أكد سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله أن الشيعة في جنوب العراق وفي وسطه يعيشون قضية الحرية لبلدهم في مواجهة أي احتلال مؤكداً أن النجف لن تقبل بوجود المحتل. وحذر من أن المسألة ليست نفط العراق فقط لأن أمريكا تريد السيطرة على نفط العالم وعلى مفاصل الطاقة في العالم. وأبدى خشيته من أن تكون القضية الفلسطينية هي الخاسر الأكبر من حرب العراق، مستبعداً أي عمل عسكري إسرائيلي ضد لبنان، "لأن أمريكا لا تريد فتح جبهة أخرى". جاء ذلك في حوار تلفزيوني مع سماحته أجرته قناة "العربية" الفضائية، ومما جاء في الحوار: |
|
الموقف الشيعي:
* أنت أكثر من يعرف العراق وجنوبه، وكان يُقال إن الأمريكيين سيُستقبلون بالورد والأرزّ من قبل الشعب العراقي الجنوبي، حيث الأكثرية الشيعية. ماذا تقول اليوم لأهل العراق في الجنوب والذين قاوموا ويقاومون؟
ـ أعتقد أن الذين تصوروا هذه المسألة، كانوا تحت تأثير المعلومات الضبابية عن الوضع الداخلي الذي عاشه الشعب العراقي، ولا سيّما في الجنوب، وكانوا يتصوّرون أن الشعب العراقي مستعدٌ لأن يستقبل كل الفاتحين والشياطين ليتخلص من الواقع المأساوي الذي يعيشه. ولكنَّنا نعتقد من خلال تجارب تاريخية، ومن خلال معاناة الإنسان العراقي، ولا سيّما الإنسان المسلم الشيعي، أنه الإنسان الذي يعيش قضية الحرية إلى جانب قضاياه الإنسانية والسياسية الداخلية. ونحنُ نتذكر في سنة 1917 عندما كان العراق خاضعاً للحكم العثماني، وكان الشيعة لا يعيشون حقوقهم السياسية والمدنية التي يستحقونها إلى جانب إخوانهم من المسلمين السنّة وغيرهم... في هذه الحالة، وفي تلك الفترة، جاء الاحتلال البريطاني لمواجهة الجيش العثماني، إلا أنّ علماء النجف قاموا بمناصرة الجيش العثماني بإعلان الثورة ضد الاحتلال الإنكليزي بوسائل لم تكن متناسبة مع قوة المحتل البريطاني في تلك الفترة، وذلك لأنهم كانوا يعتبرون أنَّ مسألة الاحتلال هي فوق مسألة معاناتهم الداخلية من الحكم العثماني... ولهذا فنحنُ نتصوَّرُ أن المسلمين الشيعة في الجنوب وحتّى في الوسط، يعيشون قضية الحرية لبلدهم في مواجهة المحتل أياً كان، وخصوصاً الاحتلال الأمريكي والبريطاني، وهم يتدبرون أمرهم بطريقتهم الخاصة في مواجهة كل الواقع المأساوي الطاغي المنحرف في الداخل.
أميركا تحارب خدمةً لمصالحها:
* بما أن الحديث عن الطائفة الشيعية في الجنوب والوسط، هناك موقف متأرجح، لسماحتكم، فأنتم تطلبون في خطبة الجمعة إسقاط الطاغية، وفي الوقت نفسه تدعون الأحرار لمساعدة هذا الشعب في انتفاضته المستقبلية، وتمنيتم من حزب الدعوة أن يوقف الاتصال بخليل زاده. وهناك الشيعة الموالون للسيد محمد باقر الحكيم الذين يقولون أنهم جاهزون للقتال وحتّى الآن لا شيء على الأرض؟
ـ أولاً: لم يصدر مني تعليمات أو فتوى للأخوة في حزب الدعوة في هذا المجال، ولكنهم وحسب ما أعرف استراتيجيتهم، يرفضون أن يكون هناك أية حكومة عراقية تتحرك من خلال المحتل، سواء كان ذلك بشكل بارز أو بشكلٍ مموّه بأكثر من غطاء وغطاء.. ولهذا فالقضية تُمثّلُ في الحسابات الإسلامية الاستراتيجية مسألةً أساسية، فإذا كُنّا لا نقبل أن يكون العراقيّ أو العربيّ حاكماً من دون خيار الناس ورضاهم، فكيف يمكن أن نقبل بأن يكون المحتل هو الذي يفرض الحكومة أو يختفي وراء أيّة حكومة تبرز في حالة الاحتلال. وإذا كان بعض المسؤولين الأمريكيين، ولا سيّما الرئيس بوش والإدارة معه، يقولون إننا جئنا محررين وهذه حرب الحرية للعراق ولسنا محتلين، فنحنُ نتذكر في سنة 1917 اللواء مود الذي كان يسيطر على العراق البريطاني ويخاطب أهل بغداد آنذاك ويقول لهم إننا جئنا محررين ولم نأتِ محتلين... ونحن نعرف قضية الثورة العربية الكبرى...
إنني أعتقد أن هذا هو الطعم الذي يحاولُ فيه الأمريكيون الاستفادة من مآسي الشعب العراقي الداخلية ليحقّقوا استراتيجيتهم، لا على مستوى العراق، ومستوى السيطرة على نفط العراق فحسب، بل على مستوى السيطرة على نفط العالم كله، حتّى تستطيع أمريكا الإمساك بالطاقة الحيوية في العالم، بحيث تتمكن من الضغط على أوروبا والاتحاد الأوروبي والصين واليابان، وحتّى على روسيا، التي سوف ينزل ثمن نفطها أمام فيضان النفط في هذا المجال... إن أمريكا في استراتيجيتها الحربية تحاول أن تنظر إلى المستقبل، بحيث تمنع نشوء قوة كبيرة تشكّل محوراً عالمياً دولياً جديداً يوازن أمريكا على طريقة الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهو ما يفسر إلى حد بعيد كيف أن أوروبا وفي طليعتها فرنسا وروسيا والصين، وقفت بشكل غير مسبوق لتقول لأمريكا بكلّ عنفٍ دبلوماسي "لا"، وتتحرّك لتمنع حصول أمريكا على الأصوات التسعة في مجلس الأمن الضرورية لاستصدار قرارها الثاني بالحرب، بالرغم من أن الكثير من هؤلاء يعتبرون من الدول الضعيفة كالمكسيك وتشيلي والدول الأفريقية أو الباكستان. المهمّ أن المسألة هي أن فرنسا في موقفها الذي أعلنت فيه ما أعلنت منعت أمريكا من تحقيق أهدافها من خلال مجلس الأمن الدولي، وقد يقولُ قائل: لماذا حصل ذلك مع أن أمريكا مارست ضغطاً على هذه الدول، وقد قام وزير الخارجية الأمريكية بجولات دبلوماسية للضغط على هذه الدول في هذا المجال، إنّ المسألة هنا هي أن فرنسا عندما هدّدت بالفيتو ضد مشروع القرار الأمريكي البريطاني، فإن هذه الدول بدأت تحسبُ حسابها من جهتين:
الأولى: من جهة الدول الإسلامية التي ترفض شعوبها الحرب الأمريكية على العراق، فحاذرت أن تظهر أمام العالم بوصفها مشرّعة لقرار الحرب كـ"باكستان" مثلاً، ولذلك قالوا إننا نمتنع عن التصويت على المشروع الأمريكي البريطاني، وهذا معناه أن أمريكا لن تحصل على أصواتٍ كافية، ولهذا رأينا هذه الهستيرية الأمريكية والبريطانية، وحتّى الأسترالية التي زايدت على أمريكا وبريطانيا في هذا المجال ضد فرنسا وشيراك بالذات، وذلك لأنها استطاعت هزيمة أمريكا دبلوماسياً في مجلس الأمن، ولهذا نعتقِدُ أن أمريكا ابتلعت هذه الهزيمة وهددت مجلس الأمن وأنها سوف تنفرد بالقرار وقد انفردت.
لهذا نحنُ نعتبر أن الشعارات التي ترفعها أمريكا بالنسبة للعراق ليست شعارات إنسانية الهدف منها إنقاذ الشعب العراقي من نظامه، فأمريكا ليست جمعية خيرية، بل هي دولة تحارب لأجل مصالحها فحسب .
الشعوب تقرّر مصيرها بنفسها:
* عذراً على المقاطعة، هل أنت تدعو للفتوى التي أصدرتها في تحريم التعامل ومعاونة الأمريكيين؟ وهل تدعو للجهاد ضد الأمريكيين، وتدعو الشعب العراقي للقتال؟
ـ هناك نقطة قلتها، وهي أنّه يحرم مساعدة أمريكا على ضرب الشعب العراقي والسيطرة على مقدّراته السياسية والاقتصادية، وعلى الشعب وكُلّ شعب من شعوب المنطقة أن يتدبر أمره بالطريقة التي يستطيعُ أن يقرر فيها مصيره. ومن ناحية دينية وسياسية وإنسانية، لا نوافق على أن تخضع مقدّرات أيّ شعبٍ لمصلحة المحتل، ونحنُ سمعنا ـ كما سمعتم ـ وزير الخارجية باول في تقريره للكونغرس يقول إذا استطعنا دخول العراق واحتلاله فإنّنا سوف نغيّر الخريطة السياسية في المنطقة لحساب المصالح الأمريكية.
إنّ أمريكا تعملُ لحساب مصالحها على حساب مصالح الشعوب.
لا لاستهلاك كلمة الجهاد:
* هل تدعو للقتال والجهاد؟
ـ أنا أعتقد أنّه لا يمكننا استعمال كلمة الجهاد التي استهلكت لكثرة الاستعمال، وإني أقول إنَّ كُلَّ شعبٍ يخضع للاحتلال، ويُفرضُ عليه الاحتلال سوف يتحرّك بنفسه لمواجهة المحتل. وأنا لا أعتقدُ أن مواجهة المحتلّ للدفاع عن حرية الشعب تحتاجُ إلى فتوى... العالم، حتّى العالم غير الإسلامي، مارس حقّهُ بالمقاومة، فهل احتاج الفيتناميون لفتوى في القتال ضد أمريكا أو غيرها؟ إنّ مسألة الحريّة هي من المسائل التي تعيشُ في عمقِ الشعب العراقي والشعوب العربية والإسلامية وكُلِّ شعوب العالم الثالث المستضعفة، ولكن هناك شعباً يملك من الوسائل ما يستطيعُ من خلالها الدفاع عن حريته، وشعباً لا يملك تلك الوسائل في هذا المجال.
فلذلك، نحن نبيّنُ للشعب العراقي الجريح المظلوم المضطهد المشرّد، أنّ عليه ألا يستقبِلَ المحتل بالترحاب، بل عليه أن يقاومه بطريقته الخاصة، فنحنُ لا نرجِّح أيّة طريقة في هذا المجال، لأنَّها قضية ميدانية.
هل الدفاع عن العراق لحماية النظام؟
* ألا تخدمُ هذه المقاومة النظام العراقي، الذي اضطهد وظلم؟
ـ نحنُ نقولُ إن تحرك الشعب العراقي للدفاع عن نفسه لا يعني أن يقوم بذلك لخدمة النظام، بل ليأخذ القوّة من أجلِ إسقاط هذا النظام، ونحنُ نعرِفُ أن أمريكا هي التي ساعدت هذا النظام في الحرب العراقية الإيرانية، وساعدتُهُ في حرب الخليج، ولولا ذلك لم يكن هناك وجود عسكري أمريكي في الخليج لحماية الشعوب الخليجية من خطر النظام العراقي!
* واليوم، هل تخلّت أمريكا عن النظام الذي كانت معه؟
ـ لقد قالها أحد المسؤولين الأمريكيين، إننا كُنَّا نتعاون مع النظام العراقي، ولكنّنا الآن نتخذُ موقفاً اخر.
النجف بلدي:
* هل تحنّ ـ سماحة السيد ـ إلى النجف؟ وهل في خاطرك العودة إذا انتهت الحرب؟
ـ النجف هي البلد الذي ولدتُ ونشأتُ فيه وعشتُ فيه أغلب شبابي، منها انطلاقتي الأولى في انفتاحي على الإسلام المنفتح على العصر والإنسان الآخر، لأنّنا كُنّا فريقاً من المثقّفين والعلماء يعمل على تحديث الأساليب التي لا بُدّ أن نقدِّمها للعالم المعاصر، لنقدّم الإسلام من خلالها على أنَّهُ ليس ديناً عدوانياً، وأنّ الجهاد في الإسلام ليس عدواناً، وإنّما هو دفاع وقائيٌّ، تماماً كأيِّ حربٍ أو حركة عنف في العالم... أردنا بيان المفاهيم الإسلامية الأصيلة في الإسلام، أو المفاهيم الإنسانية التي تعترِفُ بالآخر وتؤمن بالحوار وما إلى ذلك... ولهذا أعتقدُ أن النجف استطاعت أن تُساهم بُكلِّ التنوّعات الثقافية والإنسانية لأنها تضم أكثر من قومية، استطاعت أن تحفر في شخصيتي الكثير من حركة إنسانيتي المنفتحة على الإنسان كُلّه، فأنا في الوقت الذي ألتزم الإسلام بكُلّ صلابة، لأنّ أيَّ إنسانٍ يؤمن بأيّ فكرٍ لا بُدَّ له من أن يقف معه بكُل قوة، لكنّي أنفتحُ على الآخر وأحاوره وأتفاهم معه.
النجف لا تنافس أحداً:
* سماحة السيد، صحيح أن النجف هي التي شكّلت شخصيتك الحقيقية في المولد والنشأة، ولكن هناك تنافساً بعد الثورة الإسلامية بين قم والنجف، فهل من إمكانية للعودة إلى النجف؟
ـ أتصوَّرُ أن مسألة التنافس هذه انطلقت من خلال بعض الحساسيات الصحفيّة أو بعض الحساسيات الإعلامية المخابراتية، ولا أتهم الصحافة كرسالة، لأنّ المسألة هي أن النجف في الوجدان الشيعي هي البلد الذي يضم مقام الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، والإمام علي عند الشيعة يُمثِّل الشخصية المقدّسة التي تدخلُ في كُل عصبٍ من أعصاب الإنسان الشيعي في هذا المجال. ولهذا، فإن مسألة أن تكون أي بلد ـ مع كل احترامنا للبلدان الأخرى ـ بديلاً عن النجف في معناها الروحي، فهذا أمرٌ بعيد جداً. كما أنّ هناك نقطة صغيرة، وهي أن الحوزة النجفية العلمية يعود تأسيسها إلى أكثر من ألف سنة (1000 سنة)، وإنما ضعفت باعتبار الظروف والتعقيدات التي فرضها النظام، ما أدّى إلى هجرة الكثير من علماء النجف وتطويق الكثير منهم، ولذلك فإنني أرى أنه عندما تعودُ العراق إلى الملعب الحرّ والحرية، فإن النجف سوف تأخذ حجمها، وهي لا تنافس أحداً، لا سيَّما أن أغلب العلماء في قم هم من النجف.
* هل العراق سيعود إلى حريته بعد هذه الحرب؟ وهل النجف ستقاوم الأمريكيين؟ وماذا ستقول لأهل النجف؟
ـ أتصوَّرُ أن النجف التي انطلقت منها الثورات ضد المحتل لن تقبل بوجود المحتل، وإن كانت قد عاشت أقسى الألم والمأساة والكوارث في تاريخها، فهي تملك العنفوان الإسلامي في قضية الحرية، وكما وقفت في مواجهة المستعمر في كل تاريخها من أجل الحرية، ووقفت ضد أكثر من نظام، ابتداءً من العهد الملكي، ومروراً بأكثر من عهد دفاعاً عن حرية الإنسان، فإنها لن تسقط أمام الذين يستعبدونها..
ولذلك نقول لأهلنا وأحبائنا وأبنائنا من أهل النجف، ولكُلِّ إخواننا وأهلنا في العراق، إن عليكم أن تبقوا مع الحرية، سواء في الداخل أو في الخارج.
الأمريكيون في حلٍّ من الديمقراطية:
* ألا تعتقِدُ أن الأمريكيين سيأتون برياح ديمقراطية إلى المنطقة، وكيف يمكن الحديث عن حرية دون حرب من هذا النوع؟
ـ إنني أزعمُ أنّ الأمريكيين في حلٍّ من الديمقراطية في العالم الثالث، لأننا إذا أعطينا الشعوب، ولا سيّما المتحفزة منها، ما يؤكد شخصيتها، فلن تتمكّن أية قوّةٍ أخرى من السيطرة على ثرواتها الطبيعية أو السيطرة على مقدّراتها الاقتصادية والسياسية، إنني أتصوَّرُ أن أمريكا تريد ديمقراطية في العالم الثالث على مستوى الديكور والسطح؛ فأمريكا التي وقفت ضد الأوروبيين لأنهم واجهوها برأيٍ مختلف، كيف يمكنها أن تفكر بالحرية والديمقراطية لشعوب العالم الثالث، التي هي مجرد بقرةٍ حلوب يُرادُ لها أن تسمن، حتّى تصبح مائدة طازجة كبيرة.
لذلك نرى أن إسقاط نظام هنا وهناك، قد يعطي الناس شيئاً من الراحة المؤقتة، ولكن عندما تبقى أمريكا في حالة احتلال، كما تصرِّحُ، سنة أو سنتين أو ثلاث، فإنها سوف تتدخل في شؤون البلد وتصنع له حكومته وتختفي وراء أكثر من حجاب وتتحرَّك مخابراتها لتنطلق في كل مفاصل البلد، وفي هذا المجال، هل يبقى الإنسان هناك يشعرُ بالحريّة؟! إنني أخشى أن تكون المسألة على حسب قول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
ماذا بعد الانتصار؟!:
* ماذا تنتظر؟ وهذا سؤال لسماحتكم بشكل مباشر؟
ـ هناك نقطتان لا بُدَّ أن نفكر فيهما: أنّ القوة العسكرية الأميركية والبريطانية لا يمكن للعراق وللشعب العراقي مواجهتها، لذلك فقد تقوم هذه القوة، لا سيّما إذا استدرجت للدخول في المدن، بتدمير ما يمكن أن تدمره، ومن الممكن أن تسقط النظام، وهذا الأمر ليس مستحيلاً، ولكنّ المسألة هي أن السيطرة العسكرية ليست هي كل شيء، والسؤال هو ماذا بعد الانتصار العسكري؟ وهل يمكن لها أن تحقق انتصاراً سياسياً؟ ماذا إذا لم تستطع أمريكا أن تربح الشعب العراقي، ماذا إذا امتدت أمريكا إلى العالم العربي وربما الإسلامي، وبدأت تنفذ استراتيجيتها في السيطرة على مقدراته وفي تغيير بعض الأنظمة حتّى من حلفائها، لأنّ أمريكا تخاف من أنَّ الكثير من الدول، وحتّى في الخليج، تنطلق شعوبها مع ابن لادن في هذا المجال.
لهذا إني أرى أن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تمسك المنطقة بيد من حديد بشكل مباشر، بعد أن كانت تمسكها بشكلٍ غير مباشر، حتّى تستطيع أن تسيطر على كلّ مفاصل المنطقة.
* إذا كانت أمريكا تسيطر على الشعوب بالأنظمة، فهل يمكن لها أن تتخلى عن هذه الأنظمة؟
ـ صحيح، فهي تبقي وجوهاً جديدة لها ملامح ديمقراطية، ولكنها تختفي وراء هذه الملامح بالوسائل التي يمكن لها أن تقضي على الأوضاع السلبية بالنسبة لأمريكا بطريقةٍ ديمقراطية، ونحن نعرف أن الديمقراطيات العربية بالنسبة إلى حلفاء أمريكا أصبحت تخدم أمريكا أكثر من الديكتاتوريات العربية، كما في مجالس الشورى والمجالس السياسية.
الخوف على السعودية:
* على أي أنظمةٍ تخاف سماحة السيد؟
ـ أنا أتصوَّرُ أن من بين الأنظمة التي يخشى عليها السعودية.
* إيران مثلاً؟
ـ الخوف على إيران ليس عسكرياً، بل إن أمريكا تحاول حصار إيران لتستكمل حصارها القائم من دولٍ مجاورة متحالفة ومتعاونة مع أمريكا.. فإذا حوصرت من جهة العراق بعد استيلاء أمريكا على العراق، فإنَّها سوف تعمل على خلخلة النظام الإسلامي الإيراني من الداخل، ولكني أعتقد أن هذه المسألة ستواجه صعوبات كبيرة، لأن الشعب الإيراني عندما يتعرَّض لأيِّ خطرٍ خارجيّ يتوحّد في مواجهة هذا الخطر.
هناك سيناريوهات عديدة، وهناك فكرة تعملُ على تقسيم السعودية أو تهديدها بالتقسيم، وربما كان هذا بعيداً في هذه المرحلة، فقضية تغيير خارطة الدول تحتاجُ إلى وضعٍ دوليٍّ، ينهي مسألة "سايس ـ بيكو" إلى نظام جديد... ولهذا فإني أعتقد أنّ أمريكا ستعمل على البحث عن وجوه جديدة.
* من العائلة المالكة؟
ـ ربّما من العائلة المالكة.
لا فرصه لتقسيم العراق:
* سماحة السيد، هل تنتظر تقسيم العراق مثلاً، وهل ترى ذلك يلوح في الأفق من خلال الحرب الأمريكية البريطانية؟وما هو رأيكم بالفدرالية في العراق؟
ـ أنا لا أعتقد أن هناك فرصة لتقسيم العراق، فإذا أريد تقسيمه إلى منطقة سنية ومنطقة شيعية، فالشيعة كانوا منذ البداية ضد تقسيم العراق، صحيح أن هناك حساسية في العراق بين السنة والشيعة كأي حساسية بين فئتين متعددتين، لكن العراق لم يمرّ طيلة تاريخه الحديث أو قبله، بأية حربٍ بين السنة والشيعة، وهذا هو حال لبنان مثلاً، حيث لم تحصل انتفاضات ضد السنة، بل كانت الانتفاضات والمعارضات التي تحصل تتشكّل من السنة والشيعة ضد النظام، وحتّى في الأنظمة التي كانت مسيطرةً كالنظام الملكي، صحيحٌ أن السيطرة كانت للسنّة، ولكن كان هناك أيضاً جماعة من الشيعة السياسيين يدخلون مع هذه الأنظمة وينتمون إليها.
فنحنُ نعرف أن الشيعة لا يريدون دولة شيعية في العراق، ولا يملكون بأيديهم هذا الأمر، وهم يعرفون أن هذه الدولة لن تُكتَبَ لها الحياة، ولكنّهم يطلبون عراقاً يتساوى فيه المواطنون، على أساس أن المواطنيّة هي التي تُحدِّدُ للإنسانِ حقوقه كما تُحدِّدُ له مصيره.
المشكلة الكردية:
أما حالة الأكراد فهي مسألة معقّدة، وربّما كان هناك مداولات مع أكثر من فريق معارض، سواء الفريق الذي حضر مؤتمر لندن أو الذي لم يحضر المؤتمر، والرأي المطروح هو أن الفدرالية يمكنُ أن تُمثّلُ الحل لمسألة الأكراد، ولكني أعتقدُ أن المشكلة الكردية أكثر تعقيداً من أن تُحلّ في الداخل العراقي، باعتبار أن المشكلة الكردية تتصل بطموحات الأكراد الذين يريدون دولة كردية تنمو بطريقة متدرّجة تشمل أكراد تركيا وسوريا وإيران.
ولهذا، فإن مسألة أن يسعى الأكراد إلى إقامة دولة داخل العراق، فهذا يمكن أن يُثير، كما نتابع، مشكلةً لتركيا، كما أنّهُ يُمثل حساسية خطرة بالنسبة لإيران. لهذا من الصعب جداً إذا أردنا تبسيط الأمور، أن تكون الفدرالية حاصلة بشكلٍ سريع أو سهل، لا سيَّما أن هناك نقطةً، وهي أن الذين قرّروا الفدرالية هم معارضة الخارج، وهذه المعارضة لا تملك كل القواعد الشعبية في الداخل، في حين أن هذه القضية الحساسة المتعلقة بتغيير النظام، تحتاج لتحقيقها إلى استفتاءٍ لشعب العراق في الداخل، مع لحاظ أن الشعب العراقي هو من الشعوب التي هجّرت، فهناك أربعة ملايين عراقي مشرّد خارج العراق.
إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية:
* هناك رأي يقول إن إسرائيل لا تملك الآن تفويضاً أمريكياً لحملة عسكرية في فلسطين وجنوب لبنان، وهناك رأي آخر يقول إنّ الإسرائيليين سيستغلّون هذه الحرب لتكون ذريعة لضرب المقاومة في فلسطين ولبنان؟
ـ أنا أتصوَّرُ أن إسرائيل لا تملِكُ أن تتصرف أيّ تصرف حيال الاستراتيجية السياسية الأمريكية إلاّ بضوءٍ أخضر. إنّ مسألة استغلال إسرائيل ظرف الحرب على العراق للهجوم على المقاومة في لبنان أو فلسطين بشكلٍ ساحق، إذا استطاعت ذلك، ولن تستطيع ذلك، من شأنه أن يعقِّد كلّ خطة أمريكا في المنطقة، لذلك فإن أمريكا عندما تقدم الرشوة لإسرائيل، عشرة مليارات دولار، أو تقوم بالضغط، فإنها تعمل على أساس حماية خطتها من أجل حفظ ماء الوجه العربي، وخصوصاً الذين أعطوا أمريكا كُلّ شيءٍ في السرّ وإن عارضوها في العلن... وفي هذا المسار، لا بد من ملاحظة أن شارون دخل في مفاصل كل الإدارة الأمريكية، بحيث إنني قرأت في أكثر من تصريح أمريكي من قبل مفكرين أو مسؤولين، بأن اليهود هم الذين كانوا وراء حرب أمريكا على العراق، وأن شارون استطاع السيطرة على ذهنية بوش إلى الحدّ الذي قال عنه بوش إنه رجل سلام، وقد لاحظنا كما سمعتم أن بوش عندما ألقى خطابه المختصر بالنسبة للقضية الفلسطينية، كان هذا الخطاب معدّاً من قبل مستشار بوش في الإدارة، في وقت جاء مستشار شارون إلى واشنطن ليضع اللمسات الأخيرة على الخطاب.
إنّنا نلاحظ في هذا المجال أن هناك ضوءاً أخضر أمريكياً من أجل خلخلة البنية التحتية للفلسطينيين، ولذلك فإنّنا عندما نرى هذه المجازر اليومية، لا نجد هناك إلا بعض الكلمات المائعة التي يُقال فيها نحن نتفهم دوافع إسرائيل في هذا المجال، حتّى إن خارطة الطرق التي قررتها اللجنة الرباعية بقيادة أمريكا، صرح شارون حيالها أن هناك مئة تعديل وتعديل لا بدّ من إجرائه عليها، مع أنّ الخطة الرباعية قُدِّمت على أساس التنفيذ، ولم تُقدَّم على أساس المناقصة، ثُمّ نحنُ نلاحظ أن بوش قرّر أنّ الدولة الفلسطينية سوف تكون في سنة 2005، في حين تنتهي ولايته في 2004، وهو الآن مشغول بالقضية العراقية، وإسرائيل، كما أمريكا، لا تريد لأوروبا التدخل في القضية الفلسطينية، لهذا فإنّهم يريدون دولة فلسطينية على قياس شارون، ولهذا نجد أن شارون الآن يملأ الأراضي الفلسطينية بالمستوطنات الجديدة، ويسعى إلى توسعة المستوطنات القديمة، وحتّى إنه يريد نصب جدارٍ ثانٍ يمكن أن يكون فاصلاً بين الجانبين، إضافةً إلى تثبيت وضع المستوطنات وتعزيزها، بحيث لا يبقى للفلسطينيين أيّ شيء يفاوضون عليه، إني أعتقدُ أن الخاسر الأكبر من 11 أيلول وحرب العراق هو القضية الفلسطينية.
* هل سيتخلصون من ياسر عرفات بعد حرب العراق؟
ـ في تصوّري أن الرجل أعطى أكثر ما عنده ولم يبق إلاَّ القليل.
* هل من الممكن لإسرائيل ضرب حزب الله في لبنان؟
ـ أنا لا أتصوّرُ أن هناك أية فرصة لعمل عسكري في لبنان، لأن أمريكا لا تريد جبهة أخرى، لا في لبنان ولا في سوريا.
تعالوا لنكون أصدقاء:
* ما هي رسالتك للشعب الأمريكي؟
ـ إننا نقول للشعب الأمريكي إنّنا نحبُّ أن نكون أصدقاء لكم، ولكن ليس على حساب مصالحنا ومبادئنا، إنّنا نقول لكم إنّنا نحب الحرية لبلادنا كما تحبونها لبلادكم، وإنّنا نحب أن نستثمر ثرواتنا كما تحبون استثمار ثرواتكم، نحنُ نعرفُ أن لكم مصالح عندنا ولنا مصالح عندكم، وأن المسألة ليست مسألة صداقات، ولكن من أجل أن نحمي مصالحكم عندنا فلا بُدّ من أن تحموا مصالحنا عندكم. إنّنا نقول نحن لا نتعقد من الشعب الأمريكي، لأن مشكلتنا هي مع الإدارة الأمريكية، كما هي مشكلة الكثيرين منكم أيّها الأمريكيون مع الإدارة الأمريكية.. ونحنُ نعتقد أن هذه الإدارة الأمريكية قد ورّطت الشعب الأمريكي بالطريقة التي أصبح أكثر العالم يكره أمريكا، وربما تتحوّل هذه الكراهية إلى موجةٍ من الإرهاب قد تصيب هذا الشعب، لأن الحرب لا تنتج إلا ردود فعل عنيفة، لذلك كونوا مع ما يرمز إليه تمثال الحرية عندكم، وعندها ستكونون أصدقاء العالم، وإلاّ فسوف لن يرحم العالم أولئك الذين يفرضون عليه المأساة ويسقطون حريته واقتصاده وأمنه وإنسانيته.
إنّنا من خلال ديننا نقول لكم نحن ضد الإرهاب، وضد اعتداء شعب على شعب، ونحن نريد صداقة العالم، وإننا نمد لكم يد الصداقة ولكنها اليد الحرة. ونحن نستقبل اليد الحرّة منكم لتكون الحرية هنا وهناك هما اللتان تصنعان الحضارة للعالم، هذه الحضارة الممزوجة من الشرق والغرب عندما تتفاعل الحضارات، ونحن لسنا مع صدام الحضارات وصراع الحضارات، ولكن مع حوار الحضارات، فتعالوا لنتحاور ونتفاهم ونلتقي لعلنا نتوحد على قاعدة إنسانية مشتركة.