارضها كما نعارضها نحن. لذلك نحن ضد الادارة الاميركية ولكن لسنا ضد الشعب الاميركي. نريد أن نكون اصدقاء للعالم، وهذا خط إسلامي. وأكرر إننا لسنا ضد الغرب بل نحاول أن نحاوره، وفيه الكثير من المثقفين المنصفين، وهناك اناس لا يعادوننا من خلال عقدة بل من جهل ودعاية مضادة. إن المطلوب هو النفاذ إلى داخل الغرب لنحسّن تعريف الشعوب الغربية بقضايانا. وقد حمّلنا المسؤولية لكل المهاجرين ليندمجوا في المجتمعات الغربية ويدخلوا في احزابها مع التزام المبادئ، ويؤثروا في المجتمعات التي يعيشون فيها.
* في هذا السياق كيف تلقيتم موقف الفاتيكان المعارض للحرب على العراق؟
- نوجه تحية إلى الفاتيكان ممثلاً بالبابا في هذا الموقف الرائع جداً، والذي اصبح يمثل موقفاً مسيحياً شبه شامل، واننا ندعو المواقع الاسلامية إلى أن تخطط لحملة عالمية في مثل هذا المستوى، حتى يمكن القيام بعملية تعاون اسلامي - مسيحي بغية مواجهة الاستكبار العالمي حتى يمكننا تطويق الكثير مما يخطط له المستكبرون.
* نفهم من كلامك أن الحرب الاميركية على العراق ليست كما وصفت سابقاً "صليبية" ضد المسلمين؟
- لا أعتبر أن هناك حرباً صليبية عندما تتعلق المسألة بأميركا أو ببريطانيا أو كل الذين يتحركون من خلال مصالحهم في السيطرة على الواقع الاسلامي. ربما يحمل بعض الناس من هؤلاء عقداً تنضم إلى حركة المصالح، وهذا ما لاحظناه في ذهنية الرئيس (الاميركي جورج) بوش الذي يعيش في ذهنية دينية ضبابية مشوشة لا تنطلق من خلال القيمة بل من حال ذاتية تحاول أن توفق بين الجوانب الذاتية للدين والجانب الاجتماعي والانساني، وهذا ما لاحظناه ايضاً لدى رئيس وزراء بريطانيا (طوني بلير) الذي كان يتحدث عن الجانب الاخلاقي في ضرب الشعب العراقي تحت شعار انه يريد اسقاط النظام العراقي، ونحن نعرف انهم قادرون على اسقاطه بأكثر من وسيلة أمنية، لكن القضية عندهم كيف يتمكنون من اسقاط مواقع القوة في العالم العربي والاسلامي لتبقى اسرائيل باعتبارها الحليفة الوحيدة لأميركا، والتي يُراد لها أن تسيطر على المنطقة. لذلك كان شعارنا الدائم: فتِّش عن أميركا وحلفائها وعن إسرائيل وعن عناصر الضعف عندنا.