ما زلنا أمة الأشخاص.. لا المؤسسات

ما زلنا أمة الأشخاص.. لا المؤسسات

التحديات المتراكمة التي واجهتها المنطقة في القرن الماضي وأخطرها اغتصاب فلسطين والعجز عن مواجهة الكيان الصهيوني، أضيفت إليها مع بداية القرن الحالي تحديات جديدة لا تقل خطورة، تتمثل الآن بما يخطط للمنطقة من جديد، وبما يحضر لها من خلال العدوان الأميركي عليها بدءاً من العراق.

ودائماً في مثل هذه الظروف العصيبة يكون الفزع إلى الله أولاً، ومن ثم إلى القادة والعلماء والمراجع المستنيرين.

"الشراع" التقت المرجع الإسلامي الشيعي الأعلى السيد محمد حسين فضل الله، وأجرت معه حواراً استثنائياً، تحدث فيه عن المشكلات والتعقيدات العميقة القائمة، بأسلوب ومنهجية الثائر على الطغيان وفوضى المفاهيم وقوى الخرافة والتخلف، التي قال إنها استطاعت النفاذ إلى الحركات الإسلامية.

في الحوار مع السيد فضل الله، نفحاتٌ من فكر هذا المرجع النجفي الذي قال إنه سيذهب إذا سمحت الظروف إلى النجف، مشيراً إلى أن لهذا المكان جاذبية سحرية، ليست موجودة في مكان آخر، ولا في قم التي لم تستطع الدخول إلى الوجدان الشيعي.

وهنا وقائع الحوار:

الواقع المؤلم:

س: بين مطلع القرن الحالي ومطلع القرن السابق، لم تعد التحديات التي تواجه الأمة من نوع تلك التحديات التي تصدى لها المجدّدون والمستنيرون كالإمام محمد عبده والإمام جمال الدين الأفغاني، تحديات اليوم أخطر، وهي تستهدف الأمة في انتمائها وثقافتها ومصيرها، وما يعدُّ للعراق ويحضَّر له بمثابة زلزال مدمر من حيث النتائج المتوقعة. بصفتكم واحداً من كبار المراجع المجددين في هذه الفترة العصيبة وتتحملون مسؤولية تاريخية في مواجهة هذا الامتحان، كيف تستشرقون آفاق المرحلة المقبلة وتهديداتها وسبل المواجهة؟

ج: في دراستنا لهذا الفارق الزمني الشاسع بين بداية القرن السابق والقرن الحالي، نجد أن هناك قواسم مشتركة للمشكلة، ومن أهمها هذه الفوضى الثقافية التي استطاعت أن تصنع في شخصية الإنسان المسلم المعاصر أو العادي بشكل عام بعض السلبيات النفسية، التي امتدت إلى أن تتحول إلى سلبيات حركية، ساهمت في الكثير من الفوضى الاجتماعية وربما السياسية، فالتخلف الذي كان يسيطر على الأمة أبعدها عن مراقبة المتغيرات والتطورات التي تحيط بالمنطقة، حتى إننا كنا نلاحظ في هذا المجال أن هناك عزلة ثقافية وسياسية وعلمية عن كل العالم، كما لو أن ذلك العالم لم يكن موجوداً في واقع الذهنية التي كانت تسيطر على إنسان المنطقة.

وهكذا رأينا كيف استطاعت التيارات الثقافية والسياسية أن تنفذ إلى الأمة من خلال الكثير من العناوين الفضفاضة التي كانت تستهوي العاطفة، ولكنها لا ترتكز على الدراسة العقلانية لما وراء الشعار، ورأينا كيف استطاعت حركة الجاسوسية الغربية بكل تنوعاتها، أن تنفذ إلى مفاصل كل التمزقات العشائرية والقبلية في المنطقة، والتي كانت تمثل الواقع الاجتماعي.

ولهذا كانت الزعامات القبلية تخضع لهذا الجاسوس أو ذاك في خضم صراعات الجاسوسية الغربية، لتحصل على مالٍ أو لتستقوي بموقع على موقع، حتى إن الانتفاضات الشعبية التي كانت تحصل وتوحي بوجود حيوية دفينة للأمة، كانت تتحرك بشكل فوضوي بعيداً عن التخطيط، لأن القضية كانت قضية اندفاع نحو المواجهة لعدو هنا وعدو هناك، من دون دراسة الوسائل والآليات التي تتحرك في خط المواجهة. وفي هذا المجال، نلاحظ أن المنطقة، سواء العربية أو الإسلامية، بدأت في الخمسينات تفكر في التحرر من الاستعمار بعدما كانت في مرحلة الأربعينيات تتخذ موقف المتحفظ، ما جعل الاتجاهات الفكرية والثقافية في تنوعاتها السياسية تنشط ما بين القومية والماركسية وذلك في ظل في الحرب الباردة التي كانت تخيِّم على الأجواء..

في هذه المرحلة دخلت إسرائيل على الخط، انطلاقاً من اللعبة الدولية التي خططت لزرعها في المنطقة بهدف إيجاد فوضى على المستوى الثقافي والمستوى السياسي الحركي، وقد خضنا المعركة مع إسرائيل من دون أي تحضير، ومن خلال نقاط الضعف التي كانت لا تزال تؤكد نفسها في داخل الأمة، ثم سرعان ما أغرقت المنطقة بالصراعات الإيديولوجية، بحيث إن هذه الصراعات القادمة من الغرب، أصبحت البديل عن الصراعات المذهبية في الوسط الإسلامي أو الطائفية على المستوى الديني بشكل عام، لذا غابت عن الساحة في الخمسينات والستينات والسبعينات المشاكل الدينية بشكل حاد، وانكفأت لتعيش في الظل، في وقت ظل الهدف الاستكباري الغربي الإسرائيلي هو إسقاط روح المقاومة السياسية لدى هذه الشعوب، حتى لا تمثل قوة في مواجهة إسرائيل بما تمثله من علاقات بالأخطبوط العالمي على المستوى السياسي والاقتصادي.. وبهذا عاشت المنطقة في فوضى فكرية أخذت من التاريخ الثقافي أو من الذهنية الشرقية عناصر العصبية، وهذا ما فعلته أيضاً الإيديولوجيات العلمانية والقومية والماركسية في التيارات غير الإسلامية، فمثلما كانت تتحرك الصراعات الدينية لتتهم هذا الجانب أو ذلك الشخص أو تلك الجهة بالتكفير والتضليل، فقد استخدمت التيارات العلمانية الأفكار نفسها بتعابير أخرى، مثل التحريفية والخيانة وغير ذلك، فصنعت فتناً سياسية حزبية إيديولوجية شغلتنا عن كل ما حولنا، ما أدى إلى عدم تحقيق الأهداف التي حددتها هذه الإيديولوجيات.

بناءً على ما تقدم، كان من الطبيعي أن يفسح سقوط الكثير من تلك التيارات ذلك المجال لولادة الحركات الدينية، وفي مقدمتها الحركات الإسلامية، التي استفادت من سقوط تلك التيارات بدرجة أو بأخرى، ومن ثمَّ لاحظنا أن هذه الحركات الإسلامية، لم تكن على استعداد لأن تمثل وحدة ثقافية، تملك وضوح الرؤية من موقع الأصالة للمتغيرات وللتطورات الثقافية، وخصوصاً من خلال التعاطي مع النصوص الدينية والمفاهيم الإسلامية التي نحتاج إلى إعادة دراستها على ضوء الآفاق الجديد، ومن موقع متميز، بمعنى أن الفكر الإسلامي الذي عاش قبل مئات السنين، ربما كان خاضعاً لمواصفات أو معطيات أو ظروف فرضت هذا الخط الفكري أو ذاك الخط، ما ينـزع عنه صفة الفكر المطلق الذي يحمل القداسة التي يحملها الإسلام، وهكذا غرقت الحركات الإسلامية في فوضى مفاهيمية أدت بها إلى الكثير من المشاكل الداخلية والخارجية، والتي ما زلنا نعاني منها حتى الآن.

ولذلك نعتقد أن المشكلة في المنطقة العربية والإسلامية، وربما تمتد هذه المشكلة إلى مناطق العالم الثالث، هي أننا نرى ونلاحظ أن الانطلاقات التي كانت تحاول أن تهز المنطقة بطريقة أو بأخرى لتدفعها إلى الأمام، كما حصل مع الثورة المصرية، وبعض الانتفاضات الأخرى هنا وهناك، أو كما حصل على الجانب الإسلامي مع الثورة الإسلامية... إنّ هذه الانطلاقات طُوِّقت بالكثير من التعقيدات الداخلية التي أكلت نضارتها وأصالتها وحوَّلتها إلى ما يشبه الحالة العصبية، ما أبعدها من أن تشكل استجابةً فعليةً لتحرير الفكر والواقع، لذا فإني أتصور أن ما نحتاجه هو شخصيات قادرة على أن تربط بين القديم والجديد، وأن تحرر الفكر من الخرافة وتطرد عنه عناصر التخلف، وأن تجعل الأمة تعيش وضوح الرؤية للواقع من خلال فكر ينفذ إلى قلب الواقع، وينفتح على العالم الجديد بكل إيجابياته وسلبياته وتطوراته، ويدخل في العصر، لا من خلال السقوط تحت كل مفاعيله، ولكن من خلال أن يعيش الإنسان قضايا هذا العصر وتطلّعاته وحاجاته المعاصرة.

وفي رأيي، فإن قوة التخلّف لا زالت هنا وهناك تعمل على أن ترجع الواقع إلى الوراء على الرغم من وجود عناصر أصيلة منفتحة ومثقفة وواعية، إلا أنها ما تزال تعاني في هذا المجال من حصار واقع التخلف الممتد في الكثير من مفاصل المجتمعات الشعبية، والمنطلق من مواقع الأنظمة التي تعيش في الأصل ذهنية التخلف السياسي والفكري، والتي تتحرك من خلال ارتباطات جعلت دورها الوظيفي يقتصر على حماية مصالح القوى الاستكبارية والحفاظ على مصالحها هي، ولا شك أن الفكر الأصيل المنفتح على قضايا الحرية والعدل والعلم، لا يمكن أن يتناسب مع مواقع هؤلاء الذين لا يمثلون أي قيمة في المعنى، وأي قيمة في السياسة، وأي قيمة في الإنسان، خصوصاً وأنهم يعيشون الجهل والتخلف ويريدون فرضهما على الواقع بالقوة.

الروح الشعبية:

س: في هذا السياق، هل نتوقع أن تنتهي الحركات الإسلامية إلى ما انتهت إليه تلك التيارات من سقوط وفشل؟

ج: إن أي حركة، سواء كانت إسلامية أو علمانية، تخضع في مسألة بقائها أو زوالها أو قوتها وضعفها، إلى ظروف داخلية وخارجية، وخصوصاً في مسألة أدائها، وأسلوب معالجتها للمشاكل التي تعاني منها، فمن الممكن جداً أن ينشأ في الوسط الإسلامي، كما في الأوساط الأخرى، بعض الفئات الطليعية التي تستطيع أن تدرس الأخطاء المميتة أو التمزقات الداخلية، لتتجاوزها إلى محطة وحدوية أرقى. وفي هذا المجال، فإننا عندما ندرس الحركات الإسلامية في كل تمزقاتها وتنوعاتها في العالم، نجد أن هناك أكثر من حركة تملك وضوح الرؤية وحس المعاصرة، والقدرة على مواجهة التحديات بطريقة مدروسة، ما يبشر بمستقبل مشرق.

إلاّ أن هناك نقطة تتميز بها الحركة الإسلامية عن الحركات السياسية الأخرى، وهي أنها حتى لو ضعفت أو انكفأت، فإن الروح الديني الذي يعيش في الساحة وفي المسجد وفي التقاليد والعادات وما إلى ذلك، يبقى القاعدة التي يمكن للإسلام السياسي أن يستفيد منها للنهوض من جديد عندما تتهيأ له الظروف الملائمة، أما بالنسبة إلى الحركات الأخرى، فإنها لا تملك الجذور الشعبية التاريخية التي يمكن أن تمدها في كل مرحلة بروح النهوض السياسية أو القاعدة الشعبية، وخصوصاً عند التحديات.

قوى الخرافة:

س: المنطقة على وشك التعرض لعدوان جديد من خلال الحرب على العراق، وكما أصبح معروفاً ومعلناً، سيترافق هذا العدوان مع إعادة تشكيل جديد للمنطقة، تشكيل من نوع جديد يتخطى محاولة تطويق قوى المقاومة والممانعة، إلى حدود فرض نمط التفكير، وحتى فرض فهم للإسلام بطريقة معينة، وكلها تحديات جديدة لم تطرح سابقاً، واللافت أن معظم النخب العربية والإسلامية تواجه هذه المشكلة أو التحديات وفقاً لمعطيات مرحلة انتهت؟

ج: هناك مشكلة موجودة، وهي أن الغالب في الحركات الإسلامية والقومية وغيرها، أنها استغرقت في عملية الاستهلال السياسي للمفردات السياسية التي تتصل بعالم التحرر من الاحتلال ومن النظام الطاغي في الداخل، أو عالم المواجهة للقوى التي تريد مصادرة المنطقة من خلال الضغط الاقتصادي والسياسي والأمني، بحيث إن هذه الحركات استغرقت في المفردات السياسية، بحيث ذابت في هذا المناخ السياسي، ما جعلها في عزلة عن المناخات الثقافية التي تمثّل خطراً أعظم من السيطرة السياسية، ففي هذا الإطار، نلاحظ أن هناك نوعاً من أنواع الرفض للانخراط في الموضوع الثقافي والانكفاء عنه، الأمر الذي أدى ببعض الحركات الإسلامية، المستغرقة في الشأن السياسي، إلى اختراقها من قبل القوى المتخلّفة التي تنتج الخرافة، ما أوقعها في الكثير من الوحول الثقافية والفكرية.

صناعة الطغاة.

أما بالنسبة إلى الاتجاهات الأخرى، مثل الاتجاهات القومية والماركسية، فقد تحولت إلى أن تكون مجرد تجميع للنخب، على طريقة ضباط بلا جنود، ولهذا فإننا عندما ننفذ إلى القاعدة الشعبية هنا وهناك، فإننا لا نرى التزاماً سياسياً ثقافياً في ساحة الوعي لدى القاعدة الشعبية، إذ إن الجميع قد يطرحون المسألة الفلسطينية، ولكن هل هناك من يمتلك ثقافة في المسألة الفلسطينية؟ هناك شعارات! هذا الواقع جعل الإنسان المنتمي إلى هذا التيار أو ذاك، يشعر بالعجز أمام التحدي الثقافي، فيتعثر في المواجهة في المدرسة والجامعة وأمام "التلفزيون" وغير ذلك.

على أن النقطة الأخطر من كل ما عداها، تتمثل في طبيعة الصيغة الحزبية التي استهلكها الإسلاميون والقوميون، ممثلةً بالصيغة التي أنتجتها التجربة الماركسية، وهي العصبية للفكر، فالتنظيمات الحزبية التي تجعل الإنسان يعيش في طوقٍ حديديّ تمنع الإنسان من أن يفكر، وتفرض عليه أن يتقيد بالفكر الحزبي وبالتعليمات الحزبية، وتحظِّر عليه التصرف حتى في بعض المفردات أو الأساليب، وإلاّ يُتهم بالانحراف كما حصل مع الماريشال تيتو حين "اجتهد في الماركسية"، انطلاقاً من استيعابه لظروف منطقته اليوغوسلافية، أو كما حصل مع الصين حين طرح ماوتسي تونغ أفكاراً معينة، فقد تم رجمهما بالتحريفية وغير ذلك.

وهكذا نجد الأمر نفسه في الحركات الإسلامية بشكل عام، فإذا قدم أي شخص فكراً جديداً أو نقداً جديداً، فإنه يطرد أو يُرجم أو يُكفَّر، حتى إن الأحزاب أو النظام الحزبي في العالم العربي أو الإسلامي أو الشرقي بشكل عام، أصبح يصنع الطغاة، ويصنع ذهنية الخضوع للطاغية، لأن توجيه القاعدة إلى أن تستغرق بالقيادة أو بالشخص، يبلغ حداً بحيث لا يملك أحد معه أن يعترض أو يناقش أو يرفض، وإلا طرد من ساحة الهيكل العلماني أو الإسلامي، وهذا ما جعل النخب السياسية في التنظيمات الحزبية بشكل عام، تتربى داخل الحزب الرافض للطغيان السياسي، على أن تستبدل طاغية بطاغية، لأنها تعودت ألا تفكر وألا تعيش حريتها، وهذا كله ساهم في صنع ذهنية الخضوع للطاغية. ومن هنا، فإننا رأينا أن كثيرين ممن كانوا يرجمون الطغاة حين وصلوا إلى الحكم، أخذوا يعيشون الطغيان كأبشع ما يكون.

لم يهتدوا

س: هل السبب هو في عدم الاهتداء إلى الصيغة أو النظام، أم في أصل التكوين الأساسي الفكري عندنا..؟

ج: أتصور أن السبب هو في أن القوم لم يهتدوا إلى رشدهم بعد، فما تزال تعشش فينا شخصية البدوي، وقيم البداوة، في كل واحد منا طاغية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع، لذلك قد تكون المسألة بحاجة إلى النفاذ إلى جذور القاعدة النفسية والفكرية، ولهذا لم نستطع أن نكون أمة المؤسسات، إنما استطعنا أن نكون أمة الأشخاص، إن شخصية البطل هي الشخصية التي تركض الأمة وراءها، وتمنحه العصمة التي لا يمنحها الناس حتى للأنبياء، وتهرول خلفه، في وقت نعرف فيه أن الشخص مهما كان كبيراً، فإنه يخطئ، إلا أن الأمة تعطيه دوراً يشبه دور الألهة، من حيث عدم السماح بالاعتراض عليه، وهنا نلاحظ أن الغرب دخل عصر المؤسسات، بعد أن كان عاش مئات السنين في عصور الأشخاص، ولذا نرى أن النظام الحزبي في الغرب يمثل نظاماً فيه الكثير من عناصر احترام الإنسان، فنحن نجد مثلاً أو نقرأ أن الكثيرين من حزب العمال في بريطانيا يعارضون رئيس الحزب في سياسته، بما يتعلق بالحرب على العراق، دون أن يدعو أحد إلى طردهم من الحزب، أو اتهامهم بالانحراف عن سياسة الحزب، كما نلاحظ أيضاً أن نائباً من حزب المحافظين المعارضين قد يقترع لصالح مشروع قدمه حزب العمال أو العكس، وهذا أيضاً ما يجري في أميركا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومع الأسف، فإن أعداءنا في إسرائيل يمثلون أو يسيرون في مجتمعهم إلى حد ما في هذا المنحى..

دعوة بوش

س: وكأنك تلتقي مع الدعوة إلى الإصلاح والديمقراطية التي يدعو إليها بوش في المنطقة..؟

ج: لا، هذا يلتقي مع ما أقوله، فنحن لا نشك بأن لدينا واقعاً غير إنساني على مستوى الذين يتأثرون بالحكم، وما نزال نحمل رواسب القرون السابقة في تخلفها وجهلها وفي كثير من قيمها السلبية.. والمسألة ليست أننا، ونحن نعيش في هذا الفساد، ننتظر أن يأتي إنسان من خارج شخصيتنا وتاريخنا ومفاهيمنا ليصلحنا، لا سيما إذا عرفنا أن جورج بوش وإدارته لم يتحدثوا عن الديمقراطية في العالم العربي أو في منطقة الشرق الأوسط وعن حقوق الإنسان لأنهم يريدون لهذا العالم أن يعيش حقوق الإنسان وأن يعيش الديمقراطية، بل على العكس، ذلك أن هذه الدول الغربية المستعمرة والمستكبرة، وفي مقدمتها أميركا، هي التي فرضت كل هذه الأنظمة التي تحرس الجهل والتخلف ومصالح الآخرين في المنطقة، حتى إننا نعرف أن نظام العراق أو رئيسه كان صنيعة أميركا، فهي التي موّلته بأسلحة الدمار الشامل، وهي التي منحته كل ما يلزمه في حربه ضد إيران، وهي التي سهّلت له احتلال الكويت، لذلك فإن أميركا ليست جادَّة في أنها تريد الديمقراطية لشعوب المنطقة على الطريقة الغربية.

الإصلاح من الداخل:

س: بوش قدَّم مثالين على ما ينتظر المنطقة بعد العدوان على العراق، الأول ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تحوَّلتا بفعل الدعم الأميركي إلى دول ديمقراطية ومتطورة. والثاني دول أوروبا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي...

ج: أولاً، إن أميركا لم تصنع الذهنية الديمقراطية للألمان ولليابانيين أو للروس أو غيرهم، ذلك أن طبيعة الأوضاع المعقدة التي عاشتها هذه الشعوب خلقت عندها عنصر الرغبة في التخلص من الحكم الديكتاتوري، ومن خلال النتائج التي أفرزتها هذه الحرب، فإن الدور الأميركي أو الغربي، ساعد بشكل أو بآخر هذه الشعوب على التحرر من النظام الطاغي، ثم بدأت تلك الشعوب تمارس حياتها على طريقتها الخاصة، إلا أننا الآن نلاحظ أن أميركا في الوقت الذي تتحدث فيه عن الديمقراطية، تعمل وتضغط على اليابان وعلى روسيا وعلى ألمانيا في مصالحها، حتى تبتعد عن السياق الديمقراطي، فاليابان عندما تتحدث عن مسألة تأييدها للحرب على العراق، فلأنها تمثل حالة ببغائية لمصلحة أميركا التي ما زالت مسيطرة على اليابان، أما بالنسبة إلى ألمانيا وروسيا وحتى فرنسا، فإن أميركا حتى في علاقتها مع هؤلاء ومع غيرهم من الدول الكبرى الديمقراطية، لا تتحرك بطريقة ديمقراطية، فهي تهددها في مصالحها، وأميركا مثلاً تحاول الآن أن تضغط على الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتهددها في مصالحها وأمنها واقتصادها وسياستها، وأفضل مثل في هذا المجال هو تركيا، الدولة التي تغرَّبت، فتركيا كانت أول دولة إسلامية تتغرب، وتتعلمن بطريقة شرقية إن صح التعبير، لكن البرلمان التركي عندما صوّت ضد السماح للجنود الأميركيين بالدخول إلى تركيا لمعارضة العراق، أخذت أميركا تضغط عليها وتهددها في مستقبل اقتصادها، وبدأت تثير الأكراد العراقيين ضدها، ولهذا فإن أميركا لا يمكن أن توافق أو تعمل على إحلال ديمقراطية حقيقية في العالم العربي والإسلامي، لأن ذلك سوف يجعل مصالح أميركا في خطر، وخصوصاً أن الديمقراطية تتيح لشعوب المنطقة الخروج من السجن إلى دائرة التحرر، وتسمح لها أن تمتلك كل ثرواتها الطبيعية. ومن هنا، فإن كل ما تريده أميركا من الديمقراطية في دول المنطقة هو استبدال النظام السابق الذي هو أشبه بنظام عشائري أو ديكتاتوري، بنظام يمكن أن يعطي الناس بعض التنفس أو الراحة، لذلك فإن أي حركة أو محاولة إصلاحية عندنا يجب ألا تقوم إلا من الداخل، وهذا لا يمنع من أن نستفيد من بعض التطورات، أي عندما تأتي بعض التطورات العسكرية التي قد نوافق أو لا نوافق عليها، علينا أن نقوم بعملية الإصلاح وألا نتلقى التعليمات من أميركا أو من غير أميركا.

مشكلة أخطر!

س: عملية الإصلاح من سيقوم بها في زمن الحروب إذا لم نستطع القيام بها في زمن الراحة، خصوصاً أن زمن الحرب أو الحملة الأميركية على المنطقة ستفسح في المجال أكثر وأكثر لقوى التخلف وقوى الخرافة والأساطير أن تقود هي المجتمعات من جديد؟

ج: لم يحصل الإصلاح في وقت الراحة، لأن الناس لم تكن تشعر بمشكلة...

س: هذا يطرح مشكلةً أخطر، غياب المراجع....

ج: صحيح، فعندنا مشكلة سواء، في وقت الراحة أو في الأزمات العسكرية، وهي أن هناك فريقاً من الناس على مستوى القيادات، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، لا تؤمن بالإصلاح، وترى الإصلاح هرطقة وكفراً وضلالاً وانحرافاً...الخ وربما يعيش كثيرون حال الاسترخاء، لأنهم يقولون "لا مشكلة" ! لذلك أعتقد أن قيمة الأزمات أنها تستطيع أن تستنفر الواقع وتستفز الذين يفكرون بالتغيير في المنطقة، فإنني أتصور أن علينا ألا نفكر لسنةٍ أو سنتين، وإنما علينا أن نفكر على مستوى أجيال، نحن نريد أن نأخذ من الماضي درساً للمسقبل، وقد مر العالم العربي والإسلامي في القرن الفائت بالكثير من التحديات السياسية والفكرية والأمنية، وكان الغرب بعامة يحاول أن يسيطر على المنطقة، ولكن نشأت طلائع فكرية وسياسية وثقافية، ولو على مستوى معين، في الجانب الإسلامي والجانب غير الإسلامي، استطاعت أن تواجه الخطة الغربية وتحولها إلى خطة مضادة، فالقومية العربية انطلقت من الغرب لأجل إسقاط الخلافة العثمانية، ولتكون وسيلة من وسائل سيطرة الغرب على المنطقة والسيطرة عليها، ولكن القومية العربية التي مرت في تبدلات وتطورات عدة، تحولت إلى عنصر مواجه للهيمنة الغربية، وهذا ما لاحظناه حين حارب الغرب جمال عبد الناصر بأقسى ما يكون من الحرب، وهو الذي حمل لواء القومية العربية وحاول أن يرفع التناقض بينها وبين الإسلام بطريقة أو بأخرى، لذلك أرى أن الأمة تختزن في داخلها، رغم كل السلبيات، الكثير من إمكانات التطوير والتغيير والمواجهة، وأعتقد أن الأزمات، وخصوصاً الأزمة المقبلة، سوف تخلق حالاً من الوعي للأمة بشكل لم تعرفه في تاريخها من قبل، وحتى ستخلق حالاً من الوعي في العالم كله.

س: يعني ربّ ضارة نافعة؟!.

ج: نعم، ولعلَّنا بدأنا نرى طلائع ذلك في هذه الحرب العالمية والإعلامية والسياسية ضد أميركا، ولذلك فإني أتصوَّر أنه إذا كانت هذه الانتفاضة العالمية المتنوعة ضد أميركا، والتي عاشها العالم العربي والإسلامي على مستوى الشعوب، كما يعيش الإنسان الجرح الذي يأكل كل عافيته، إنني أتصور أنه إذا كانت هذه الانتفاضة بهذا الحجم قبل الحرب، فكيف ستكون بعد الحرب؟

لا تقسيم

س: ماذا تتوقع لمستقبل العراق إذا وقعت الحرب؟ وهل ترى إمكانيةً لتقسيمه؟

ج: في دراستنا لتاريخ العراق، لا نجد أية فرصة للتقسيم إلا في الدائرة الكردية، ذلك أننا في قراءتنا لتوجهات المسلمين السنة أو الشيعة، نرى أن الشيعة، وهم الذين يعتبرون أنفسهم الأكثرية التي لا تملك حقوقها الشرعية، لم تصنع داخل وجدان الإنسان الشيعي أية فكرة في بناء دولة مستقلة، ولم يحدث أيضاً بين السنة والشيعة في مدى التاريخ، على الأقل في مدى القرنين الماضيين أو الثلاثة، أي حرب بينهما، بل إن الشيعة من خلال علمائهم دخلوا في حرب مع البريطانيين لمصلحة الحكم العثماني الذي هو حكم سني، حسب الاصطلاح المذهبي، وكان يضطهد الشيعة، لهذا فإن مسألة التقسيم على المستوى المذهبي لا أرضية لها في العراق.

س: حتى لو تمّ تركيب ثلاث مقاطعات أو دويلات كما تخطط أميركا لإقامة نظام فدرالي بينها؟

ج: الفدرالية بالنسبة إلى الأكراد تتصل وتتعلق بمسألة القومية الكردية، وبالطموح الكردي لتحويل المناطق الكردية في إيران وسوريا وتركيا والعراق إلى دولة موحدة، أما بالنسبة إلى الجانب الإسلامي، فالعالم الإسلامي لم يتقسم مذهبياً، وما يطرح في هذا المجال هو فزاعات. ثم هناك نقطة مهمة، وهي أية حاجة لأميركا في تقسيم العراق؟! عدا عن أن تقسيم العراق هو من القضايا التي لا بد أن تخضع لرأي دولي على طريقة ما حصل في "سايكس بيكو"، ولا أعتقد أن هناك أية مصلحة دولية للتقسيم، لأن تقسيم العراق قد يمتدُّ إلى تقسيم المنطقة كلها.

س: "سايكس بيكو" ترجمة لموازين قوى عالمية حينها، اليوم موازين القوى تميل إلى أميركا؟

ج: عندما تكون المنطقة كلها تحت سيطرة أميركا، فليس هناك ضرورة للتقسيم، هذه كانت مصلحة إسرائيل سابقاً، وهي تقسيم المنطقة إلى دويلات دينية، لتبرير وجودها..

س: والآن؟

ج: الآن تملك إسرائيل قوة تتفوق فيها على كل المنطقة، ولا سيما بتحالفها مع أميركا، ولذلك لم تعد بحاجة لتبرر وجودها في المنطقة كدولة دينية من خلال خلق كيانات أو دويلات دينية إلى جانبها.

"طاغية ديموقراطي"

س: هل تتوقع "حزب الله عراقي" بعد الحرب أم قرضاي جديد أم..؟

ج: أتصور أن الطريقة الأميركية ستستبدل طاغية بثوب ديكتاتوري بطاغية بثوب ديموقراطي، أما ما سيحدث بعد الاحتلال، فلا أتصور أن أميركا ستستطيع أن ترتاح في العراق.

س: سيقاوم العراقيون؟

ج: لا أتحدث عن أن العراقيين سيقاتلون في شكل تلقائي في البداية، بالرغم من وجود وطنية عراقية حقيقية، لأن قوة طغيان النظام العراقي على شعبه، جعلت شعب العراق يفكر بالتخلص منه حتى ولو مع الشيطان، لكن عندما تتطور الأمور، ويتخلص العراقيون من هذا الرعب، فمن الطبيعي جداً أن يلتفتوا إلى طبيعة السياسة الأميركية عندهم.

.. إلى النجف

س: وماذا تتوقعون بالنسبة إلى المرجعية الشيعية في النجف؟

ج: لا أتصور أن المرجعية سوف تتأثر بذلك.

س: هناك كلام عن أن المطلوب أميركياً، هو أن تستعيد النجف حضورها على الخارطة الإسلامية، وعلى الخارطة الشيعية بخاصة، لمواجهة مؤسسات سلفية أخرى شيعية وسنية في البداية، ومن ثم وصولاً إلى مناطق عربية وإسلامية أخرى نشأ فيها ما تسميه أميركا الإرهاب؟

ج: النجف، بصرف النظر عن كلِّ التطورات التي حصلت، لا تزال تعيش في وجدان الإنسان الشيعي في العالم أكثر من أي بلد آخر، حتى إن قم بالرغم من أنها أصبحت الحوزة الأعظم من خلال طبيعة تواجد العلماء والمراجع والطلاب فيها، لم تستطع أن تدخل في الوجدان الشيعي، سواء من الناحية الدينية الولائية إن صح التعبير، أو من الناحية التاريخية، لأن النجف تملك تاريخاً يربو على أكثر من ألف سنة، حتى إن أغلب مراجع التقليد في قم هم خريجو النجف، لذلك أعتقد أن النجف عندما تنفتح وتأخذ حريتها بمعنى حرية الهجرة إليها، فإنها سوف تأخذ حجمها الطبيعي في شكل تلقائي. إن وجود منبر الإمام علي (عليه السلام) في النجف يملك جاذبية سحرية ليست موجودة في أي مكان من الأماكن المقدسة لدى الشيعة، أضف إلى ذلك وجود كربلاء إلى جانب النجف والكاظمية وسامراء...الخ، لذا أعتقد أن القضية ستأخذ حجمها في شكل طبيعي، بصرف النظر عما يخطط له الأميركيون. وفي طبيعة الحال، فإنَّ على الواعين من العلماء في النجف وفي الحوزات الأخرى، أن يعتبروا أن المسألة السياسية أصبحت في تطوراتها الحديثة تأخذ في حساباتها عند المستكبرين المسألة الثقافية، وحتى المسائل الدينية والمذهبية. ومن هنا، فإن مواجهة الاستكبار العالمي، وخصوصاً الأميركي، يجب أن تأخذ ذلك في الحسبان.

س: هل ستذهب إلى النجف لتقوم بدورك من هناك كمرجع تقليد؟

ج: ولدت في النجف، ولذا أنا نجفي في الولادة وفي الشباب، لكن أن أذهب إلى النجف، مثلما يذهب إليها الكثيرون من المقلدين في العراق وغيرها، فإن ذلك خاضع للظروف.

س: وإذا سمحت الظروف؟

ج: طبعاً.

الكنائس المسيحية

س: ما رأيكم بموقف الفاتيكان ومواقف الكنائس المسيحية الأخرى في العالم التي أجمعت على رفض الحرب الأميركية على العراق؟

ج: نرحب جداً بهذا الموقف المسيحي الذي يستهدي معنى المسيح في معنى السلام ضد الذين يصنعون الحرب، لذلك اعتبرنا أن ما حدث يمثل انسجاماً طبيعياً مع رسالة السيد المسيح، ونحن نعتبر أن الفاتيكان من خلال شخصية البابا، والموقع البطريركي الأول في روسيا، إلى جانب الكنيسة الانغليكانية، انسجمت مع العناوين الكبيرة في رسالة السيد المسيح.

س: هل سيؤسس ذلك لبروز أفق جديد في العلاقة بين الإسلام والمسيحية؟

ج: نحن كنا ولا نزال نطالب الكنيسة المسيحية في شكل عام، والكاثوليكية في شكل خاص، أن تعمل مع القوى الإسلامية على أساس التحرك على مستوى العالم في ما تلتقي عليه، وهما عنوانان: عنوان الإيمان في مواجهة الإلحاد، وعنوان الإنسان المستضعف في مواجهة الإنسان المستكبر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}، أي أن نلتقي على أساس وحدة الله، ووحدة الإنسان، فلا يكون الإنسان رباً للإنسان وهو ما يفعله المستكبرون. ولهذا سجَّلنا تحفظاً كبيراً على اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، لأن الفاتيكان ليست مجرد دولة، بل رسالة، وفي لقاء في دمشق مع بعض الكرادلة، سألت لو أن السيد المسيح موجود الآن فهل يعترف بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟ وهل يكون مع الفلسطينين أم مع الإسرائيليين؟ فأجاب مسؤول الحوار بين الأديان في الفاتيكان، فرانسيس ارينزي: "إسرائيل أمر واقع"، فتوجهت عندها للسفير البابوي وكان من المجتمعين وقلت له، وكان المترجم بيننا البطريرك هزيم: "الشيطان أمر واقع، فهل نعترف بشرعية الشيطان"؟! ولذا نحن نعتقد أن الإسلام والمسيحية في مسألة إنسانية الإنسان محكومان من خلال رسالتيهما بالتعاون والتكامل، ولذلك نحن نرحب بكل مبادرة تنسجم مع الخط الرسالي الذي تؤمن به الديانتان.

س: في الإطار نفسه، كيف ترون أيضاً إلى الموقف اللافت للبطريرك صفير الذي أعلنه في هذا المجال؟

نحن رحبنا ونرحب بهذا الموقف، لأننا ـ وخصوصاً في لبنان ـ نحتاج إلى المزيد من الإيجابيات على المستوى المسيحي والإسلامي، حتى نعالج المسألة النفسية، التي ربما تنعكس إيجابياً على المسألة السياسية.

التحديات المتراكمة التي واجهتها المنطقة في القرن الماضي وأخطرها اغتصاب فلسطين والعجز عن مواجهة الكيان الصهيوني، أضيفت إليها مع بداية القرن الحالي تحديات جديدة لا تقل خطورة، تتمثل الآن بما يخطط للمنطقة من جديد، وبما يحضر لها من خلال العدوان الأميركي عليها بدءاً من العراق.

ودائماً في مثل هذه الظروف العصيبة يكون الفزع إلى الله أولاً، ومن ثم إلى القادة والعلماء والمراجع المستنيرين.

"الشراع" التقت المرجع الإسلامي الشيعي الأعلى السيد محمد حسين فضل الله، وأجرت معه حواراً استثنائياً، تحدث فيه عن المشكلات والتعقيدات العميقة القائمة، بأسلوب ومنهجية الثائر على الطغيان وفوضى المفاهيم وقوى الخرافة والتخلف، التي قال إنها استطاعت النفاذ إلى الحركات الإسلامية.

في الحوار مع السيد فضل الله، نفحاتٌ من فكر هذا المرجع النجفي الذي قال إنه سيذهب إذا سمحت الظروف إلى النجف، مشيراً إلى أن لهذا المكان جاذبية سحرية، ليست موجودة في مكان آخر، ولا في قم التي لم تستطع الدخول إلى الوجدان الشيعي.

وهنا وقائع الحوار:

الواقع المؤلم:

س: بين مطلع القرن الحالي ومطلع القرن السابق، لم تعد التحديات التي تواجه الأمة من نوع تلك التحديات التي تصدى لها المجدّدون والمستنيرون كالإمام محمد عبده والإمام جمال الدين الأفغاني، تحديات اليوم أخطر، وهي تستهدف الأمة في انتمائها وثقافتها ومصيرها، وما يعدُّ للعراق ويحضَّر له بمثابة زلزال مدمر من حيث النتائج المتوقعة. بصفتكم واحداً من كبار المراجع المجددين في هذه الفترة العصيبة وتتحملون مسؤولية تاريخية في مواجهة هذا الامتحان، كيف تستشرقون آفاق المرحلة المقبلة وتهديداتها وسبل المواجهة؟

ج: في دراستنا لهذا الفارق الزمني الشاسع بين بداية القرن السابق والقرن الحالي، نجد أن هناك قواسم مشتركة للمشكلة، ومن أهمها هذه الفوضى الثقافية التي استطاعت أن تصنع في شخصية الإنسان المسلم المعاصر أو العادي بشكل عام بعض السلبيات النفسية، التي امتدت إلى أن تتحول إلى سلبيات حركية، ساهمت في الكثير من الفوضى الاجتماعية وربما السياسية، فالتخلف الذي كان يسيطر على الأمة أبعدها عن مراقبة المتغيرات والتطورات التي تحيط بالمنطقة، حتى إننا كنا نلاحظ في هذا المجال أن هناك عزلة ثقافية وسياسية وعلمية عن كل العالم، كما لو أن ذلك العالم لم يكن موجوداً في واقع الذهنية التي كانت تسيطر على إنسان المنطقة.

وهكذا رأينا كيف استطاعت التيارات الثقافية والسياسية أن تنفذ إلى الأمة من خلال الكثير من العناوين الفضفاضة التي كانت تستهوي العاطفة، ولكنها لا ترتكز على الدراسة العقلانية لما وراء الشعار، ورأينا كيف استطاعت حركة الجاسوسية الغربية بكل تنوعاتها، أن تنفذ إلى مفاصل كل التمزقات العشائرية والقبلية في المنطقة، والتي كانت تمثل الواقع الاجتماعي.

ولهذا كانت الزعامات القبلية تخضع لهذا الجاسوس أو ذاك في خضم صراعات الجاسوسية الغربية، لتحصل على مالٍ أو لتستقوي بموقع على موقع، حتى إن الانتفاضات الشعبية التي كانت تحصل وتوحي بوجود حيوية دفينة للأمة، كانت تتحرك بشكل فوضوي بعيداً عن التخطيط، لأن القضية كانت قضية اندفاع نحو المواجهة لعدو هنا وعدو هناك، من دون دراسة الوسائل والآليات التي تتحرك في خط المواجهة. وفي هذا المجال، نلاحظ أن المنطقة، سواء العربية أو الإسلامية، بدأت في الخمسينات تفكر في التحرر من الاستعمار بعدما كانت في مرحلة الأربعينيات تتخذ موقف المتحفظ، ما جعل الاتجاهات الفكرية والثقافية في تنوعاتها السياسية تنشط ما بين القومية والماركسية وذلك في ظل في الحرب الباردة التي كانت تخيِّم على الأجواء..

في هذه المرحلة دخلت إسرائيل على الخط، انطلاقاً من اللعبة الدولية التي خططت لزرعها في المنطقة بهدف إيجاد فوضى على المستوى الثقافي والمستوى السياسي الحركي، وقد خضنا المعركة مع إسرائيل من دون أي تحضير، ومن خلال نقاط الضعف التي كانت لا تزال تؤكد نفسها في داخل الأمة، ثم سرعان ما أغرقت المنطقة بالصراعات الإيديولوجية، بحيث إن هذه الصراعات القادمة من الغرب، أصبحت البديل عن الصراعات المذهبية في الوسط الإسلامي أو الطائفية على المستوى الديني بشكل عام، لذا غابت عن الساحة في الخمسينات والستينات والسبعينات المشاكل الدينية بشكل حاد، وانكفأت لتعيش في الظل، في وقت ظل الهدف الاستكباري الغربي الإسرائيلي هو إسقاط روح المقاومة السياسية لدى هذه الشعوب، حتى لا تمثل قوة في مواجهة إسرائيل بما تمثله من علاقات بالأخطبوط العالمي على المستوى السياسي والاقتصادي.. وبهذا عاشت المنطقة في فوضى فكرية أخذت من التاريخ الثقافي أو من الذهنية الشرقية عناصر العصبية، وهذا ما فعلته أيضاً الإيديولوجيات العلمانية والقومية والماركسية في التيارات غير الإسلامية، فمثلما كانت تتحرك الصراعات الدينية لتتهم هذا الجانب أو ذلك الشخص أو تلك الجهة بالتكفير والتضليل، فقد استخدمت التيارات العلمانية الأفكار نفسها بتعابير أخرى، مثل التحريفية والخيانة وغير ذلك، فصنعت فتناً سياسية حزبية إيديولوجية شغلتنا عن كل ما حولنا، ما أدى إلى عدم تحقيق الأهداف التي حددتها هذه الإيديولوجيات.

بناءً على ما تقدم، كان من الطبيعي أن يفسح سقوط الكثير من تلك التيارات ذلك المجال لولادة الحركات الدينية، وفي مقدمتها الحركات الإسلامية، التي استفادت من سقوط تلك التيارات بدرجة أو بأخرى، ومن ثمَّ لاحظنا أن هذه الحركات الإسلامية، لم تكن على استعداد لأن تمثل وحدة ثقافية، تملك وضوح الرؤية من موقع الأصالة للمتغيرات وللتطورات الثقافية، وخصوصاً من خلال التعاطي مع النصوص الدينية والمفاهيم الإسلامية التي نحتاج إلى إعادة دراستها على ضوء الآفاق الجديد، ومن موقع متميز، بمعنى أن الفكر الإسلامي الذي عاش قبل مئات السنين، ربما كان خاضعاً لمواصفات أو معطيات أو ظروف فرضت هذا الخط الفكري أو ذاك الخط، ما ينـزع عنه صفة الفكر المطلق الذي يحمل القداسة التي يحملها الإسلام، وهكذا غرقت الحركات الإسلامية في فوضى مفاهيمية أدت بها إلى الكثير من المشاكل الداخلية والخارجية، والتي ما زلنا نعاني منها حتى الآن.

ولذلك نعتقد أن المشكلة في المنطقة العربية والإسلامية، وربما تمتد هذه المشكلة إلى مناطق العالم الثالث، هي أننا نرى ونلاحظ أن الانطلاقات التي كانت تحاول أن تهز المنطقة بطريقة أو بأخرى لتدفعها إلى الأمام، كما حصل مع الثورة المصرية، وبعض الانتفاضات الأخرى هنا وهناك، أو كما حصل على الجانب الإسلامي مع الثورة الإسلامية... إنّ هذه الانطلاقات طُوِّقت بالكثير من التعقيدات الداخلية التي أكلت نضارتها وأصالتها وحوَّلتها إلى ما يشبه الحالة العصبية، ما أبعدها من أن تشكل استجابةً فعليةً لتحرير الفكر والواقع، لذا فإني أتصور أن ما نحتاجه هو شخصيات قادرة على أن تربط بين القديم والجديد، وأن تحرر الفكر من الخرافة وتطرد عنه عناصر التخلف، وأن تجعل الأمة تعيش وضوح الرؤية للواقع من خلال فكر ينفذ إلى قلب الواقع، وينفتح على العالم الجديد بكل إيجابياته وسلبياته وتطوراته، ويدخل في العصر، لا من خلال السقوط تحت كل مفاعيله، ولكن من خلال أن يعيش الإنسان قضايا هذا العصر وتطلّعاته وحاجاته المعاصرة.

وفي رأيي، فإن قوة التخلّف لا زالت هنا وهناك تعمل على أن ترجع الواقع إلى الوراء على الرغم من وجود عناصر أصيلة منفتحة ومثقفة وواعية، إلا أنها ما تزال تعاني في هذا المجال من حصار واقع التخلف الممتد في الكثير من مفاصل المجتمعات الشعبية، والمنطلق من مواقع الأنظمة التي تعيش في الأصل ذهنية التخلف السياسي والفكري، والتي تتحرك من خلال ارتباطات جعلت دورها الوظيفي يقتصر على حماية مصالح القوى الاستكبارية والحفاظ على مصالحها هي، ولا شك أن الفكر الأصيل المنفتح على قضايا الحرية والعدل والعلم، لا يمكن أن يتناسب مع مواقع هؤلاء الذين لا يمثلون أي قيمة في المعنى، وأي قيمة في السياسة، وأي قيمة في الإنسان، خصوصاً وأنهم يعيشون الجهل والتخلف ويريدون فرضهما على الواقع بالقوة.

الروح الشعبية:

س: في هذا السياق، هل نتوقع أن تنتهي الحركات الإسلامية إلى ما انتهت إليه تلك التيارات من سقوط وفشل؟

ج: إن أي حركة، سواء كانت إسلامية أو علمانية، تخضع في مسألة بقائها أو زوالها أو قوتها وضعفها، إلى ظروف داخلية وخارجية، وخصوصاً في مسألة أدائها، وأسلوب معالجتها للمشاكل التي تعاني منها، فمن الممكن جداً أن ينشأ في الوسط الإسلامي، كما في الأوساط الأخرى، بعض الفئات الطليعية التي تستطيع أن تدرس الأخطاء المميتة أو التمزقات الداخلية، لتتجاوزها إلى محطة وحدوية أرقى. وفي هذا المجال، فإننا عندما ندرس الحركات الإسلامية في كل تمزقاتها وتنوعاتها في العالم، نجد أن هناك أكثر من حركة تملك وضوح الرؤية وحس المعاصرة، والقدرة على مواجهة التحديات بطريقة مدروسة، ما يبشر بمستقبل مشرق.

إلاّ أن هناك نقطة تتميز بها الحركة الإسلامية عن الحركات السياسية الأخرى، وهي أنها حتى لو ضعفت أو انكفأت، فإن الروح الديني الذي يعيش في الساحة وفي المسجد وفي التقاليد والعادات وما إلى ذلك، يبقى القاعدة التي يمكن للإسلام السياسي أن يستفيد منها للنهوض من جديد عندما تتهيأ له الظروف الملائمة، أما بالنسبة إلى الحركات الأخرى، فإنها لا تملك الجذور الشعبية التاريخية التي يمكن أن تمدها في كل مرحلة بروح النهوض السياسية أو القاعدة الشعبية، وخصوصاً عند التحديات.

قوى الخرافة:

س: المنطقة على وشك التعرض لعدوان جديد من خلال الحرب على العراق، وكما أصبح معروفاً ومعلناً، سيترافق هذا العدوان مع إعادة تشكيل جديد للمنطقة، تشكيل من نوع جديد يتخطى محاولة تطويق قوى المقاومة والممانعة، إلى حدود فرض نمط التفكير، وحتى فرض فهم للإسلام بطريقة معينة، وكلها تحديات جديدة لم تطرح سابقاً، واللافت أن معظم النخب العربية والإسلامية تواجه هذه المشكلة أو التحديات وفقاً لمعطيات مرحلة انتهت؟

ج: هناك مشكلة موجودة، وهي أن الغالب في الحركات الإسلامية والقومية وغيرها، أنها استغرقت في عملية الاستهلال السياسي للمفردات السياسية التي تتصل بعالم التحرر من الاحتلال ومن النظام الطاغي في الداخل، أو عالم المواجهة للقوى التي تريد مصادرة المنطقة من خلال الضغط الاقتصادي والسياسي والأمني، بحيث إن هذه الحركات استغرقت في المفردات السياسية، بحيث ذابت في هذا المناخ السياسي، ما جعلها في عزلة عن المناخات الثقافية التي تمثّل خطراً أعظم من السيطرة السياسية، ففي هذا الإطار، نلاحظ أن هناك نوعاً من أنواع الرفض للانخراط في الموضوع الثقافي والانكفاء عنه، الأمر الذي أدى ببعض الحركات الإسلامية، المستغرقة في الشأن السياسي، إلى اختراقها من قبل القوى المتخلّفة التي تنتج الخرافة، ما أوقعها في الكثير من الوحول الثقافية والفكرية.

صناعة الطغاة.

أما بالنسبة إلى الاتجاهات الأخرى، مثل الاتجاهات القومية والماركسية، فقد تحولت إلى أن تكون مجرد تجميع للنخب، على طريقة ضباط بلا جنود، ولهذا فإننا عندما ننفذ إلى القاعدة الشعبية هنا وهناك، فإننا لا نرى التزاماً سياسياً ثقافياً في ساحة الوعي لدى القاعدة الشعبية، إذ إن الجميع قد يطرحون المسألة الفلسطينية، ولكن هل هناك من يمتلك ثقافة في المسألة الفلسطينية؟ هناك شعارات! هذا الواقع جعل الإنسان المنتمي إلى هذا التيار أو ذاك، يشعر بالعجز أمام التحدي الثقافي، فيتعثر في المواجهة في المدرسة والجامعة وأمام "التلفزيون" وغير ذلك.

على أن النقطة الأخطر من كل ما عداها، تتمثل في طبيعة الصيغة الحزبية التي استهلكها الإسلاميون والقوميون، ممثلةً بالصيغة التي أنتجتها التجربة الماركسية، وهي العصبية للفكر، فالتنظيمات الحزبية التي تجعل الإنسان يعيش في طوقٍ حديديّ تمنع الإنسان من أن يفكر، وتفرض عليه أن يتقيد بالفكر الحزبي وبالتعليمات الحزبية، وتحظِّر عليه التصرف حتى في بعض المفردات أو الأساليب، وإلاّ يُتهم بالانحراف كما حصل مع الماريشال تيتو حين "اجتهد في الماركسية"، انطلاقاً من استيعابه لظروف منطقته اليوغوسلافية، أو كما حصل مع الصين حين طرح ماوتسي تونغ أفكاراً معينة، فقد تم رجمهما بالتحريفية وغير ذلك.

وهكذا نجد الأمر نفسه في الحركات الإسلامية بشكل عام، فإذا قدم أي شخص فكراً جديداً أو نقداً جديداً، فإنه يطرد أو يُرجم أو يُكفَّر، حتى إن الأحزاب أو النظام الحزبي في العالم العربي أو الإسلامي أو الشرقي بشكل عام، أصبح يصنع الطغاة، ويصنع ذهنية الخضوع للطاغية، لأن توجيه القاعدة إلى أن تستغرق بالقيادة أو بالشخص، يبلغ حداً بحيث لا يملك أحد معه أن يعترض أو يناقش أو يرفض، وإلا طرد من ساحة الهيكل العلماني أو الإسلامي، وهذا ما جعل النخب السياسية في التنظيمات الحزبية بشكل عام، تتربى داخل الحزب الرافض للطغيان السياسي، على أن تستبدل طاغية بطاغية، لأنها تعودت ألا تفكر وألا تعيش حريتها، وهذا كله ساهم في صنع ذهنية الخضوع للطاغية. ومن هنا، فإننا رأينا أن كثيرين ممن كانوا يرجمون الطغاة حين وصلوا إلى الحكم، أخذوا يعيشون الطغيان كأبشع ما يكون.

لم يهتدوا

س: هل السبب هو في عدم الاهتداء إلى الصيغة أو النظام، أم في أصل التكوين الأساسي الفكري عندنا..؟

ج: أتصور أن السبب هو في أن القوم لم يهتدوا إلى رشدهم بعد، فما تزال تعشش فينا شخصية البدوي، وقيم البداوة، في كل واحد منا طاغية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع، لذلك قد تكون المسألة بحاجة إلى النفاذ إلى جذور القاعدة النفسية والفكرية، ولهذا لم نستطع أن نكون أمة المؤسسات، إنما استطعنا أن نكون أمة الأشخاص، إن شخصية البطل هي الشخصية التي تركض الأمة وراءها، وتمنحه العصمة التي لا يمنحها الناس حتى للأنبياء، وتهرول خلفه، في وقت نعرف فيه أن الشخص مهما كان كبيراً، فإنه يخطئ، إلا أن الأمة تعطيه دوراً يشبه دور الألهة، من حيث عدم السماح بالاعتراض عليه، وهنا نلاحظ أن الغرب دخل عصر المؤسسات، بعد أن كان عاش مئات السنين في عصور الأشخاص، ولذا نرى أن النظام الحزبي في الغرب يمثل نظاماً فيه الكثير من عناصر احترام الإنسان، فنحن نجد مثلاً أو نقرأ أن الكثيرين من حزب العمال في بريطانيا يعارضون رئيس الحزب في سياسته، بما يتعلق بالحرب على العراق، دون أن يدعو أحد إلى طردهم من الحزب، أو اتهامهم بالانحراف عن سياسة الحزب، كما نلاحظ أيضاً أن نائباً من حزب المحافظين المعارضين قد يقترع لصالح مشروع قدمه حزب العمال أو العكس، وهذا أيضاً ما يجري في أميركا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومع الأسف، فإن أعداءنا في إسرائيل يمثلون أو يسيرون في مجتمعهم إلى حد ما في هذا المنحى..

دعوة بوش

س: وكأنك تلتقي مع الدعوة إلى الإصلاح والديمقراطية التي يدعو إليها بوش في المنطقة..؟

ج: لا، هذا يلتقي مع ما أقوله، فنحن لا نشك بأن لدينا واقعاً غير إنساني على مستوى الذين يتأثرون بالحكم، وما نزال نحمل رواسب القرون السابقة في تخلفها وجهلها وفي كثير من قيمها السلبية.. والمسألة ليست أننا، ونحن نعيش في هذا الفساد، ننتظر أن يأتي إنسان من خارج شخصيتنا وتاريخنا ومفاهيمنا ليصلحنا، لا سيما إذا عرفنا أن جورج بوش وإدارته لم يتحدثوا عن الديمقراطية في العالم العربي أو في منطقة الشرق الأوسط وعن حقوق الإنسان لأنهم يريدون لهذا العالم أن يعيش حقوق الإنسان وأن يعيش الديمقراطية، بل على العكس، ذلك أن هذه الدول الغربية المستعمرة والمستكبرة، وفي مقدمتها أميركا، هي التي فرضت كل هذه الأنظمة التي تحرس الجهل والتخلف ومصالح الآخرين في المنطقة، حتى إننا نعرف أن نظام العراق أو رئيسه كان صنيعة أميركا، فهي التي موّلته بأسلحة الدمار الشامل، وهي التي منحته كل ما يلزمه في حربه ضد إيران، وهي التي سهّلت له احتلال الكويت، لذلك فإن أميركا ليست جادَّة في أنها تريد الديمقراطية لشعوب المنطقة على الطريقة الغربية.

الإصلاح من الداخل:

س: بوش قدَّم مثالين على ما ينتظر المنطقة بعد العدوان على العراق، الأول ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تحوَّلتا بفعل الدعم الأميركي إلى دول ديمقراطية ومتطورة. والثاني دول أوروبا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي...

ج: أولاً، إن أميركا لم تصنع الذهنية الديمقراطية للألمان ولليابانيين أو للروس أو غيرهم، ذلك أن طبيعة الأوضاع المعقدة التي عاشتها هذه الشعوب خلقت عندها عنصر الرغبة في التخلص من الحكم الديكتاتوري، ومن خلال النتائج التي أفرزتها هذه الحرب، فإن الدور الأميركي أو الغربي، ساعد بشكل أو بآخر هذه الشعوب على التحرر من النظام الطاغي، ثم بدأت تلك الشعوب تمارس حياتها على طريقتها الخاصة، إلا أننا الآن نلاحظ أن أميركا في الوقت الذي تتحدث فيه عن الديمقراطية، تعمل وتضغط على اليابان وعلى روسيا وعلى ألمانيا في مصالحها، حتى تبتعد عن السياق الديمقراطي، فاليابان عندما تتحدث عن مسألة تأييدها للحرب على العراق، فلأنها تمثل حالة ببغائية لمصلحة أميركا التي ما زالت مسيطرة على اليابان، أما بالنسبة إلى ألمانيا وروسيا وحتى فرنسا، فإن أميركا حتى في علاقتها مع هؤلاء ومع غيرهم من الدول الكبرى الديمقراطية، لا تتحرك بطريقة ديمقراطية، فهي تهددها في مصالحها، وأميركا مثلاً تحاول الآن أن تضغط على الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتهددها في مصالحها وأمنها واقتصادها وسياستها، وأفضل مثل في هذا المجال هو تركيا، الدولة التي تغرَّبت، فتركيا كانت أول دولة إسلامية تتغرب، وتتعلمن بطريقة شرقية إن صح التعبير، لكن البرلمان التركي عندما صوّت ضد السماح للجنود الأميركيين بالدخول إلى تركيا لمعارضة العراق، أخذت أميركا تضغط عليها وتهددها في مستقبل اقتصادها، وبدأت تثير الأكراد العراقيين ضدها، ولهذا فإن أميركا لا يمكن أن توافق أو تعمل على إحلال ديمقراطية حقيقية في العالم العربي والإسلامي، لأن ذلك سوف يجعل مصالح أميركا في خطر، وخصوصاً أن الديمقراطية تتيح لشعوب المنطقة الخروج من السجن إلى دائرة التحرر، وتسمح لها أن تمتلك كل ثرواتها الطبيعية. ومن هنا، فإن كل ما تريده أميركا من الديمقراطية في دول المنطقة هو استبدال النظام السابق الذي هو أشبه بنظام عشائري أو ديكتاتوري، بنظام يمكن أن يعطي الناس بعض التنفس أو الراحة، لذلك فإن أي حركة أو محاولة إصلاحية عندنا يجب ألا تقوم إلا من الداخل، وهذا لا يمنع من أن نستفيد من بعض التطورات، أي عندما تأتي بعض التطورات العسكرية التي قد نوافق أو لا نوافق عليها، علينا أن نقوم بعملية الإصلاح وألا نتلقى التعليمات من أميركا أو من غير أميركا.

مشكلة أخطر!

س: عملية الإصلاح من سيقوم بها في زمن الحروب إذا لم نستطع القيام بها في زمن الراحة، خصوصاً أن زمن الحرب أو الحملة الأميركية على المنطقة ستفسح في المجال أكثر وأكثر لقوى التخلف وقوى الخرافة والأساطير أن تقود هي المجتمعات من جديد؟

ج: لم يحصل الإصلاح في وقت الراحة، لأن الناس لم تكن تشعر بمشكلة...

س: هذا يطرح مشكلةً أخطر، غياب المراجع....

ج: صحيح، فعندنا مشكلة سواء، في وقت الراحة أو في الأزمات العسكرية، وهي أن هناك فريقاً من الناس على مستوى القيادات، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، لا تؤمن بالإصلاح، وترى الإصلاح هرطقة وكفراً وضلالاً وانحرافاً...الخ وربما يعيش كثيرون حال الاسترخاء، لأنهم يقولون "لا مشكلة" ! لذلك أعتقد أن قيمة الأزمات أنها تستطيع أن تستنفر الواقع وتستفز الذين يفكرون بالتغيير في المنطقة، فإنني أتصور أن علينا ألا نفكر لسنةٍ أو سنتين، وإنما علينا أن نفكر على مستوى أجيال، نحن نريد أن نأخذ من الماضي درساً للمسقبل، وقد مر العالم العربي والإسلامي في القرن الفائت بالكثير من التحديات السياسية والفكرية والأمنية، وكان الغرب بعامة يحاول أن يسيطر على المنطقة، ولكن نشأت طلائع فكرية وسياسية وثقافية، ولو على مستوى معين، في الجانب الإسلامي والجانب غير الإسلامي، استطاعت أن تواجه الخطة الغربية وتحولها إلى خطة مضادة، فالقومية العربية انطلقت من الغرب لأجل إسقاط الخلافة العثمانية، ولتكون وسيلة من وسائل سيطرة الغرب على المنطقة والسيطرة عليها، ولكن القومية العربية التي مرت في تبدلات وتطورات عدة، تحولت إلى عنصر مواجه للهيمنة الغربية، وهذا ما لاحظناه حين حارب الغرب جمال عبد الناصر بأقسى ما يكون من الحرب، وهو الذي حمل لواء القومية العربية وحاول أن يرفع التناقض بينها وبين الإسلام بطريقة أو بأخرى، لذلك أرى أن الأمة تختزن في داخلها، رغم كل السلبيات، الكثير من إمكانات التطوير والتغيير والمواجهة، وأعتقد أن الأزمات، وخصوصاً الأزمة المقبلة، سوف تخلق حالاً من الوعي للأمة بشكل لم تعرفه في تاريخها من قبل، وحتى ستخلق حالاً من الوعي في العالم كله.

س: يعني ربّ ضارة نافعة؟!.

ج: نعم، ولعلَّنا بدأنا نرى طلائع ذلك في هذه الحرب العالمية والإعلامية والسياسية ضد أميركا، ولذلك فإني أتصوَّر أنه إذا كانت هذه الانتفاضة العالمية المتنوعة ضد أميركا، والتي عاشها العالم العربي والإسلامي على مستوى الشعوب، كما يعيش الإنسان الجرح الذي يأكل كل عافيته، إنني أتصور أنه إذا كانت هذه الانتفاضة بهذا الحجم قبل الحرب، فكيف ستكون بعد الحرب؟

لا تقسيم

س: ماذا تتوقع لمستقبل العراق إذا وقعت الحرب؟ وهل ترى إمكانيةً لتقسيمه؟

ج: في دراستنا لتاريخ العراق، لا نجد أية فرصة للتقسيم إلا في الدائرة الكردية، ذلك أننا في قراءتنا لتوجهات المسلمين السنة أو الشيعة، نرى أن الشيعة، وهم الذين يعتبرون أنفسهم الأكثرية التي لا تملك حقوقها الشرعية، لم تصنع داخل وجدان الإنسان الشيعي أية فكرة في بناء دولة مستقلة، ولم يحدث أيضاً بين السنة والشيعة في مدى التاريخ، على الأقل في مدى القرنين الماضيين أو الثلاثة، أي حرب بينهما، بل إن الشيعة من خلال علمائهم دخلوا في حرب مع البريطانيين لمصلحة الحكم العثماني الذي هو حكم سني، حسب الاصطلاح المذهبي، وكان يضطهد الشيعة، لهذا فإن مسألة التقسيم على المستوى المذهبي لا أرضية لها في العراق.

س: حتى لو تمّ تركيب ثلاث مقاطعات أو دويلات كما تخطط أميركا لإقامة نظام فدرالي بينها؟

ج: الفدرالية بالنسبة إلى الأكراد تتصل وتتعلق بمسألة القومية الكردية، وبالطموح الكردي لتحويل المناطق الكردية في إيران وسوريا وتركيا والعراق إلى دولة موحدة، أما بالنسبة إلى الجانب الإسلامي، فالعالم الإسلامي لم يتقسم مذهبياً، وما يطرح في هذا المجال هو فزاعات. ثم هناك نقطة مهمة، وهي أية حاجة لأميركا في تقسيم العراق؟! عدا عن أن تقسيم العراق هو من القضايا التي لا بد أن تخضع لرأي دولي على طريقة ما حصل في "سايكس بيكو"، ولا أعتقد أن هناك أية مصلحة دولية للتقسيم، لأن تقسيم العراق قد يمتدُّ إلى تقسيم المنطقة كلها.

س: "سايكس بيكو" ترجمة لموازين قوى عالمية حينها، اليوم موازين القوى تميل إلى أميركا؟

ج: عندما تكون المنطقة كلها تحت سيطرة أميركا، فليس هناك ضرورة للتقسيم، هذه كانت مصلحة إسرائيل سابقاً، وهي تقسيم المنطقة إلى دويلات دينية، لتبرير وجودها..

س: والآن؟

ج: الآن تملك إسرائيل قوة تتفوق فيها على كل المنطقة، ولا سيما بتحالفها مع أميركا، ولذلك لم تعد بحاجة لتبرر وجودها في المنطقة كدولة دينية من خلال خلق كيانات أو دويلات دينية إلى جانبها.

"طاغية ديموقراطي"

س: هل تتوقع "حزب الله عراقي" بعد الحرب أم قرضاي جديد أم..؟

ج: أتصور أن الطريقة الأميركية ستستبدل طاغية بثوب ديكتاتوري بطاغية بثوب ديموقراطي، أما ما سيحدث بعد الاحتلال، فلا أتصور أن أميركا ستستطيع أن ترتاح في العراق.

س: سيقاوم العراقيون؟

ج: لا أتحدث عن أن العراقيين سيقاتلون في شكل تلقائي في البداية، بالرغم من وجود وطنية عراقية حقيقية، لأن قوة طغيان النظام العراقي على شعبه، جعلت شعب العراق يفكر بالتخلص منه حتى ولو مع الشيطان، لكن عندما تتطور الأمور، ويتخلص العراقيون من هذا الرعب، فمن الطبيعي جداً أن يلتفتوا إلى طبيعة السياسة الأميركية عندهم.

.. إلى النجف

س: وماذا تتوقعون بالنسبة إلى المرجعية الشيعية في النجف؟

ج: لا أتصور أن المرجعية سوف تتأثر بذلك.

س: هناك كلام عن أن المطلوب أميركياً، هو أن تستعيد النجف حضورها على الخارطة الإسلامية، وعلى الخارطة الشيعية بخاصة، لمواجهة مؤسسات سلفية أخرى شيعية وسنية في البداية، ومن ثم وصولاً إلى مناطق عربية وإسلامية أخرى نشأ فيها ما تسميه أميركا الإرهاب؟

ج: النجف، بصرف النظر عن كلِّ التطورات التي حصلت، لا تزال تعيش في وجدان الإنسان الشيعي في العالم أكثر من أي بلد آخر، حتى إن قم بالرغم من أنها أصبحت الحوزة الأعظم من خلال طبيعة تواجد العلماء والمراجع والطلاب فيها، لم تستطع أن تدخل في الوجدان الشيعي، سواء من الناحية الدينية الولائية إن صح التعبير، أو من الناحية التاريخية، لأن النجف تملك تاريخاً يربو على أكثر من ألف سنة، حتى إن أغلب مراجع التقليد في قم هم خريجو النجف، لذلك أعتقد أن النجف عندما تنفتح وتأخذ حريتها بمعنى حرية الهجرة إليها، فإنها سوف تأخذ حجمها الطبيعي في شكل تلقائي. إن وجود منبر الإمام علي (عليه السلام) في النجف يملك جاذبية سحرية ليست موجودة في أي مكان من الأماكن المقدسة لدى الشيعة، أضف إلى ذلك وجود كربلاء إلى جانب النجف والكاظمية وسامراء...الخ، لذا أعتقد أن القضية ستأخذ حجمها في شكل طبيعي، بصرف النظر عما يخطط له الأميركيون. وفي طبيعة الحال، فإنَّ على الواعين من العلماء في النجف وفي الحوزات الأخرى، أن يعتبروا أن المسألة السياسية أصبحت في تطوراتها الحديثة تأخذ في حساباتها عند المستكبرين المسألة الثقافية، وحتى المسائل الدينية والمذهبية. ومن هنا، فإن مواجهة الاستكبار العالمي، وخصوصاً الأميركي، يجب أن تأخذ ذلك في الحسبان.

س: هل ستذهب إلى النجف لتقوم بدورك من هناك كمرجع تقليد؟

ج: ولدت في النجف، ولذا أنا نجفي في الولادة وفي الشباب، لكن أن أذهب إلى النجف، مثلما يذهب إليها الكثيرون من المقلدين في العراق وغيرها، فإن ذلك خاضع للظروف.

س: وإذا سمحت الظروف؟

ج: طبعاً.

الكنائس المسيحية

س: ما رأيكم بموقف الفاتيكان ومواقف الكنائس المسيحية الأخرى في العالم التي أجمعت على رفض الحرب الأميركية على العراق؟

ج: نرحب جداً بهذا الموقف المسيحي الذي يستهدي معنى المسيح في معنى السلام ضد الذين يصنعون الحرب، لذلك اعتبرنا أن ما حدث يمثل انسجاماً طبيعياً مع رسالة السيد المسيح، ونحن نعتبر أن الفاتيكان من خلال شخصية البابا، والموقع البطريركي الأول في روسيا، إلى جانب الكنيسة الانغليكانية، انسجمت مع العناوين الكبيرة في رسالة السيد المسيح.

س: هل سيؤسس ذلك لبروز أفق جديد في العلاقة بين الإسلام والمسيحية؟

ج: نحن كنا ولا نزال نطالب الكنيسة المسيحية في شكل عام، والكاثوليكية في شكل خاص، أن تعمل مع القوى الإسلامية على أساس التحرك على مستوى العالم في ما تلتقي عليه، وهما عنوانان: عنوان الإيمان في مواجهة الإلحاد، وعنوان الإنسان المستضعف في مواجهة الإنسان المستكبر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}، أي أن نلتقي على أساس وحدة الله، ووحدة الإنسان، فلا يكون الإنسان رباً للإنسان وهو ما يفعله المستكبرون. ولهذا سجَّلنا تحفظاً كبيراً على اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، لأن الفاتيكان ليست مجرد دولة، بل رسالة، وفي لقاء في دمشق مع بعض الكرادلة، سألت لو أن السيد المسيح موجود الآن فهل يعترف بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟ وهل يكون مع الفلسطينين أم مع الإسرائيليين؟ فأجاب مسؤول الحوار بين الأديان في الفاتيكان، فرانسيس ارينزي: "إسرائيل أمر واقع"، فتوجهت عندها للسفير البابوي وكان من المجتمعين وقلت له، وكان المترجم بيننا البطريرك هزيم: "الشيطان أمر واقع، فهل نعترف بشرعية الشيطان"؟! ولذا نحن نعتقد أن الإسلام والمسيحية في مسألة إنسانية الإنسان محكومان من خلال رسالتيهما بالتعاون والتكامل، ولذلك نحن نرحب بكل مبادرة تنسجم مع الخط الرسالي الذي تؤمن به الديانتان.

س: في الإطار نفسه، كيف ترون أيضاً إلى الموقف اللافت للبطريرك صفير الذي أعلنه في هذا المجال؟

نحن رحبنا ونرحب بهذا الموقف، لأننا ـ وخصوصاً في لبنان ـ نحتاج إلى المزيد من الإيجابيات على المستوى المسيحي والإسلامي، حتى نعالج المسألة النفسية، التي ربما تنعكس إيجابياً على المسألة السياسية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية