أمريكا تسعى لتحقيق مصالحها... وصدام صنيعتها

أمريكا تسعى لتحقيق مصالحها... وصدام صنيعتها

أجرت مجلّة "الحوادث" اللبنانية لقاءً مع سماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تناول أهمّ قضايا الساعة ومواقف سماحته.

ففي الأزمة العراقية وأجواء الحرب الأميركية، رأى سماحته أن أميركا تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، ولا تهدف إلى إحلال السلام العالمي وتحرير الشعب العراقي من حاكمه... بل إن صدام هو صنيعة أميركا التي استغلّته أكثر من مرّة لتحقيق مآربها.

ورفض سماحته مقولة وجود تصادم إسلامي ـ مسيحي، واعتبر أن موقف الفاتيكان الرافض للحرب هو تطور جديد.

وفي الوضع الداخلي اللبناني، رأى سماحته أن لا فائدة من عقد قمة روحية لبنانية، لأن أحداً لا يملك تغيير الواقع اللبناني المرتبط بأخطبوط إقليمي ودولي... ورفض سماحته اعتبار لبنان دولة دينية، بل هو "دولة علمانية حديدية، والطائفية مجرد ديكور".

وأرجع سماحته الحملات التي يتعرض لها، بعد إعلان مرجعيته، إلى خطوط عديدة، منها ما يرتبط بالتخلّف الفكري، ومنها ما يرتبط باقتناع بعض الجهات الإيرانية بأن المصلحة تقتضي أن تكون المرجعية في إيران، لا من ناحية عنصرية، بل من ناحية أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، وهي دولة ولاية الفقيه..

وفي ما يأتي النص الكامل للحوار:

الحرب على العراق

* ما هي مقدِّمات الحرب الأميركية ونتائجها على المنطقة؟

ـ من الطبيعي أن نأخذ هذه الحرب في مفاعيلها النفسية والسياسية، وهذه المفاعيل خلقت في كل الأوساط السياسية بالمنطقة، ولا سيما العربية منها، حالةً من الاهتزاز بالطريقة التي أسقطت الكثير من المواقف التي ربما كانت توحي بالقوة والمواجهة والتصدي، لأن أميركا ومعها بريطانيا، قامتا بحرب إعلامية دبلوماسية نفسية، بحيث برزت أميركا كما لو كانت هي القوة التي تملك أن تفرض على العالم حرباً لتأمين مصالحها، بعيداً عن أية معطيات ميدانية يمكن أن تعطي لهذه الحرب شرعيتها.

وإذا عرفنا أن أغلب الأنظمة في المنطقة ترتبط بأميركا ارتباطاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فإننا نعرف أن هذا العالم، ولا سيما العالم العربي، لا يملك أي موقف ينطلق من خلال خصوصيته الإقليمية أو من خلال مصالحه الخاصة.

لذلك، فإن العالم شعر بالرعب أمام هذه الحرب التي لا يملك الإعلام صورةً واضحة لحركيتها وتأثيراتها، في العراق بالذات، وفي المنطقة. وهكذا امتدت المسألة إلى العالم كله رفضاً للعولمة.

* ولحرب الحضارات أيضاً؟

ـ نعم، ولعلّ الأساس في هذه الحرب ـ أي الحرب على العراق والصراع ضد العولمة ـ أدّى إلى حصول تداخل، بحيث امتزج رفض الحرب برفض العولمة. ولقد شعر الجيل الجديد، ولا سيما جيل الفقراء والمستضعفين، بأن هناك قوة اقتصادية كبرى تريد أن تخضع العالم لمصالحها المحمية، بعيداً عن شعوبها، بحيث إن الشعوب لا تملك شيئاً لمعارضة هذه السياسة.

أمّا بالنسبة لحرب الحضارات، فإنني أتصوّر أن المسألة ليست بهذا الحجم وإن وضعت في العنوان الكبير لهذه الحرب، لأننا، وفي الوقت الذي لا نبعد المناخ عن وجود حالات خلفيات حضارية لدى موقع غربي هنا وهناك، ولكننا نعتقد أنها حرب المصالح وليست حرب الحضارات، وهذا ما يجعلنا نفكر، أن الذهنية الحضارية التي يقول بها الرئيس بوش وغيره، ليست واردة في حسابات الإدارات الرسمية الغربية، سواء كانت أميركية أو بريطانية أو غير ذلك، بل هي متحركة من خلال مصالح الشركات البترولية وشركات إنتاج السلاح التي تنتمي إليها تلك الإدارة، كا يتحدث الكثيرون عن مسألة آل بوش الذين يخضعون لشركات البترول، كذلك بالنسبة لأعضاء الإدارة الأميركية الحالية.

لذلك فإن العالم يعيش في مناخ نفسي سياسي يواجه فيه المجهول، وهذا ما جعل المواقف تهتز حتى على مستوى الدول الكبرى، أما عن تأثيرات الحرب في المنطقة، فإنها تحتاج إلى دراسة دقيقة عميقة لاكتشاف الاستراتيجية الأمريكية. فنحن نعرف أن أميركا في حرب الخليج الثانية عملت على أن تهيىء الأحوال الأمنية والسياسية للنظام العراقي لكي يحتل الكويت، لكي تبرر وجود قواعد عسكرية في الخليج بحجّة حماية بعض دول الخليج من بعضها الآخر.

صدّام "لعبة" أمريكا

* هل كان هناك إيعاز أميركي مباشر للرئيس صدام لكي يحتلّ الكويت؟

ـ إنني كنت أقول منذ حرب الكويت وحتى الآن، إن أميركا من خلال ابريل غلاسبي، أعطت صدام حسين ضوءاً أصفر لاحتلال الكويت، وعندما كان النظام العراقي يتفاوض مع حكومة الكويت على أساس تسويات مالية، فإن أميركا ضغطت على الكويت من أجل أن لا تقبل، وكانت قيمة المال المختلف عليه حوالي ملياري دولار.

إن أميركا كانت تخطط لتجعل وجودها في الخليج وجوداً شرعياً يصفق له أهل الخليج، ولعلنا سمعنا بعض وزراء دول الخليج في مؤتمر القمة الإسلامية يتحدثون: بأننا تعرّضنا للعدوان من أشقائنا ولم يساعدنا العرب، ولذلك اضطررنا إلى أن نستقدم الجيش الأمريكي وغيره.

هناك اتجاه لأن تسيطر أميركا بشكل أكثر قوةً على الخليج، لأنها شعرت بخطورة الأرض الخليجية الشعبية على المصالح الأميركية، لأن "القاعدة" استطاعت أن تنفذ إلى مفاصل المجتمعات الخليجية بالطريقة التي أصبحت أميركا تخشى منها على مستقبل وجودها ومصالحها في الخليج. لهذا، فإن هناك تخطيطاً لتغيير ما في الخليج.

أنا هنا لا أتحدّث عن تغيير في الجغرافية، ولكن من الطبيعي جداً أن أميركا تريد أن ترتّب الخليج سياسياً بشكل تفصيلي بحت، بعدما أطبقت عليه أمنياً. وهناك أيضاً مسألة حصار إيران، واستكمال الطوق عليها، وأميركا تفكر بأن تسيطر عليها، إما بطريقة أمنية أو عسكرية بعدما حاصرتها اقتصادياً، وإذا لاحظنا أن أميركا كانت في القرن السابق، وامتداداً إلى هذا القرن، كانت استراتيجيتها السيطرة على نفط العالم، فإن هذه الحرب تركِّز على أساس أن تعمل أميركا بكل قوة لمنع وجود محور دولي ثانٍ على طريقة التجاذب الذي كان سائداً أيام الاتحاد السوفياتي، ذلك لكي تبقى أميركا القوة الوحيدة. فهي تضغط على الاتحاد الأوروبي من الداخل، وسوف تضغط عليه عندما تسيطر على النفط، كما ستضعط على روسيا وستمنعها من الامتداد إلى المياه الدافئة، وبالتالي، فإنها تراقب الصين التي ستكون بحاجة إلى النفط في العام2030 بشكل فوق العادة. إن صدقت التحاليل، فإن هذه الحرب ستكون حرب أميركا لكي تبقى في المركز القيادي الأول والأوحد في العالم، فتسيطر على دول الغرب والشرق في آن.

هل من تصادم إسلامي ـ مسيحي؟

* وصفتم موقف الفاتيكان بأنه موقف رائع لجهة معارضته الحرب الأميركية على العراق، هل يسهم هذا الموقف في نزع فتيل التصادم المسيحي ـ الإسلامي على مستوى العالم؟

ـ لا أتصور أن كلمة الصدام الإسلامي ـ المسيحي كلمة دقيقة، لأننا عندما ندرس واقع العلاقات المسيحية ـ الإسلامية على مستوى المنطقة والعالم، فإننا لا نجد خطورة في هذه العلاقات. أما في المنطقة، فإن المسيحيين يعيشون بسلام، في أغلب دولها، ربما يشكو البعض من انكماش الحرية في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، ولكننا نعرف أن شعوب هذه البلدان لا تعيش حريتها.

وربما عندما نأتي إلى لبنان، فإننا نلاحظ كيف أن مسألة المسيحية والإسلام تتحرك في النادي السياسي أو الطائفي لتوحي بأن هناك مشكلة فوق العادة، تحتاج إلى مصالحة أو تحتاج إلى حوار. ولكنني أتصور أن اللبنانيين يرون أنفسهم في مستوى هو أكبر منهم، لأنهم يكبِّرون الأشياء الصغيرة ويُصغِّرون الأشياء الكبيرة. لندرس المسألة الإسلامية ـ المسيحية في لبنان، فنحن نريد لهذه الصيغة اللبنانية أن تكون نموذجاً ورسالة، ولكن السياسيين يخربون ذلك.

إننا نجد أنّ هذا الحرمان السياسي قائم في داخل المسيحيين من خلال مراكز القوى المسيحية، وفي داخل المسلمين من خلال مراكز القوى الإسلامية. وبين مراكز القوى هنا وهناك لا مشكلة بين الجميع في محافظتهم على مراكزهم بطريقة وبأخرى. لذلك هناك في لبنان طبقة سياسية تحاول أن تعيش أو تسوق الشخصانية تحت عنوان الطائفية، أما اللبنانيون على مستوى الشعب فقد حاوروا بعضهم بعضاً وأخذوا النتائج، لأنهم في المجتمعات المختلطة، كالبقاع والشمال والجنوب وبيروت، يعيشون بعضهم مع بعض في السوق التجارية وفي النوادي الثقافية والاجتماعية والمدارس والجامعات دون أي مشكلة.

لذلك، فإن مشكلة لبنان هي مشكلة سياسية، لا علاقة للمسجد فيها ولا للكنيسة، ولكنهم يضعون المسجد لافتةً لإثارة المصلين فيه ضد المسيحيين، ويضعون الكنيسة لافتةً ضدّ المسلمين. في هذا المجال، ليست هناك مشكلة على مستوى الأرض يمكن أن يُقال فيها إنها مشكلة إسلامية ـ مسيحية، حتى إن هناك محاولة لإثارة غرائز الأجيال الجديدة للتربي على الطائفية، لخدمة مراكز القوى في هذا المجال.

أما في مصر، فإنني لا أتصور أن هناك في العمق مشكلة طائفية، بل هناك خلل في مسألة حقوق الأقباط، وإننا نعرف أن الأقباط تولوا مراكز مهمة في الدولة المصرية. أعتقد أن المخابرات الدولية عملت على أساس إيجاد هذه الحساسية الجديدة، فإذا حصل هناك مشكلة في الصعيد بين تاجر مسيحي وآخر مسلم، أو حصلت قضية من قضايا غسل العار أو الشرف، فإنهم يصورونها على أساس أنها مشكلة دينية.

أما في العالم، فإن هناك لقاءات متحركة في مؤتمرات الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أكثر قوة وفاعلية وعمقاً مما يسمى بالحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان والمنطقة. هناك مسألة معينة في هذا المجال، وهي وجود التنافس بين التبشير المسيحي الذي قد يدخل في مناطق إسلامية، وبين الدعوة الإسلامية في مناطق مسيحية.

عندما ندرس موقف البابا الآن، نضعه في دائرة التطور الجيد، باعتباره يعاكس المناخ النفسي لدى المسلمين الذين اعتبروا أن الفاتيكان يتحرك حيث تتحرك السياسة الأميركية.. وهذا ما لاحظناه في اعترافه بإسرائيل، على الرغم من أننا نقدِّر تصريحاته من وقت إلى آخر، هذه التصريحات التي رفض فيها الممارسات الإسرائيلية، لكننا نعتبر أن الفاتيكان رسالة وليس دولة، ولذا لا يمكن أن يعترف بدولة صنعت نفسها على أساس لصوصية الوطن.

وهكذا، كانت هناك بعض الأجواء التي ربما يستوحيها بعض الناس من خلال اليسار واليمين والحرب الباردة. إننا نتصور أن موقف الفاتيكان في رفض الحرب بهذه القوة والوضوح والوسائل والآليات السياسية، يمثل تطوراً جديداً، وأعتقد أنه يسهم في تنفيس ما أحدثته هذه الحرب، وخصوصاً في الممارسات السلبية التي مارسها الغربيون ضد المسلمين بعد أحداث 11أيلول وما إلى ذلك. لهذا فإنني اعتبرت أن المسألة إيجابية.

موقف الكنيسة اللبنانية

* ما هو تقييمك لخطاب الكنيسة المسيحية في لبنان في هذا الموضوع، وخصوصاً لجهة إرسال إشارة إيجابية للقيادة السورية من قِبَل مجلس المطارنة الموارنة؟

ـ إنّ الإرشاد الرسولي عندما أطلقه البابا الحالي، كان يمثل رسالةً إلى المسيحيين في المنطقة، "لكي لا يعتبروا أنفسهم طارئين على المنطقة". ولكنّ هذا المنطق لم يعجب الكثير من المسيحيين، ولذلك كان الموقف ضد سوريا موقفاً يتميز بالعنف الكلامي والحدّة، فقد اعتبروا أن ليس من مصلحة لبنان، تبرير احتلال بلدهم من أية دولة حتى ولو كانت شقيقة، علماً أن الوجود السوري في لبنان ينطلق من ظروف معينة فرضتها أوضاع لبنانية داخلية، استفادت منها أوضاع إقليمية ودولية، وما زال الوجود السوري يمثل دوراً معترفاً به دولياً وعربياً.

لذلك كانت المسألة السورية ذات حساسية معينة، وكانت أيضاً إلى جانب ذلك تخلو من الواقعية. لهذا فقد دخلت مسألة الوجود السوري في إطار العلاقات الإسلامية ـ المسيحية، واعتبرت الكنيسة ـ خطأً أم صواباً ـ أنها تمثل قيادة الموقف ضد سوريا كما لو كانت سوريا دولة محتلة.

إن التطورات الضخمة التي بدأت تهزّ المنطقة، بالإضافة إلى مسألة إعادة الانتشار السوري الذي حصل في المناطق المسيحية الأساسية، أدى إلى جعل موقف الكنيسة أكثر واقعية، ولا أقول أكثر توازناً. وأتصور أن هناك رسائل متبادلة خفية، سواء من خلال المناخ العام أو من خلال ما وراء الكواليس، يمكن أن ينتج نتائج إيجابية، لا سيما إذا وقعت الحرب التي ربما يكتوي لبنان بها سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

اللّقاء الروحي في لبنان

* ما المانع في هذا التوقيت بالذات من أن يتمّ لقاء روحي بين رؤساء الطوائف في لبنان؟

ـ إن هناك، خارج نطاق الضوء في الوسط الديني اللبناني، باطنيةً تختزن أكثر من وضع مسيّس قد يعطي عناوين روحية ودينية من هنا أو هناك. لذلك هناك ثقّالات حديدية تجعل كل فريق يبقى في مكانه حتى لو تحرك نحو الآخر بطريقة المجاملات. إنني أعتقد أن لبنان ليس دولة دينية، بل هو دولة علمانية حديدية، والطائفية في لبنان في مواقعها الدينية هي ديكور للنظام اللبناني. ولا يملك رجال الدين في لبنان أن يحركوا شيئاً سياسياً لا تريد السياسات الدولية والإقليمية أن تحركه، لذلك قد يعطي لقاء ما يُسمّى بالقمة الروحية نوعاً من النسمة الباردة لصيف حار، وإننا نعرف أن الحرارة تأتي وتنسف كل النسمات الباردة.

* هل تعتقدون، سماحة السيد، أن فكرة اللقاء الروحي قد تجهض بسبب الخلاف على الشكل أو المضمون؟

ـ لا فائدة من عقد القمة الروحية، فإن أحداً لا يملك تغيير الواقع اللبناني، الذي هو مرتبط بأخطبوط إقليمي ودولي، وحتى إنني أستطيع أن أزعم أن الوسط السياسي في لبنان لا يملك أن يغير شيئاً من الواقع اللبناني. ولعلّ النكتة المعروفة تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية منذ الخمسينات، وهي أن القوم ينتظرون الوحي أو كلمة السرّ.

إنني لا أقصد أن يُفهم كلامي أنني ضد القمة الروحية، فأنا مع لقاء الناس نحو الأفضل، ولكني لست مع اللقاءات التي توحي للناس بأن هناك شيئاً كبيراً يحدث، وهو ليس بشيء، أنا أؤمن بمصارحة الناس بالواقع وبضرورة وضع اليد على الجرح دون أن نخدِّره.

أمريكا والمعارضة العراقية

* ما هي حدود العلاقة الأميركية مع الفئات العراقية، وخصوصاً الشيعية منها؟

ـ من الطبيعي أن الشعب العراقي عانى من صدام حسين ما لم يعانه شعب آخر في المنطقة، فالرئيس العراقي عمل ما لم يُعمل، وسالت الدماء أنهاراً في العراق، وامتلأت السجون، لذلك فإن الشعب العراقي، بشكل عام، بجميع أطرافه ومواقعه، مستعدٌ أن يتقبل أي شخص يخلِّصه من هذا النظام. والعراقيون يتصرفون تماماً مثلما تصرف الكويتيون عندما احتلت أرضهم، حيث إنهم استقبلوا الأمريكيين بالورد وما زالوا.

المسألة هي أن أميركا تريد أن تحصل على شرعية عراقية من خلال عناوين دينية أو علمانية أو ما يشبه ذلك، والمعارضة العراقية شعرت أنها تستطيع الدخول في حوار مع أميركا لترتب أوضاعها وأوضاع العراق بعد الحرب. ولكنني أتصور أن الأميركيين قاموا بخديعة، كما هي عادة كلِّ المستعمرين، سرعان ما انكشفت عندما بدأوا يتحدثون عن جنرال أميركي يحكم العراق. إن الأميركيين ما زالوا يلعبون لعبة الكلمات المتناقضة التي ربما تعطي للمعارضة نوعاً من الشعور بالأمل. إن هذه المعارضة لا تملك فاعلية على الأرض بالمستوى الذي تستطيع أن تستخدم فيه الخطة الأميركية، لو أرادت أميركا أن تنفذ خطتها التي يتحدث عنها السياسيون الأميركيون.

* ما هو دور إيران في ذلك، خصوصاً أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق يُنسّق مع أميركا وإيران في الوقت نفسه؟

ـ الإيرانيون يقولون إنهم لا يريدون أن يتدخّلوا في شؤون المعارضة العراقية، وهم يتركون العراقيين يمارسون تجربتهم، سلباً أو إيجاباً، حتى لا يحمّلوهم المسؤولية لو فشلوا في موقف اتخذ بناءً على تعليمات إيرانية.

ثم إن إيران تعيش مصالحها الخاصة كأية دولة أخرى، عندما تتعرض لخطر عسكري أو سياسي أو ما إلى ذلك، فإنها تجد نفسها في موقف تحتاج فيه إلى أن تلعب اللعبة السياسية التي يمكن أن تحمي أمنها واستقرارها، أو تمنحها بعض المواقع بالنسبة إلى محيطها في المنطقة، لوجود ارتباط عضوي بين الحالة العراقية والإيرانية.

المرجعيـة الشيعيـة

* هل توقفت الحملة التي تُشنّ عليكم بخلفية الصراع على المرجعية الشيعية؟

ـ إن المرجعية في الواقع الشيعي تعيش التعددية، بمعنى أن الشيعة في تاريخهم لم تفرض عليهم مرجعية معينة نتيجة دولة.

بل إن المرجع ينطلق من خلال ثقة الناس به، وربما تتنوع هذه الثقة من خلال مجتمع هنا وفي الحوزات العلمية هناك أو خارجها، حيث يرى أن هذا المرجع أو ذاك أكثر كفايةً من الآخر. ومن هنا، نشأت التعددية التي تعايش معها الشيعة في كل المراحل، ربما يمرّ وقت يحدث فيه بعض الأجواء والمناخات المعقدة والسلبية، حيث تتدخل بعض الأجواء السياسية، وبعض الحالات الذهنية التي لا ترتاح لأية حالة وعي تحاول أن تصطدم بالتخلف، وتحاول أن تفتح آفاقاً لدراسة كل شيء، تماماً كما أطلقنا منذ سنوات عدة، شعار: "لا مقدسات في الحوار"، وأن الله حاور الشيطان كما حاور الملائكة.

إن هذه الحملة الموجهة ضدي، قد انطلقت من خلال عدة خطوط، منها ما يرتبط بمسألة الوعي والتخلف، ومنها ما يرتبط بنظرة معينة ،أثرتها مؤخّراً، وهو أن هناك رأياً في إيران مثلاً، يعتبر أن المرجعية لا بد أن تكون في إيران، لا من ناحية عنصرية، بل من ناحية أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، وهي دولة ولاية الفقيه، وهي التي تضم أكبر حوزة علمية شيعية تقتضي بأن تكون المرجعية في إيران، ومن هنا قد لا يجدون إيجابية في وجود أية مرجعية أخرى، لا سيما في لبنان أو ما أشبه ذلك، ولكني أتصور أن مثل هذه الأجواء بدأت تتحول إلى فتنة تقسم الناس، لذلك أعتقد أن إثارة هذا الأمر بطريقة موضوعية استطاع أن يهدىء الفتنة، لا من خلال ما يتصل بي شخصياً، بل من خلال المناخ العام.

أجرت مجلّة "الحوادث" اللبنانية لقاءً مع سماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تناول أهمّ قضايا الساعة ومواقف سماحته.

ففي الأزمة العراقية وأجواء الحرب الأميركية، رأى سماحته أن أميركا تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، ولا تهدف إلى إحلال السلام العالمي وتحرير الشعب العراقي من حاكمه... بل إن صدام هو صنيعة أميركا التي استغلّته أكثر من مرّة لتحقيق مآربها.

ورفض سماحته مقولة وجود تصادم إسلامي ـ مسيحي، واعتبر أن موقف الفاتيكان الرافض للحرب هو تطور جديد.

وفي الوضع الداخلي اللبناني، رأى سماحته أن لا فائدة من عقد قمة روحية لبنانية، لأن أحداً لا يملك تغيير الواقع اللبناني المرتبط بأخطبوط إقليمي ودولي... ورفض سماحته اعتبار لبنان دولة دينية، بل هو "دولة علمانية حديدية، والطائفية مجرد ديكور".

وأرجع سماحته الحملات التي يتعرض لها، بعد إعلان مرجعيته، إلى خطوط عديدة، منها ما يرتبط بالتخلّف الفكري، ومنها ما يرتبط باقتناع بعض الجهات الإيرانية بأن المصلحة تقتضي أن تكون المرجعية في إيران، لا من ناحية عنصرية، بل من ناحية أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، وهي دولة ولاية الفقيه..

وفي ما يأتي النص الكامل للحوار:

الحرب على العراق

* ما هي مقدِّمات الحرب الأميركية ونتائجها على المنطقة؟

ـ من الطبيعي أن نأخذ هذه الحرب في مفاعيلها النفسية والسياسية، وهذه المفاعيل خلقت في كل الأوساط السياسية بالمنطقة، ولا سيما العربية منها، حالةً من الاهتزاز بالطريقة التي أسقطت الكثير من المواقف التي ربما كانت توحي بالقوة والمواجهة والتصدي، لأن أميركا ومعها بريطانيا، قامتا بحرب إعلامية دبلوماسية نفسية، بحيث برزت أميركا كما لو كانت هي القوة التي تملك أن تفرض على العالم حرباً لتأمين مصالحها، بعيداً عن أية معطيات ميدانية يمكن أن تعطي لهذه الحرب شرعيتها.

وإذا عرفنا أن أغلب الأنظمة في المنطقة ترتبط بأميركا ارتباطاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فإننا نعرف أن هذا العالم، ولا سيما العالم العربي، لا يملك أي موقف ينطلق من خلال خصوصيته الإقليمية أو من خلال مصالحه الخاصة.

لذلك، فإن العالم شعر بالرعب أمام هذه الحرب التي لا يملك الإعلام صورةً واضحة لحركيتها وتأثيراتها، في العراق بالذات، وفي المنطقة. وهكذا امتدت المسألة إلى العالم كله رفضاً للعولمة.

* ولحرب الحضارات أيضاً؟

ـ نعم، ولعلّ الأساس في هذه الحرب ـ أي الحرب على العراق والصراع ضد العولمة ـ أدّى إلى حصول تداخل، بحيث امتزج رفض الحرب برفض العولمة. ولقد شعر الجيل الجديد، ولا سيما جيل الفقراء والمستضعفين، بأن هناك قوة اقتصادية كبرى تريد أن تخضع العالم لمصالحها المحمية، بعيداً عن شعوبها، بحيث إن الشعوب لا تملك شيئاً لمعارضة هذه السياسة.

أمّا بالنسبة لحرب الحضارات، فإنني أتصوّر أن المسألة ليست بهذا الحجم وإن وضعت في العنوان الكبير لهذه الحرب، لأننا، وفي الوقت الذي لا نبعد المناخ عن وجود حالات خلفيات حضارية لدى موقع غربي هنا وهناك، ولكننا نعتقد أنها حرب المصالح وليست حرب الحضارات، وهذا ما يجعلنا نفكر، أن الذهنية الحضارية التي يقول بها الرئيس بوش وغيره، ليست واردة في حسابات الإدارات الرسمية الغربية، سواء كانت أميركية أو بريطانية أو غير ذلك، بل هي متحركة من خلال مصالح الشركات البترولية وشركات إنتاج السلاح التي تنتمي إليها تلك الإدارة، كا يتحدث الكثيرون عن مسألة آل بوش الذين يخضعون لشركات البترول، كذلك بالنسبة لأعضاء الإدارة الأميركية الحالية.

لذلك فإن العالم يعيش في مناخ نفسي سياسي يواجه فيه المجهول، وهذا ما جعل المواقف تهتز حتى على مستوى الدول الكبرى، أما عن تأثيرات الحرب في المنطقة، فإنها تحتاج إلى دراسة دقيقة عميقة لاكتشاف الاستراتيجية الأمريكية. فنحن نعرف أن أميركا في حرب الخليج الثانية عملت على أن تهيىء الأحوال الأمنية والسياسية للنظام العراقي لكي يحتل الكويت، لكي تبرر وجود قواعد عسكرية في الخليج بحجّة حماية بعض دول الخليج من بعضها الآخر.

صدّام "لعبة" أمريكا

* هل كان هناك إيعاز أميركي مباشر للرئيس صدام لكي يحتلّ الكويت؟

ـ إنني كنت أقول منذ حرب الكويت وحتى الآن، إن أميركا من خلال ابريل غلاسبي، أعطت صدام حسين ضوءاً أصفر لاحتلال الكويت، وعندما كان النظام العراقي يتفاوض مع حكومة الكويت على أساس تسويات مالية، فإن أميركا ضغطت على الكويت من أجل أن لا تقبل، وكانت قيمة المال المختلف عليه حوالي ملياري دولار.

إن أميركا كانت تخطط لتجعل وجودها في الخليج وجوداً شرعياً يصفق له أهل الخليج، ولعلنا سمعنا بعض وزراء دول الخليج في مؤتمر القمة الإسلامية يتحدثون: بأننا تعرّضنا للعدوان من أشقائنا ولم يساعدنا العرب، ولذلك اضطررنا إلى أن نستقدم الجيش الأمريكي وغيره.

هناك اتجاه لأن تسيطر أميركا بشكل أكثر قوةً على الخليج، لأنها شعرت بخطورة الأرض الخليجية الشعبية على المصالح الأميركية، لأن "القاعدة" استطاعت أن تنفذ إلى مفاصل المجتمعات الخليجية بالطريقة التي أصبحت أميركا تخشى منها على مستقبل وجودها ومصالحها في الخليج. لهذا، فإن هناك تخطيطاً لتغيير ما في الخليج.

أنا هنا لا أتحدّث عن تغيير في الجغرافية، ولكن من الطبيعي جداً أن أميركا تريد أن ترتّب الخليج سياسياً بشكل تفصيلي بحت، بعدما أطبقت عليه أمنياً. وهناك أيضاً مسألة حصار إيران، واستكمال الطوق عليها، وأميركا تفكر بأن تسيطر عليها، إما بطريقة أمنية أو عسكرية بعدما حاصرتها اقتصادياً، وإذا لاحظنا أن أميركا كانت في القرن السابق، وامتداداً إلى هذا القرن، كانت استراتيجيتها السيطرة على نفط العالم، فإن هذه الحرب تركِّز على أساس أن تعمل أميركا بكل قوة لمنع وجود محور دولي ثانٍ على طريقة التجاذب الذي كان سائداً أيام الاتحاد السوفياتي، ذلك لكي تبقى أميركا القوة الوحيدة. فهي تضغط على الاتحاد الأوروبي من الداخل، وسوف تضغط عليه عندما تسيطر على النفط، كما ستضعط على روسيا وستمنعها من الامتداد إلى المياه الدافئة، وبالتالي، فإنها تراقب الصين التي ستكون بحاجة إلى النفط في العام2030 بشكل فوق العادة. إن صدقت التحاليل، فإن هذه الحرب ستكون حرب أميركا لكي تبقى في المركز القيادي الأول والأوحد في العالم، فتسيطر على دول الغرب والشرق في آن.

هل من تصادم إسلامي ـ مسيحي؟

* وصفتم موقف الفاتيكان بأنه موقف رائع لجهة معارضته الحرب الأميركية على العراق، هل يسهم هذا الموقف في نزع فتيل التصادم المسيحي ـ الإسلامي على مستوى العالم؟

ـ لا أتصور أن كلمة الصدام الإسلامي ـ المسيحي كلمة دقيقة، لأننا عندما ندرس واقع العلاقات المسيحية ـ الإسلامية على مستوى المنطقة والعالم، فإننا لا نجد خطورة في هذه العلاقات. أما في المنطقة، فإن المسيحيين يعيشون بسلام، في أغلب دولها، ربما يشكو البعض من انكماش الحرية في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، ولكننا نعرف أن شعوب هذه البلدان لا تعيش حريتها.

وربما عندما نأتي إلى لبنان، فإننا نلاحظ كيف أن مسألة المسيحية والإسلام تتحرك في النادي السياسي أو الطائفي لتوحي بأن هناك مشكلة فوق العادة، تحتاج إلى مصالحة أو تحتاج إلى حوار. ولكنني أتصور أن اللبنانيين يرون أنفسهم في مستوى هو أكبر منهم، لأنهم يكبِّرون الأشياء الصغيرة ويُصغِّرون الأشياء الكبيرة. لندرس المسألة الإسلامية ـ المسيحية في لبنان، فنحن نريد لهذه الصيغة اللبنانية أن تكون نموذجاً ورسالة، ولكن السياسيين يخربون ذلك.

إننا نجد أنّ هذا الحرمان السياسي قائم في داخل المسيحيين من خلال مراكز القوى المسيحية، وفي داخل المسلمين من خلال مراكز القوى الإسلامية. وبين مراكز القوى هنا وهناك لا مشكلة بين الجميع في محافظتهم على مراكزهم بطريقة وبأخرى. لذلك هناك في لبنان طبقة سياسية تحاول أن تعيش أو تسوق الشخصانية تحت عنوان الطائفية، أما اللبنانيون على مستوى الشعب فقد حاوروا بعضهم بعضاً وأخذوا النتائج، لأنهم في المجتمعات المختلطة، كالبقاع والشمال والجنوب وبيروت، يعيشون بعضهم مع بعض في السوق التجارية وفي النوادي الثقافية والاجتماعية والمدارس والجامعات دون أي مشكلة.

لذلك، فإن مشكلة لبنان هي مشكلة سياسية، لا علاقة للمسجد فيها ولا للكنيسة، ولكنهم يضعون المسجد لافتةً لإثارة المصلين فيه ضد المسيحيين، ويضعون الكنيسة لافتةً ضدّ المسلمين. في هذا المجال، ليست هناك مشكلة على مستوى الأرض يمكن أن يُقال فيها إنها مشكلة إسلامية ـ مسيحية، حتى إن هناك محاولة لإثارة غرائز الأجيال الجديدة للتربي على الطائفية، لخدمة مراكز القوى في هذا المجال.

أما في مصر، فإنني لا أتصور أن هناك في العمق مشكلة طائفية، بل هناك خلل في مسألة حقوق الأقباط، وإننا نعرف أن الأقباط تولوا مراكز مهمة في الدولة المصرية. أعتقد أن المخابرات الدولية عملت على أساس إيجاد هذه الحساسية الجديدة، فإذا حصل هناك مشكلة في الصعيد بين تاجر مسيحي وآخر مسلم، أو حصلت قضية من قضايا غسل العار أو الشرف، فإنهم يصورونها على أساس أنها مشكلة دينية.

أما في العالم، فإن هناك لقاءات متحركة في مؤتمرات الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أكثر قوة وفاعلية وعمقاً مما يسمى بالحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان والمنطقة. هناك مسألة معينة في هذا المجال، وهي وجود التنافس بين التبشير المسيحي الذي قد يدخل في مناطق إسلامية، وبين الدعوة الإسلامية في مناطق مسيحية.

عندما ندرس موقف البابا الآن، نضعه في دائرة التطور الجيد، باعتباره يعاكس المناخ النفسي لدى المسلمين الذين اعتبروا أن الفاتيكان يتحرك حيث تتحرك السياسة الأميركية.. وهذا ما لاحظناه في اعترافه بإسرائيل، على الرغم من أننا نقدِّر تصريحاته من وقت إلى آخر، هذه التصريحات التي رفض فيها الممارسات الإسرائيلية، لكننا نعتبر أن الفاتيكان رسالة وليس دولة، ولذا لا يمكن أن يعترف بدولة صنعت نفسها على أساس لصوصية الوطن.

وهكذا، كانت هناك بعض الأجواء التي ربما يستوحيها بعض الناس من خلال اليسار واليمين والحرب الباردة. إننا نتصور أن موقف الفاتيكان في رفض الحرب بهذه القوة والوضوح والوسائل والآليات السياسية، يمثل تطوراً جديداً، وأعتقد أنه يسهم في تنفيس ما أحدثته هذه الحرب، وخصوصاً في الممارسات السلبية التي مارسها الغربيون ضد المسلمين بعد أحداث 11أيلول وما إلى ذلك. لهذا فإنني اعتبرت أن المسألة إيجابية.

موقف الكنيسة اللبنانية

* ما هو تقييمك لخطاب الكنيسة المسيحية في لبنان في هذا الموضوع، وخصوصاً لجهة إرسال إشارة إيجابية للقيادة السورية من قِبَل مجلس المطارنة الموارنة؟

ـ إنّ الإرشاد الرسولي عندما أطلقه البابا الحالي، كان يمثل رسالةً إلى المسيحيين في المنطقة، "لكي لا يعتبروا أنفسهم طارئين على المنطقة". ولكنّ هذا المنطق لم يعجب الكثير من المسيحيين، ولذلك كان الموقف ضد سوريا موقفاً يتميز بالعنف الكلامي والحدّة، فقد اعتبروا أن ليس من مصلحة لبنان، تبرير احتلال بلدهم من أية دولة حتى ولو كانت شقيقة، علماً أن الوجود السوري في لبنان ينطلق من ظروف معينة فرضتها أوضاع لبنانية داخلية، استفادت منها أوضاع إقليمية ودولية، وما زال الوجود السوري يمثل دوراً معترفاً به دولياً وعربياً.

لذلك كانت المسألة السورية ذات حساسية معينة، وكانت أيضاً إلى جانب ذلك تخلو من الواقعية. لهذا فقد دخلت مسألة الوجود السوري في إطار العلاقات الإسلامية ـ المسيحية، واعتبرت الكنيسة ـ خطأً أم صواباً ـ أنها تمثل قيادة الموقف ضد سوريا كما لو كانت سوريا دولة محتلة.

إن التطورات الضخمة التي بدأت تهزّ المنطقة، بالإضافة إلى مسألة إعادة الانتشار السوري الذي حصل في المناطق المسيحية الأساسية، أدى إلى جعل موقف الكنيسة أكثر واقعية، ولا أقول أكثر توازناً. وأتصور أن هناك رسائل متبادلة خفية، سواء من خلال المناخ العام أو من خلال ما وراء الكواليس، يمكن أن ينتج نتائج إيجابية، لا سيما إذا وقعت الحرب التي ربما يكتوي لبنان بها سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

اللّقاء الروحي في لبنان

* ما المانع في هذا التوقيت بالذات من أن يتمّ لقاء روحي بين رؤساء الطوائف في لبنان؟

ـ إن هناك، خارج نطاق الضوء في الوسط الديني اللبناني، باطنيةً تختزن أكثر من وضع مسيّس قد يعطي عناوين روحية ودينية من هنا أو هناك. لذلك هناك ثقّالات حديدية تجعل كل فريق يبقى في مكانه حتى لو تحرك نحو الآخر بطريقة المجاملات. إنني أعتقد أن لبنان ليس دولة دينية، بل هو دولة علمانية حديدية، والطائفية في لبنان في مواقعها الدينية هي ديكور للنظام اللبناني. ولا يملك رجال الدين في لبنان أن يحركوا شيئاً سياسياً لا تريد السياسات الدولية والإقليمية أن تحركه، لذلك قد يعطي لقاء ما يُسمّى بالقمة الروحية نوعاً من النسمة الباردة لصيف حار، وإننا نعرف أن الحرارة تأتي وتنسف كل النسمات الباردة.

* هل تعتقدون، سماحة السيد، أن فكرة اللقاء الروحي قد تجهض بسبب الخلاف على الشكل أو المضمون؟

ـ لا فائدة من عقد القمة الروحية، فإن أحداً لا يملك تغيير الواقع اللبناني، الذي هو مرتبط بأخطبوط إقليمي ودولي، وحتى إنني أستطيع أن أزعم أن الوسط السياسي في لبنان لا يملك أن يغير شيئاً من الواقع اللبناني. ولعلّ النكتة المعروفة تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية منذ الخمسينات، وهي أن القوم ينتظرون الوحي أو كلمة السرّ.

إنني لا أقصد أن يُفهم كلامي أنني ضد القمة الروحية، فأنا مع لقاء الناس نحو الأفضل، ولكني لست مع اللقاءات التي توحي للناس بأن هناك شيئاً كبيراً يحدث، وهو ليس بشيء، أنا أؤمن بمصارحة الناس بالواقع وبضرورة وضع اليد على الجرح دون أن نخدِّره.

أمريكا والمعارضة العراقية

* ما هي حدود العلاقة الأميركية مع الفئات العراقية، وخصوصاً الشيعية منها؟

ـ من الطبيعي أن الشعب العراقي عانى من صدام حسين ما لم يعانه شعب آخر في المنطقة، فالرئيس العراقي عمل ما لم يُعمل، وسالت الدماء أنهاراً في العراق، وامتلأت السجون، لذلك فإن الشعب العراقي، بشكل عام، بجميع أطرافه ومواقعه، مستعدٌ أن يتقبل أي شخص يخلِّصه من هذا النظام. والعراقيون يتصرفون تماماً مثلما تصرف الكويتيون عندما احتلت أرضهم، حيث إنهم استقبلوا الأمريكيين بالورد وما زالوا.

المسألة هي أن أميركا تريد أن تحصل على شرعية عراقية من خلال عناوين دينية أو علمانية أو ما يشبه ذلك، والمعارضة العراقية شعرت أنها تستطيع الدخول في حوار مع أميركا لترتب أوضاعها وأوضاع العراق بعد الحرب. ولكنني أتصور أن الأميركيين قاموا بخديعة، كما هي عادة كلِّ المستعمرين، سرعان ما انكشفت عندما بدأوا يتحدثون عن جنرال أميركي يحكم العراق. إن الأميركيين ما زالوا يلعبون لعبة الكلمات المتناقضة التي ربما تعطي للمعارضة نوعاً من الشعور بالأمل. إن هذه المعارضة لا تملك فاعلية على الأرض بالمستوى الذي تستطيع أن تستخدم فيه الخطة الأميركية، لو أرادت أميركا أن تنفذ خطتها التي يتحدث عنها السياسيون الأميركيون.

* ما هو دور إيران في ذلك، خصوصاً أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق يُنسّق مع أميركا وإيران في الوقت نفسه؟

ـ الإيرانيون يقولون إنهم لا يريدون أن يتدخّلوا في شؤون المعارضة العراقية، وهم يتركون العراقيين يمارسون تجربتهم، سلباً أو إيجاباً، حتى لا يحمّلوهم المسؤولية لو فشلوا في موقف اتخذ بناءً على تعليمات إيرانية.

ثم إن إيران تعيش مصالحها الخاصة كأية دولة أخرى، عندما تتعرض لخطر عسكري أو سياسي أو ما إلى ذلك، فإنها تجد نفسها في موقف تحتاج فيه إلى أن تلعب اللعبة السياسية التي يمكن أن تحمي أمنها واستقرارها، أو تمنحها بعض المواقع بالنسبة إلى محيطها في المنطقة، لوجود ارتباط عضوي بين الحالة العراقية والإيرانية.

المرجعيـة الشيعيـة

* هل توقفت الحملة التي تُشنّ عليكم بخلفية الصراع على المرجعية الشيعية؟

ـ إن المرجعية في الواقع الشيعي تعيش التعددية، بمعنى أن الشيعة في تاريخهم لم تفرض عليهم مرجعية معينة نتيجة دولة.

بل إن المرجع ينطلق من خلال ثقة الناس به، وربما تتنوع هذه الثقة من خلال مجتمع هنا وفي الحوزات العلمية هناك أو خارجها، حيث يرى أن هذا المرجع أو ذاك أكثر كفايةً من الآخر. ومن هنا، نشأت التعددية التي تعايش معها الشيعة في كل المراحل، ربما يمرّ وقت يحدث فيه بعض الأجواء والمناخات المعقدة والسلبية، حيث تتدخل بعض الأجواء السياسية، وبعض الحالات الذهنية التي لا ترتاح لأية حالة وعي تحاول أن تصطدم بالتخلف، وتحاول أن تفتح آفاقاً لدراسة كل شيء، تماماً كما أطلقنا منذ سنوات عدة، شعار: "لا مقدسات في الحوار"، وأن الله حاور الشيطان كما حاور الملائكة.

إن هذه الحملة الموجهة ضدي، قد انطلقت من خلال عدة خطوط، منها ما يرتبط بمسألة الوعي والتخلف، ومنها ما يرتبط بنظرة معينة ،أثرتها مؤخّراً، وهو أن هناك رأياً في إيران مثلاً، يعتبر أن المرجعية لا بد أن تكون في إيران، لا من ناحية عنصرية، بل من ناحية أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، وهي دولة ولاية الفقيه، وهي التي تضم أكبر حوزة علمية شيعية تقتضي بأن تكون المرجعية في إيران، ومن هنا قد لا يجدون إيجابية في وجود أية مرجعية أخرى، لا سيما في لبنان أو ما أشبه ذلك، ولكني أتصور أن مثل هذه الأجواء بدأت تتحول إلى فتنة تقسم الناس، لذلك أعتقد أن إثارة هذا الأمر بطريقة موضوعية استطاع أن يهدىء الفتنة، لا من خلال ما يتصل بي شخصياً، بل من خلال المناخ العام.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية