انتظار الإمام... بالإصلاح وإعداد الأرض له

انتظار الإمام... بالإصلاح وإعداد الأرض له

انتظار الإمام... بالإصلاح وإعداد الأرض له

بمناسبة الخامس عشر من شهر شعبان المعظم أجرت إذاعة "البشائر" حديثاً مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، في 13 شعبان 1424هـ / 9ـ10 ـ 2003م، حول معاني هذه المناسبة، وكيفية انتظار الإمام المنتظر(عج)، والمسؤوليات الملقاة على عاتق المسلمين.

وفي ما يأتي نص هذا الحديث:

فلسفة "المهدوية"

* الاعتقاد بالمخلص الموعود والمنتظر في آخر الزمان، هو اعتقاد موجود ليس عند المسلمين فقط، بل ربما يشمل معظم الأديان الأخرى، فما هو برأيكم الدافع إلى وجود هذا الاعتقاد على الصعيد الديني العام، وما هي أهميته وضرورته أيضاً؟

ـ إننا ننفتح على هذا الإمام الذي يمثّل الانطلاقة الغيبية في أجواء الإمامة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لتكون هداية للناس بعد إمامة الأنبياء، لأن للأنبياء صفتين: صفة النبي الذي يُوحى إليه من الله، بما يريد منه الله أن يبلغه للناس، وصفة كونه القيادة التي تحرك الفكرة في خط التطبيق، وترصد كل حركة الواقع ليكون النبي نبياً وإماماً وشاهداً.

بيد أن الإمام الحجة(ع) يختلف عمّن سبقه من الأئمة لأن الأئمة الذين سبقوه من آبائه كانت رسالتهم تتحرك في السياق العام للأمة، بحيث كانوا يتابعون الأمة بشكل تفصيلي في كل التطورات والمتغيرات الفكرية والعملية ليوجهوا خط السير في الاتجاه الصحيح. ومن هنا، فقد كانت مهمة هؤلاء الأئمة(ع) تفصيل الرسالة وتحريك مفرداتها في الواقع ومواجهة التحديات، وإطلاق التحديات في كل الجوانب التي تحيط بالعالم الإسلامي،وتحمّل التضحيات في ذلك.

ومن هنا كانت حركة الامامة عند الأئمة السابقين تمثل كل هذا التراث الرسالي التي يُغني الامتداد الزمني في حياة الإنسان.

أما الإمامة في خط الإمام المهدي(عج) فإنها تمثل الإمداد للمستقبل في شكل شمولي.

* سماحة السيد كيف يكون هذا الإعداد؟

ـ إن هناك حال غيبية في مسألة السر الذي تختزنه مسألة الغيبة، ومهما تعددت العناوين التي لا تخلو من الأجواء الغيبية والأدبية كالإستعارة والكناية وغير ذلك، فإننا نعتقد أن ذلك غيب من غيب الله سبحانه وتعالى. ولكننا نستطيع أن نعرف أولاً أن الإمامة عندما انطلقت في خاتمتها لم تنطلق في حالة فراغ، لأن التراث الذي تركه النبي(ص)، أو التراث الذي جاء به القرآن والسنّة والأئمة(ع)، جعل الساحة الثقافية الإسلامية مملوءة بما يحتاجه الناس. ومن هنا ورد في التوقيع الشريف المروي عن الإمام الحجة(عج)، في آخر الغيبة الصغرى: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، ما يوحي بأن ما يحمله هؤلاء الرواة من التراث يكفي لحل كل المشاكل الفقهية والكلامية والفكرية في هذا المجال.

* لماذا استعيض عن السفراء برواة الحديث؟

ـ إن كلمة رواة الأحاديث يُراد بها الذين يحملون كل الخط الإسلامي الأصيل، الذي انطلق من الكتاب والسنة ويتحرك في تعاليم أهل البيت(ع).ولم يكن هناك فراغ، لأن الغيبة الصغرى، التي كان السفراء يمثلونها، كانت مرحلة إعداد للغيبة الكبرى، وإيجاد بعض التعليمات للناس كي يأخذوا بها لأن المسألة هي أن غيبة الإمام، بحسب السر الغيبـي الذي يعرفه الله، كان يُراد بها أن ينفصل الإمام عن العالم المشهود، بحيث يعيش في عالم مليء بالأسرار والفيوضات الإلهية والإعداد الإلهي ليحمل هذه الرسالة العالمية الشاملة التي هي رسالة لا ترتبط بالخطوط الجزئية هنا وهناك، بل هي تمثل شمولية الإسلام الفكري والإسلام الحركي في كل ما يتصل بقضايا الأمن والسلام والتقدم، وعملية التغيير والتطور في العالم. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى، بحسب ما نستوحيه من المسألة، والله العالم بأسراره، أراد أن يعدّه وأن يصنعه على عينه، كما أوحى الله إلى موسى: {ولتصنع على عيني}.

بحيث أن الإمام ينفصل عن الواقع المادي ليحلّق في عالم يخضع فيه لصناعة الله له، صناعة فكره وروحه والتخطيط لتجربته، وما إلى ذلك.

أثر غيبة الإمام

* البعض يقول إن الأمة تدفع ثمن هذا الإعداد للإمام، ذلك أنها لا تنعم بوجود الإمام بينها لتوجيهها؟

ـ إننّي أتصوّر أن الذين يفكّرون بهذه الطريقة يحبّون "التنبلة" في حركة الأمة لأن الله ترك للأمة كلها، من خلال كتابه، وسنة رسوله، وتراث الأئمة من أهل البيت، ما يكفي للوصول إلى النتائج الكبرى، لأن الله حدد الفكر وخطط للمنهج ولمفردات الحركة وأراد للناس أن يعملوا: {وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، ولذلك فإن على الأمة أن تعتمد على نفسها وتستوحي تراثها المعصوم، وتحاول تركيز هذا التراث وتأصيله وبلورة المصادر التي تحمله.

لذلك فإن الله لم يترك الأمة في فراغ، ومن الطبيعي إن الإمام الحجة(عج) يمثّل هذه الإطلالة الروحية الرائعة ولكن الله أراد له أن يجعل هذه الإطلالة للعالم كله، وأراد للأمة أن تتحرك في الاتجاه الذي تعد فيه الواقع لحركة الإمام، بأن تصنع هنا موقعاً إسلامياً، وتصنع هناك انفتاحاً إسلامياً، لأن الذين يعتبرون أنه ليس هناك صلاح ولا إصلاح في زمن الغيبة هم أشخاص لا يفهمون المسألة، لأن المسألة هي أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، أي العدل الشمولي العالمي، ولكن ما من مشكلة أن يكون هناك إعداد للنماذج الطبيعية الرسالية التي يمكن أن تعد الأرض التي ينطلق بها الإمام.

الانتظار الإيجابي... والسلبي

* ورد في الحديث الشريف: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج"، ويفسّر البعض هذا الانتظار بوجهة نظر سلبية، كما أسلفتم، وهنا نتساءل عن الدعاء للإمام المهدي(عج) وما حاجته لدعائنا؟

ـ نحن نعتقد أن تراث الدعاء في هذا الجانب ينطلق من محاولة التعبئة الشعورية للارتباط بالإمام المهدي حتى لا ينساه الناس، وإلاّ فإن الإمام المهدي(عج) لا يملك أمر ظهوره كما لم يملك أمر غيبته، والله هو الذي اختار وقت الغيبة، كما هو يختار وقت الظهور.

إن بعض أهداف الدعاء تعبئة الإنسان بالمعاني الروحية، وتوليد انفتاحٍ عنده على الشخصيات المقدسة، كما نرى الآن في الأدعية التي تتحدث عن "الدعاء للنبي(ص)" وعن الصلاة عليه وعن جهاده، وما إلى ذلك، إن المسألة هي أن تبقى الذاكرة الإسلامية حية في الوجدان الإسلامي العام من خلال هذه الأساليب.

إننا نتصور أن ما نستوحيه من ذكرى الإمام المهدي(عج) في يوم ولادته هو أن نحمل شعار العدل الكوني الإنساني الشامل، بحيث ننطلق في كل هذه الضوضاء السياسية والأمنية والاقتصادية التي يحاول المستكبرون الظالمون أن يسيطروا من خلالها على مقدرات الناس وقضاياهم، بحيث ينطلق المسلمون، وكل الذين يؤمنون بالإمام المهدي في رسالة العدل الشامل الذي يعطي الحياة قبل أن تنتهي في هذه الدنيا فرصة شمولية تتمثل في أن يعيش الإنسان في جنة مصغرة في الأرض ليستعد إلى الجنة الكبيرة في السماء.

إنني أعتقد أن هذا الوحي هو أن نحمل رسالة العدل الشامل في حياتنا الآن، وأن نؤمن بان الظلم في أي موقع يمثل قوة للظلم في المواقع الأخرى، وأن العدل في أي موقع يمثّل القوة للعدل في المواقع الأخرى. وأن علينا أن ننظر إلى مسألة العدل نظرة شمولية، لا مانع من أن نحدق من المنطقة التي تخصنا وطنياً أو قومياً أو إسلامياً، ولكن علينا أن نعتبر مسألة العدل في امتداده هي مسألة تتداخل فيها كل قضايا العدل في العالم.

لهذا لا بد لنا ألا نكون منعزلين عن العالم لنفكّر إننا إذا حصلنا على حل لمشاكلنا فلسنا مسؤولين عن العالم من خلال هذه الذهنية التي قسّمت الشخصية الإنسانية تبعاً للقوميات والإقليميات والجغرافيات. إن وحي هذه المسألة على صعيد الواقع هو أن نحمل رسالة العدل الشامل ونحمل هموم الإنسان في كل الواقع.

علامات الظهور

* سماحة السيد، لا بد من التطرق إلى الأحاديث الكثيرة عن عصر الظهور ودولة الإمام المهدي(عج)، واستغراق كثير من الناس في تأويل هذه الأحاديث؟

ـ من خلال دراستي لكثير من هذه الأحاديث لا أجد تأكيداً لصحة إسنادها. وإنما المنهج الذي أنادي به أن نعتبر أن قضية الإمام(عج) هي قضية من قضايا الغيب، فغيبته غيب، وظهوره كذلك، وهو أمر لا نملك معرفته بشكل تفصيلي، ولا نشعر بالحاجة إلى أن ندخل في تفاصيله.

* البعض يقول بأن الأرض قد مُلئت ظلماً وجوراً...

ـ إن مسألة الظهور ليست من اختيارنا، لذلك فإن انشغال الناس ببعض ما ينقل من أحاديث وعلامات جعلت الناس يعيشون في دائرة ضيقة مغلقة من التمنيات. فعندما تحدث هناك حرب، كالحرب العراقية الإيرانية والحروب العربية الإسرائيلية وغيرها ،يُقال إن هذا وقت الظهور.

إني أعتقد أن الاشتغال بهذا هو إضاعة للجهد. إن هناك آية شريفة يمكن أن نستخدمها من أجل أن تبقى الأمل كبير في نفوسنا، {إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً}، والأمر بيد الله، ونحن ننتظر أمر الله سبحانه وتعالى في ذلك، وعلينا ألا نشغل أنفسنا بتفاصيل، مثل زواج الإمام وهل له أولاد وأين يقيم؟...، وهذا كله لغو من القول. إن المسألة أن الغيبة لم تصادر الإسلام، ولم تجعله يعيش في إجازة، بل هي تؤكد لنا أن علينا أن نحمل رسالة الإسلام، لأن الإسلام بين أيدينا كتاباً وسنة وتراثاً إمامياً، ولا بد لنا أن نؤكّده للناس لأن الله جعل الإسلام مسؤولية كل مسلم ومسلمة، منذ عهد النبي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لذلك فإن على المسلمين جميعاً أن يهتموا بالإسلام في مفاهيمه وشرائعه وعقائده وفي الواقع الذي يعيشه المسلمون، وفي التحديات والمتغيرات التي تحدث في العالم. وهذا الذي ينبغي أن يكون محل اهتمامانا ومحل حركتنا في هذا الموضوع.

لذلك فإن علينا أن نعمل لتقوية كل حركة إسلامية تعمل على تأصيل الإسلام في ثقافته وفي سياسته وفي أمنه واقتصاده، هذا هو وحي ذكرى الإمام المهدي(عج) لأن الإمام المهدي لن يأتي بدين جديد، ولن يأتي بمنهج جديد. بل إن الإسلام هو رسالته والمنهج القرآني هو منهجه، وهذا ما ينبغي لنا أن نركز عليه، لأن الإسلام بحاجة إلى الدعاة إلى الله الذين ينتشرون في كل العالم.

إن علينا ألاّ نستغرق في السياسة وحدها، ولا في الجهاد، وحده، ولا أن نجزّىء الإسلام هنا وهناك، بل نأخذ الإسلام كله، جملة وتفصيلاً، لنندفع إلى رعايته جملة وتفصيلاً.

انتظار الإمام... بالإصلاح وإعداد الأرض له

بمناسبة الخامس عشر من شهر شعبان المعظم أجرت إذاعة "البشائر" حديثاً مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، في 13 شعبان 1424هـ / 9ـ10 ـ 2003م، حول معاني هذه المناسبة، وكيفية انتظار الإمام المنتظر(عج)، والمسؤوليات الملقاة على عاتق المسلمين.

وفي ما يأتي نص هذا الحديث:

فلسفة "المهدوية"

* الاعتقاد بالمخلص الموعود والمنتظر في آخر الزمان، هو اعتقاد موجود ليس عند المسلمين فقط، بل ربما يشمل معظم الأديان الأخرى، فما هو برأيكم الدافع إلى وجود هذا الاعتقاد على الصعيد الديني العام، وما هي أهميته وضرورته أيضاً؟

ـ إننا ننفتح على هذا الإمام الذي يمثّل الانطلاقة الغيبية في أجواء الإمامة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لتكون هداية للناس بعد إمامة الأنبياء، لأن للأنبياء صفتين: صفة النبي الذي يُوحى إليه من الله، بما يريد منه الله أن يبلغه للناس، وصفة كونه القيادة التي تحرك الفكرة في خط التطبيق، وترصد كل حركة الواقع ليكون النبي نبياً وإماماً وشاهداً.

بيد أن الإمام الحجة(ع) يختلف عمّن سبقه من الأئمة لأن الأئمة الذين سبقوه من آبائه كانت رسالتهم تتحرك في السياق العام للأمة، بحيث كانوا يتابعون الأمة بشكل تفصيلي في كل التطورات والمتغيرات الفكرية والعملية ليوجهوا خط السير في الاتجاه الصحيح. ومن هنا، فقد كانت مهمة هؤلاء الأئمة(ع) تفصيل الرسالة وتحريك مفرداتها في الواقع ومواجهة التحديات، وإطلاق التحديات في كل الجوانب التي تحيط بالعالم الإسلامي،وتحمّل التضحيات في ذلك.

ومن هنا كانت حركة الامامة عند الأئمة السابقين تمثل كل هذا التراث الرسالي التي يُغني الامتداد الزمني في حياة الإنسان.

أما الإمامة في خط الإمام المهدي(عج) فإنها تمثل الإمداد للمستقبل في شكل شمولي.

* سماحة السيد كيف يكون هذا الإعداد؟

ـ إن هناك حال غيبية في مسألة السر الذي تختزنه مسألة الغيبة، ومهما تعددت العناوين التي لا تخلو من الأجواء الغيبية والأدبية كالإستعارة والكناية وغير ذلك، فإننا نعتقد أن ذلك غيب من غيب الله سبحانه وتعالى. ولكننا نستطيع أن نعرف أولاً أن الإمامة عندما انطلقت في خاتمتها لم تنطلق في حالة فراغ، لأن التراث الذي تركه النبي(ص)، أو التراث الذي جاء به القرآن والسنّة والأئمة(ع)، جعل الساحة الثقافية الإسلامية مملوءة بما يحتاجه الناس. ومن هنا ورد في التوقيع الشريف المروي عن الإمام الحجة(عج)، في آخر الغيبة الصغرى: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، ما يوحي بأن ما يحمله هؤلاء الرواة من التراث يكفي لحل كل المشاكل الفقهية والكلامية والفكرية في هذا المجال.

* لماذا استعيض عن السفراء برواة الحديث؟

ـ إن كلمة رواة الأحاديث يُراد بها الذين يحملون كل الخط الإسلامي الأصيل، الذي انطلق من الكتاب والسنة ويتحرك في تعاليم أهل البيت(ع).ولم يكن هناك فراغ، لأن الغيبة الصغرى، التي كان السفراء يمثلونها، كانت مرحلة إعداد للغيبة الكبرى، وإيجاد بعض التعليمات للناس كي يأخذوا بها لأن المسألة هي أن غيبة الإمام، بحسب السر الغيبـي الذي يعرفه الله، كان يُراد بها أن ينفصل الإمام عن العالم المشهود، بحيث يعيش في عالم مليء بالأسرار والفيوضات الإلهية والإعداد الإلهي ليحمل هذه الرسالة العالمية الشاملة التي هي رسالة لا ترتبط بالخطوط الجزئية هنا وهناك، بل هي تمثل شمولية الإسلام الفكري والإسلام الحركي في كل ما يتصل بقضايا الأمن والسلام والتقدم، وعملية التغيير والتطور في العالم. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى، بحسب ما نستوحيه من المسألة، والله العالم بأسراره، أراد أن يعدّه وأن يصنعه على عينه، كما أوحى الله إلى موسى: {ولتصنع على عيني}.

بحيث أن الإمام ينفصل عن الواقع المادي ليحلّق في عالم يخضع فيه لصناعة الله له، صناعة فكره وروحه والتخطيط لتجربته، وما إلى ذلك.

أثر غيبة الإمام

* البعض يقول إن الأمة تدفع ثمن هذا الإعداد للإمام، ذلك أنها لا تنعم بوجود الإمام بينها لتوجيهها؟

ـ إننّي أتصوّر أن الذين يفكّرون بهذه الطريقة يحبّون "التنبلة" في حركة الأمة لأن الله ترك للأمة كلها، من خلال كتابه، وسنة رسوله، وتراث الأئمة من أهل البيت، ما يكفي للوصول إلى النتائج الكبرى، لأن الله حدد الفكر وخطط للمنهج ولمفردات الحركة وأراد للناس أن يعملوا: {وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، ولذلك فإن على الأمة أن تعتمد على نفسها وتستوحي تراثها المعصوم، وتحاول تركيز هذا التراث وتأصيله وبلورة المصادر التي تحمله.

لذلك فإن الله لم يترك الأمة في فراغ، ومن الطبيعي إن الإمام الحجة(عج) يمثّل هذه الإطلالة الروحية الرائعة ولكن الله أراد له أن يجعل هذه الإطلالة للعالم كله، وأراد للأمة أن تتحرك في الاتجاه الذي تعد فيه الواقع لحركة الإمام، بأن تصنع هنا موقعاً إسلامياً، وتصنع هناك انفتاحاً إسلامياً، لأن الذين يعتبرون أنه ليس هناك صلاح ولا إصلاح في زمن الغيبة هم أشخاص لا يفهمون المسألة، لأن المسألة هي أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، أي العدل الشمولي العالمي، ولكن ما من مشكلة أن يكون هناك إعداد للنماذج الطبيعية الرسالية التي يمكن أن تعد الأرض التي ينطلق بها الإمام.

الانتظار الإيجابي... والسلبي

* ورد في الحديث الشريف: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج"، ويفسّر البعض هذا الانتظار بوجهة نظر سلبية، كما أسلفتم، وهنا نتساءل عن الدعاء للإمام المهدي(عج) وما حاجته لدعائنا؟

ـ نحن نعتقد أن تراث الدعاء في هذا الجانب ينطلق من محاولة التعبئة الشعورية للارتباط بالإمام المهدي حتى لا ينساه الناس، وإلاّ فإن الإمام المهدي(عج) لا يملك أمر ظهوره كما لم يملك أمر غيبته، والله هو الذي اختار وقت الغيبة، كما هو يختار وقت الظهور.

إن بعض أهداف الدعاء تعبئة الإنسان بالمعاني الروحية، وتوليد انفتاحٍ عنده على الشخصيات المقدسة، كما نرى الآن في الأدعية التي تتحدث عن "الدعاء للنبي(ص)" وعن الصلاة عليه وعن جهاده، وما إلى ذلك، إن المسألة هي أن تبقى الذاكرة الإسلامية حية في الوجدان الإسلامي العام من خلال هذه الأساليب.

إننا نتصور أن ما نستوحيه من ذكرى الإمام المهدي(عج) في يوم ولادته هو أن نحمل شعار العدل الكوني الإنساني الشامل، بحيث ننطلق في كل هذه الضوضاء السياسية والأمنية والاقتصادية التي يحاول المستكبرون الظالمون أن يسيطروا من خلالها على مقدرات الناس وقضاياهم، بحيث ينطلق المسلمون، وكل الذين يؤمنون بالإمام المهدي في رسالة العدل الشامل الذي يعطي الحياة قبل أن تنتهي في هذه الدنيا فرصة شمولية تتمثل في أن يعيش الإنسان في جنة مصغرة في الأرض ليستعد إلى الجنة الكبيرة في السماء.

إنني أعتقد أن هذا الوحي هو أن نحمل رسالة العدل الشامل في حياتنا الآن، وأن نؤمن بان الظلم في أي موقع يمثل قوة للظلم في المواقع الأخرى، وأن العدل في أي موقع يمثّل القوة للعدل في المواقع الأخرى. وأن علينا أن ننظر إلى مسألة العدل نظرة شمولية، لا مانع من أن نحدق من المنطقة التي تخصنا وطنياً أو قومياً أو إسلامياً، ولكن علينا أن نعتبر مسألة العدل في امتداده هي مسألة تتداخل فيها كل قضايا العدل في العالم.

لهذا لا بد لنا ألا نكون منعزلين عن العالم لنفكّر إننا إذا حصلنا على حل لمشاكلنا فلسنا مسؤولين عن العالم من خلال هذه الذهنية التي قسّمت الشخصية الإنسانية تبعاً للقوميات والإقليميات والجغرافيات. إن وحي هذه المسألة على صعيد الواقع هو أن نحمل رسالة العدل الشامل ونحمل هموم الإنسان في كل الواقع.

علامات الظهور

* سماحة السيد، لا بد من التطرق إلى الأحاديث الكثيرة عن عصر الظهور ودولة الإمام المهدي(عج)، واستغراق كثير من الناس في تأويل هذه الأحاديث؟

ـ من خلال دراستي لكثير من هذه الأحاديث لا أجد تأكيداً لصحة إسنادها. وإنما المنهج الذي أنادي به أن نعتبر أن قضية الإمام(عج) هي قضية من قضايا الغيب، فغيبته غيب، وظهوره كذلك، وهو أمر لا نملك معرفته بشكل تفصيلي، ولا نشعر بالحاجة إلى أن ندخل في تفاصيله.

* البعض يقول بأن الأرض قد مُلئت ظلماً وجوراً...

ـ إن مسألة الظهور ليست من اختيارنا، لذلك فإن انشغال الناس ببعض ما ينقل من أحاديث وعلامات جعلت الناس يعيشون في دائرة ضيقة مغلقة من التمنيات. فعندما تحدث هناك حرب، كالحرب العراقية الإيرانية والحروب العربية الإسرائيلية وغيرها ،يُقال إن هذا وقت الظهور.

إني أعتقد أن الاشتغال بهذا هو إضاعة للجهد. إن هناك آية شريفة يمكن أن نستخدمها من أجل أن تبقى الأمل كبير في نفوسنا، {إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً}، والأمر بيد الله، ونحن ننتظر أمر الله سبحانه وتعالى في ذلك، وعلينا ألا نشغل أنفسنا بتفاصيل، مثل زواج الإمام وهل له أولاد وأين يقيم؟...، وهذا كله لغو من القول. إن المسألة أن الغيبة لم تصادر الإسلام، ولم تجعله يعيش في إجازة، بل هي تؤكد لنا أن علينا أن نحمل رسالة الإسلام، لأن الإسلام بين أيدينا كتاباً وسنة وتراثاً إمامياً، ولا بد لنا أن نؤكّده للناس لأن الله جعل الإسلام مسؤولية كل مسلم ومسلمة، منذ عهد النبي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لذلك فإن على المسلمين جميعاً أن يهتموا بالإسلام في مفاهيمه وشرائعه وعقائده وفي الواقع الذي يعيشه المسلمون، وفي التحديات والمتغيرات التي تحدث في العالم. وهذا الذي ينبغي أن يكون محل اهتمامانا ومحل حركتنا في هذا الموضوع.

لذلك فإن علينا أن نعمل لتقوية كل حركة إسلامية تعمل على تأصيل الإسلام في ثقافته وفي سياسته وفي أمنه واقتصاده، هذا هو وحي ذكرى الإمام المهدي(عج) لأن الإمام المهدي لن يأتي بدين جديد، ولن يأتي بمنهج جديد. بل إن الإسلام هو رسالته والمنهج القرآني هو منهجه، وهذا ما ينبغي لنا أن نركز عليه، لأن الإسلام بحاجة إلى الدعاة إلى الله الذين ينتشرون في كل العالم.

إن علينا ألاّ نستغرق في السياسة وحدها، ولا في الجهاد، وحده، ولا أن نجزّىء الإسلام هنا وهناك، بل نأخذ الإسلام كله، جملة وتفصيلاً، لنندفع إلى رعايته جملة وتفصيلاً.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية