لم نتوجه هذه المرة إلى المرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الشيعية الأصولية اللبنانية لمعرفة آرائه ومعلوماته، وكذلك موقفه في موضوع العراق الذي هو أحد أبرز الخبراء فيه، أو في الموضوع الفلسطيني وأزمة الشرق الاوسط التي تابعها منذ زمنٍ بعيد ولا يزال بكثير من الدقة، أو في موضوع الجمهورية الاسلامية الإيرانية التي اعتبرته حتى سنوات مضت أبا التيار الإسلامي الأصولي الشيعي في لبنان ودول أخرى عربية وغير عربية وذلك رغم حرارة كل من الموضوعات الثلاثة المذكورة وحاجة الناس إلى الإطلاع على خباياها وقضاياها، ورغم أن تطوراتها يمكن أن ترسم مستقبل المنطقة وتحديدا العالمين العربي والاسلامي لعقود طويلة من الزمن. بل توجهنا اليه للحديث عن الموضوع اللبناني في ضوء التطورات السلبية المتنوعة لأوضاعه واحتمالات انعكاسها في شكل مؤذ على دولة لبنان ومؤسساتها والعيش المشترك فيها، لا بين الطوائف فحسب بل بين الأديان والمذاهب أيضاً.
وقد تناول الحديث أيضاً الموضوع السوري كونه صار جزءاً مهماً وأساسياً ورسمياً من الموضوع اللبناني منذ اتفاق الطائف عام 1989، ومنذ قررت جهات لبنانية عدة الاستقالة من دورها الوطني والقاء عبء لبنان كله على سوريا. وهو عبء ثقيل ذو نتائج سلبية مستقبلاً رغم ارتياح سوريا ضمناً، وجزئياً لتحمله كون "كتفيها عريضتين".
سألنا المرجع الديني الأصولي الشيعي الأبرز في البداية عن رؤيته للوضع اللبناني في المرحلة الحالية ولا سيما في ضوء الخلاف المستحكم بين رئيسي الجمهورية، إميل لحود والحكومة، رفيق الحريري، وفي ضوء المحاولات المستمرة لتعكير الامن بين حين وآخر وآخرها اطلاق قذيفتين على محطة تلفزيون المستقبل التي يملكها الأخير. وهي محاولات تذكر الناس بأن الحرب في بلادهم لم تنته بعد خلافاً لكل ما يقال. اجاب:
بالنسبة إلى السؤال الاول، لعل المشكلة في لبنان أنه لم يدخل عصر المؤسسة، فقد كانت المؤسسات منذ الاستقلال حتى الآن، مع بعض الفروق بين عهد وعهد - مؤسسات الشخص الذي ينتظر كل الذين في المؤسسة - الشكل ماذا سيفعل؟ ما هو موقفه؟ ما هي إيحاءاته؟ وقد يكون الشخص خاضعاً لحالة إقليمية أو دولية ما جعل مسألة الدولة هي مسألة الأشخاص بحيث ان الاشخاص هم الذين يحرّكون مفاصل الدولة حتى في التفاصيل، الأمر الذي جعل الدولة تعيش الاستقرار والاهتزاز تبعاً لعلاقات الاشخاص بعضهم ببعض الآخر. ولعل المشكلة في ما يملكه هؤلاء الاشخاص من قوّة هو أن كل شخص منهم يمثل رمزاً طائفياً بارزاً بفعل الظروف الداخلية أو الخارجية بحيث إن مواقفه في مواجهة الشخص الآخر تمثّل شيئاً في الطائفة، حيث يتعصب الناس لموقفه باعتباره موقف الطائفة وهنا تبرز الحساسيات الطائفية التي لا يمكن أية مؤسسة من مؤسسات الشكل أو أية جهة أن تحسم المسألة، بل لا بد من أن تخضع للتسويات التي نعرف تحركها من خلال تبادل المصالح الطائفية أو الشخصية.
لهذا فقد أدمن اللبنانيون هذه المسألة، بالمستوى الذي بدأت تتطور فيه لتبرز من دون أي غطاء أو ساتر، حتى أننا نجد أن بعض الرموز، من أية طائفة كانوا، يعمل احتياطاً للمستقبل وتأكيداً لموقفه من الآخر، حيث يلجأ إلى المواقع الدينية، لا ليحدّثها حول قضايا التطرف والاعتدال بل ليجمعها حوله باعتبار ما يمثل وما هو حاصل أو آت".
اضاف المرجع الأبرز نفسه: "من هنا دخلت المسألة الطائفية لحماية المسائل الشخصية، الامر الذي جمّد أية حركة اصلاحية، سواء على مستوى المواقع المتقدمة في البلد، وحتى على مستوى الفئة الثانية والثالثة والرابعة من الناس والموظفين، وهو ما يلاحظه اللبنانيون في التعيينات الديبلوماسية والإدارية وغيرها ما يعني في خلاصة الفكرة أن لبنان ليس دولة بالمعنى المعاصر للدولة التي تكبر فيها المؤسسة على الاشخاص، وقد لا يكون لبنان فريداً في هذا، لأن عالمنا العربي والإسلامي وكثيراً من العالم الثالث، يؤسس الشخص لحكمه بعيداً من المؤسسة - الشكل، حتى وإن كانت الظروف بدأت تتجه لإيجاد حالة من الديكور المؤسساتي الديموقراطي هنا وهناك. ولكن الفارق بين اللبناني وغيره أن لبنان لا يزال في عناصره الدستورية بلداً ديموقراطياً بحيث إن الشخصانية تختفي وراء المؤسسة وتنفذ الكثير من خططها وبرامجها ومشاريعها من خلال المؤسسات.
أما عند الآخرين، فإن الشخص هو كل شيء، ولا يحتاج الى اي غطاء هنا وهناك، لأن التاريخ العائلي من جهة، وبعض الأوضاع القبلية العشائرية هي التي تفرض هذا أو ذاك. ولهذا لا اجد هناك فرصة لتغيير هذا الواقع. ولعل هذا هو الذي جعل لبنان في كل العهود لا يعيش استقلاله الداخلي على مستوى المضمون. لا أقصد الاستقلال بالمعنى المثالي المطلق ولكن أن يكون للبلد قرار ينطلق من حرية المؤسسات التي تخطط له مع مراعاة الظروف الإقليمية والدولية هنا وهناك. لهذا أتصور أن المسألة ستبقى هنا - كما صرحت في أكثر من حديث - إننا نملك حرية الكلام التي بدأت تأخذ بعض التعقيدات ولكننا لا نملك حرية التغيير.
ممنوع أن يتغير لبنان في العمق، لأن المعادلة الدولية لتأسيس دولة لبنان فرضت هذا وتقبّلها اللبنانيون كما لو كانت القضاء والقدر. وإن لم تكن هي القضاء والقدر، ولكنك عندما تعتبر، أن هذا هو قضاؤك وقدرك، فإن المسألة تتجه في هذا الاتجاه بهذه العقلية... إننا سنتابع هذا، مع اختلاف المسألة حسب الرياح المقبلة هنا وهناك. من الممكن جداً أن يتغير الواقع في المنطقة بالمستوى الذي يحتاج الى نوع من تغيير الديكور أو من تحجيم بعض الأشخاص ليبقى لهم دور ولكن ليس بهذا الشكل المطلق الذي يصادر كل الأدوار، فهذه تفاصيل عرفها لبنان في الماضي.
سركيس نعوم : صحيفة "النهار" اللبنانية (18 ربيع الآخر 1424هـ/ 18-6-2003م).
أوضح المرجع الديني الابرز في التيارات الاسلامية الاصولية الشيعية اللبنانية ما قصده بقوله ان تغيير الواقع في المنطقة يمكن ان يتسبب بتغيير بعض الاشخاص قال: "لا اقصد الاشخاص فقط بل اقصد ان التغيير يمكن ان يشمل بعض الاشخاص والجهات. وهذا ما نلاحظه عندما عاش لبنان منذ الاستقلال النظام الطائفي على مستوى العرف لا الدستور. وكلنا نعرف ان هناك طائفة مميزة مثّلت الواجهة في لبنان على طريقة اميل اده الذي نُقِل عنه قوله: اريد للموارنة ان تكون لهم دولة، فكان لبنان دولة الموارنة. هكذا تحرّكت المسألة وكانت الطوائف الاخرى قابعة وتعيش بعض الحساسيات - ولا اتحدث عن المسلمين بل ايضا عن الطوائف المسيحية الاخرى - ولكن هذه المسألة كانت تنطلق بفعل الدور السياسي في تلك المرحلة حيث كانت المسألة تعيش بقايا المسألة الشرقية - وكان الموارنة ومعهم المسيحيون - مع الوسط الغربي او الحكومات الغربية يعملون على اسقاط الحكومة العثمانية آنذاك، ولكن، وهذا الوضع تغير، عندما انتهت المسألة الشرقية وبدأت التطورات سواء على مستوى الحرب داخل المعسكر الغربي بين الخط الاميركي والخط البريطاني ثم تغيرت الامور على مستوى الحرب الباردة والتي افرزت حركة القومية العربية التي تحركت مع التيار الشرقي - ولو في اواخر تطوراتها - فحسبت على اليسار ثم كانت قضية اليمين واليسار. مع الحرب اللبنانية التي ادخلت لبنان في كل الكهوف العربية والدولية وغيرها.
هذا بالاضافة الى المسألة الاسرائيلية التي كانت تعمل على اساس ان يكون التحالف مع الموارنة او المسيحيين، ولا اتحدث عن شمولية لأننا نجد ان بعض الموارنة او المسيحيين كانوا اكثر عروبة وعداوة لاسرائيل من بعض العروبيين وبعض المسلمين، لأنهم كانوا يعتبرون ان اسرائيل تتحدى الوجود المسيحي اكثر مما منه الوجود الاسلامي.
في ظل هذه الأجواء تغيرت الامور ورأينا كيف ان الاوضاع الاقليمية المتداخلة مع الاوضاع الدولية غيّرت بعض مفردات اللعبة، فأصبحت المسألة معكوسة فبدل ان يعيش المسلمون الحرمان والاحباط اصبحت هذه الحالة تمس المسيحيين الذين صاروا يتحدثون بهذه اللغة. ان لبنان يمكن ان يخضع لمثل هذه التغيرات لا من خلال الداخل لان الداخل لا يملك تغيير الخطوط التي اريد للبنان العيش عليها، ـ وكما قلت وأؤكد ـ ليس الآخرون هم القضاء والقدر ولكننا ادمنّا الآخرين في هذا المجال - لأن العواصف التي تأتي من هنا وهناك هي التي تغلب. ولذلك ارى من خلال دراستنا لطبيعة التكوين السياسي للبنان الدولة، والذي يخضع للرياح العاصفة هنا وهناك ومنها الانتفاضات - ان صح التعبير - وهذا مصطلح المرحلة، ان هذه الانتفاضات السياسية التي تتحدث عن "الاستقلال"، مع ان مفرداتها قد تكون معقولة، تتحدث عنه بطريقة مثالية كما لو كانت لا تفهم لبنان الواقع، وانما تحلّق في لبنان المثال، ونحن نعرف انه ليس هناك في كل العالم دولة مثال".
س : التغيير الذي تحدثت عنه صحيح. ولم يقم به اللبنانيون كما اشرت اذ كانوا ادوات للظروف الاقليمية والدولية. ولكن هذا التغيير استلزم اجراؤه 16 سنة تقريبا من الحروب. والآن نلاحظ ان ثمة امكانا لتغيير جديد في لبنان وخصوصا بعدما بدأ التنافس او ربما الصراع بين طرفين اسلاميين كبيرين على السلطة في لبنان او على "القيادة". والسؤال هنا هو: هل يستلزم التغيير المنتظر او بالاحرى تثبيت احد الطرفين المذكورين سلطته حربا جديدة في لبنان؟ وما هي الظروف الاقليمية والخارجية التي قد تسهل حصول ذلك؟
ـ أجاب المرجع الاسلامي الشيعي الابرز: "انني اتحفظ عن مسألة ان التغيير كان نتيجة الحرب، بل ان مسألة الحرب اللبنانية لم تستهدف الشعب اللبناني في المطلق. وانما كانت من مفاعيل المسألة الاسرائيلية في فلسطين ومفاعيل الصراع في الحرب الباردة، باعتبار ان هناك شيئا اسمه اليسار في الموضوع، ونتيجة صراعات الدول العربية التي اريد لها ان تحارب بعضها بعضا في لبنان ومن خلال ذلك كانت صراعات المنظمات الفلسطينية التي كانت تمثل دولا عربية، تمولها وتتحرك لخدمة سياستها.
من هنا فإن قضية التغيير لم تنطلق من خلال حرب اللبنانيين وانما انطلقت من خلال ان المرحلة كانت هي الفرصة السياسية الاقليمية والدولية التي تؤكد انتهاء الدور الفاعل على مستوى الواجهة للموارنة اولا وللمسيحيين مع بعض التحفظات، ومن الطبيعي جدا عندما يتحقق الفراغ هنا على مستوى الخطة الدولية، ان يحصل ما يملأ الفراغ وحتى هذا الفراغ الذي مُلِىء إسلامياً حسب المصطلح، فلا أتصور أنه استطاع أن يركز السيطرة الكاملة على لبنان الاقتصادي او السياسي او الامني، فنحن نعرف ان المراكز الرئيسية - لا تزال - على مستوى المؤسسات ومستوى قيادة الجيش، وغيرها لا تزال على حالها.
في المقابل هناك نقطة تشير إلى أن المواقع الاقليمية في لبنان دخلت تحت المظلة الدولية مفاصل كل السياسة اللبنانية على مستوى الامن اولا والسياسة ثانياً لان طبيعة الوضع الدولي كانت تفرض ذلك. قد تكون المسألة ان الدول تعبت من لبنان، فارادت لفريق من العرب ان يتحمل مسؤولية ضبط الامن وان كنت لا اجد ذلك واقعياً لاننا نعرف ان اجتماع الطائف بعد فشل الاجتماعات العربية المتلاحقة من ثلاثية وغيرها اعطى العصا السحرية لان المسالة من الناحية الدولية اعلنت انتهاء لعبة الكرة السياسية والامنية وما الى ذلك، وهكذا رأينا كيف اصبح اللبنانيون سلميين من دون أية مشكلة هنا وهناك.
إن المسلمين بالمعنى الذي اصبحوا هم لبنان كما كان الموارنة كل لبنان لم يصلوا الى هذه المرحلة. ونحن نعرف ان المسألة الإقليمية احتضنت مسلمين ومسيحيين في كل المواقع، قد يقول المسيحيون ان هؤلاء لا يمثلوننا كما كان المسلمون يتحدثون عن بعض الرموز أنهم لا يمثلونهم ولكن هذه اصول اللعبة".
س : الدور المسيحي صار واضحا ولكن محددا ومحدودا او ربما مغيبا في اللعبة التي تحدثت عنها. هناك تغييب له او بالاحرى صار نوعا من الواجهة. ما رأيك في ذلك؟
سركيس نعوم : صحيفة "النهار" اللبنانية (19 ربيع الآخر 1424هـ/ 19-6-2003م).
عن الدور المسيحي المحدد او المحدود او ربما المغيب في لبنان قال المرجع الديني الابرز في التيارات الاسلامية الاصولية الشيعية اللبنانية: "هناك رأي لا ادعي صوابيته مئة في المئة لانني لا املك كل مفردات الساحة. لكنني من وجهة المتابعة للواقع ارى ان المسيحيين، كما كان المسلمون، في حاجة الى جرعة كبيرة من الواقعية علما ان السياسة الواقعية ليست هي الاستسلام للأمر الواقع، ولكن تغيير الواقع بادوات الواقع على قاعدة معرفة حركة المتغيرات، ففي تصوري ان هناك في الكثير من المظاهر ولا اتكلم على شمولية بعيداً عن الواقع في دراسة الامور لان بعض المشاكل السياسية او الامنية تحتاج الى عمر معين من ناحية واقعية لتحل، وانا لا اتحدث عن استحالة وامكان وانما عن واقعية في هذا المجال".
س : عندما تحدثت عن الدور المسيحي المحدد او المحدود وربما المغيب اردت ان اصل الى مكان اخر هو ان في الواقع الاسلامي الاكثر تميزا وظهورا في لبنان اليوم فريقين غير واقعيين ايضا. فكل واحد منهما يحاول اخذ الصدارة او الواجهة، كيف سيتطور في رأيك هذا التنافس على هوية المتصدر الاسلامي للبنان في ظل المعطيات الاقليمية والدولية المتطورة، علما انني اعرف رأيك السلبي في المذهبيات؟
أجاب المرجع الاسلامي الابرز: "لا اتصور ان المسألة في ما يطرحه السؤال عن هذا التنافس على الصدارة بين موقع اسلامي هنا او هناك، لان كلا منهما اي الموقعين او المواقع اذا ادخلنا بعض الطوائف الاسلامية الأخرى، يملك حيزاً محدوداً لا يستطيع ان يتجاوزه، ولهذا فان المسألة اللبنانية على مستوى التطور السياسي في لبنان لا تتجه من حيث يكون الشيعة الواجهة ويكون السنّة وراء الستار او في الدرجة الثانية. انا لا اتصور ان الامور تعيش هكذا، وانني ازعم ان اللعبة الاقليمية والدولية تجعل الكل ضعافاً، حيث يتحرك كل واحد، ولا اتحدث عن الاشخاص بل المواقع، في الدائرة المخصصة له ولا يستطيع ان يتجاوزها. وكنت اتحدث سابقا - ولا ازال - ان لبنان في تأسيسه كدولة ليس مجرد دولة كبقية الدول بل هو معادلة سياسية امنية واعلامية في موقع المنطقة. ولعلنا نعرف انه لو كان لبنان مجرد دولة كغيره فان الحرب التي عاشها بجميع الفروض لكان يجب ان يسقط اما على مستوى التقسيم او على مستوى ما قاله بعض الاميركيين: ان بعض الدول يمكن ان يمحى من الخريطة، ولكني كنت ولا ازال اتصور ان لبنان هو حاجة دولية ولا سيما للغرب وحتى للعرب. ولعل ابرز شاهد على ما اقول هو ان لبنان عندما اخذ دوره في الامن وتحقق السلم الاهلي بالمعنى العام رأينا ان اكثر المؤتمرات الدولية العلمية وغيرها تعقد في لبنان. رغم وجود دول عربية اخرى متحالفة مع الغرب وغير ذلك مما يدل ان الجميع بمن فيهم العرب الذين قد يتعقدون من لبنان نتيجة اعلامه، يجدون انفسهم في لبنان. واتذكر كلمة من صديق كويتي توفاه الله: "ان اي انسان يجد موقعه في لبنان فالمتدين يجد مجالا لممارسة تدينه بأفضل ما يكون، والفاسق يجد نفسه هكذا"، وهكذا نستطيع الاضافة ان العلمانيين والاسلاميين وحتى المسيحيين في العالم لا يجدون المسيحية بمعناها المتحرك المنفتح الا في لبنان.
ان لبنان يمثل حاجة دولية في ما تحتاج اليه الدول في فهم المنطقة او تحريك المنطقة كما هي حاجتهم الى المنطقة".
س : هذه المسألة قد لا تكون ثابتة وهي معرضة للتغيير. اذ يلاحظ مثلا في المناطق الاسلامية السنية والشيعية اذا جاز التعبير على هذا النحو لا يطغى جو التدين فقط وذلك لا اعتراض عليه من احد، بل تطغى ايضا الممارسة القسرية ومراقبة التصرفات الشخصية وما الى ذلك؟
رد المرجع الشيعي الابرز على ذلك: "علينا معرفة حقيقة هي ان هذه المسألة ليست من المسائل التي يفرضها التطور بالمعنى الذاتي للبلد او بمعنى التنافس الطائفي في البلد، لاننا قبل الحرب اللبنانية رأينا ان حالة العنف وإلغاء الآخر وقمعه كانت موجودة لدى كل الطوائف وحتى عند العلمانيين، كيف كانت الحركة الوطنية؟ كانت كظاهرة عامة لا تسمح للرأي الآخر ان يأخذ موقعه بشكل وبآخر. كانت الاغتيالات والتفجيرات وكل شيء، ونحن نعرف كيف ان الحرب اللبنانية التي بدأت فلسطينية ثم انطلقت مع الحركة الوطنية، ثم تحركت في الجانب المسيحي قواتية وكتائبية وغيرها. انني اعتبر ان للعنف في المنطقة جذوراً من خلال بعض المفاهيم او الفلسفات كالماركسية التي ادخلت العنف على مستوى النظرية الى كل الاحزاب العلمانية وحتى الاسلامية، لان الجميع كانوا لا يملكون الاسلوب العملي في حركتهم السياسية التغييرية او ما الى ذلك.
مسألة العنف انطلقت من خلال طبيعة الظروف الموضوعية والعواصف التي هبت على المنطقة، وأُريدَ لها جَعْل المنطقة تعيش في حالة فوضوية لا مجال فيها لمعرفة الطريق ولعل ولادة اسرائيل في المنطقة تمثل الخطة الغربية في ذلك الوقت وربما بعض الشرقية لمسألة العنف، وهذا ما تمثل بالانقلابات العسكرية وما الى ذلك بالاضافة الى الحرب الباردة بين اليسار واليمين.
اعتقد ان هذا النوع من هذا العنف الموجود هنا وهناك سينطلق من خلال طبيعة الظروف الموضوعية، وربما يخف ويضعف تأثيره عندما تتغير الظروف بشكل ضاغط فوق العادة. لهذا علينا دراسة تاريخ لبنان الذي مر بفترات من العنف، ولكنها كانت محدودة بحدود الظروف التي كانت محيطة بها، كما استقبل لبنان حالة رفق هنا ورفق هناك".
الا يشكل اطلاق صاروخين على تلفزيون "المستقبل" مع استمرار حصول جرائم كبيرة وبقائها لغزا لجهة القائمين بها والمخططين لها والمحرضين عليها خطرا على الاستقرار في البلاد؟
سركيس نعوم : صحيفة "النهار" اللبنانية (20 ربيع الآخر 1424هـ/ 20-6-2003م).
تحدث المرجع الديني الأبرز في التيارات الاسلامية الاصولية الشيعية اللبنانية عن الخطر على استقرار البلاد الذي يشكله اطلاق صاروخين على تلفزيون "المستقبل" ووقوع جرائم كبيرة لا تزال لغزا، قال: "لا اعتبر ان مسألة الامن والتفجيرات التي حصلت تمثل اي خطر في لبنان لأن الخطر الامني في لبنان لا ينطلق من حالة لبنانية خاصة وداخلية. بل ان الحالات الداخلية التي تحصل أو بالاحرى التي تثيرها التفجيرات الاخيرة محدودة بحدودها الضيقة جداً والتي ربما كبّرها الاعلام، بما يخدم مسألة الحرب على الارهاب وفي تقديم شهادة حسن سلوك من هذه الدولة او تلك للاميركيين. بل إنها مجرد فقّاعة من الفقاقيع التي تنتفخ ثم تذوب.
ان قضية الانهيار الامني في لبنان تنطلق من خلال خطة دولية تتداخل مع خطة اقليمية. ونحن نعرف بحسب دراستنا للواقع السياسي والامني، أنه ليست هناك اية مصلحة لاية دولة إقليمية أو عالمية للإخلال بالأمن اللبناني بشكل عام. لقد اخذ لبنان دوره في ذلك كله. ولا نجد اي دور جديد في الإخلال الامني. لهذا ان قضية هذه الحوادث الامنية كقضايا الاغتصاب والقتل بشكل فردي والسرقات العادية تحصل في دولة كأميركا. اما قضية اختلال الامن في لبنان فلا اخاف على الامن في لبنان واستطيع ان اقول للبنانيين، ولا اتحدث في المطلق او الغيب، انكم تستطيعون الشعور بالامن العام، اما الامن الخاص فلا يستطيع احد ضبطه في العالم بالمطلق".
س : هل هذا رأيك رغم معرفتك بانتشار جماعات متطرفة وعنيفة ومتهمة بالسلفية وممارسة الارهاب او معاونة القائمين به في اكثر من منطقة لبنانية؟ ورغم عدم قيام لبنان وراعيه السوري بمعالجة الموضوع الامني على نحو جذري؟
أجاب المرجع الاسلامي الأبرز: "هناك نقطة يجب التدقيق فيها - ولا اتحدث عن تصور حاسم او حسابات حاسمة - ان الاعلام اعطى هذا الوجود في مفاعيله الامنية السلبيةضخامة بنسبة سبعين في المئة حسب بعض المعلومات التي لا ادعي شموليتها او دقتها. ان هذه المسألة لا تمثل ظاهرة عامة، فالمجموعات صغيرة هنا وهناك ولكنك عندما تطلق المفرقعة فإنها قد توحي اليك بدويّ. إن وراء الدوي ما وراءه.
ان الحرب على الارهاب التي فرضتها اميركا على العالم كله بصرف النظر عن الارهاب هنا او هناك ولا نريد الدخول في هذا التحليل، جعلت الكثير من الدول تتسابق للحصول على الرضا الاميركي وربما تعرف الاجهزة الامنية ان المسألة اصغر واصغر واصغر مما يحكى عنها. ولهذا لا اشعر بأية مشكلة كبيرة من خلال هذه الجماعات التي يشار اليها هنا وهناك".
س : حققت الارادة الدولية - الاقليمية سلماً أهلياً في لبنان وامنياً. لكنها تركت الادارة السياسية للبنان في يد سوريا. هل ستبقى اميركا تاركة الحرية لسوريا في ادارة السياسة اللبنانية او الدولة اللبنانية بعد التغييرات الكثيرة التي حصلت في المنطقة وتحديدا في العراق، علما ان اللبنانيين سيواجهون بعد نحو سنة ونصف سنة من الآن استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟
أجاب المرجع الاصولي الشيعي الابرز: "هناك نقطة بدأنا نرصدها في سوريا، وهي الواقعية في تصور المسألة اللبنانية وعلاقتها بالامن السوري وبالضغوط الدولية على المنطقة ولاسيما الاميركية. ولهذا ارى ان سوريا لا بد ان تبقى في لبنان بطريقة أو بأخرى ولكنها في الوقت نفسه تعرف جيدا طبيعة المتغيرات. ومن خلال ملاحقتي لمسار الواقع السوري في فهمه للعبة الدولية أرى أن سوريا من اكثر الدول البراغماتية وهي تتحرك على اساس الحفاظ على نتائج الدراسة للواقع وعلى طبيعة الشعارات ـ المبادىء التي تعتبر انها تمثل معنى سوريا.
لذلك اتصور ان تسليم اميركا لبنان الى سوريا - ان صح هذا التعبير - أو أن سوريا تتسلم ادارة لبنان فهذا أمر متحرك وليس من الثوابت، لانه في العالم كله ليس هناك دولة تتسلم ادارة بلد بالمطلق إلا من خلال طبيعة الظروف والمصالح السياسية التي تملك خطوط الادارة في هذا البلد. ولعل مشكلة الكثيرين من السلبيين والايجابيين اننا لا نزال في الشرق ندرس القضايا بالمطلق، ونحن نعرف انه في الكون ليس هناك مطلق الا الله وليس هناك مطلقفي السياسة أو في الدولة. نحن نعرف مثلا ان اميركا تسيطر على كندا ولكنها تعطيها قدراً من الحرية بالطريقة التي تستطيع فيها ان تعيش معنى الدولة، ما دامت مصالحها مؤمنة، وهكذا بالنسبة الى المكسيك او دول اميركا اللاتينية.
ان الغلو في الحكم على هذه الامور ليس واقعياً كما ان اللامبالاة ليست واقعية".
س : ان ما وصفته لا يحصل في لبنان. فلبنان يدار مباشرة من سوريا في حين ان كندا او المكسيك يديرهما شعباهما رغم خضوعهما للسياسة الاميركية العامة، اللبنانيون قد يكونون مع المحافظة على المصالح السورية في لبنان وربما على النفوذ السوري فيه ايضا لكن لماذا التمسك بالادارة المباشرة؟
ـ حول قضية التمسك ـ ولا نريد ان ندخل في التبريرات ولكننا ننظر وندرس الصورة - ربما كان هناك حديث في وقت من الاوقات ولا ادّعي ان هذا هو وجهة النظر السورية ان لبنان هو خاصرة سوريا الامنية وان الانقلابات السورية كانت تدار من لبنان، وان لبنان هو البلد الذي - على الاقل في الستينات والسبعينات - يمثل قاعدة المخابرات الدولية. فقد تكون المسألة بالنسبة الى سوريا هي مسألة امنية، ولذلك فان الجانب الامني يتناسب مع هذا القلق الامني من لبنان في هذا المجال. اما الجانب السياسي فنحن نعرف انه يتحرك تارة في خدمة الجانب الامني وقد يتحرك الجانب الامني في خدمة السياسي، ثم علينا ان نفهم حقيقة ان هناك فرقاً بين الشرق والغرب، علينا ان نعتبر ان الذهنية الشرقية - ولا اتحدث بشمولية - تعيش بعض المناخات وبعض الاجواء التي تتميز بخصوصية لا تلتقي بالذهنية الموجودة في الغرب، ففي الغرب عندما تواجههم المشكلة يعكفون على دراستها ونحن عندما تواجهنا المشكلة ننفعل وربما نسقط تحت تأثيرها تحت شعار، لا فائدة، لا حل، وهذا ليس واقعياً. وهناك آية تقول: "وتلك الايام نداولها بين الناس".
س : قلت ان سوريا تحاول التوفيق بين البراغماتية والوضع الجديد وثوابتها. بعض هذه الثوابت تطلب القوة العظمى في عالم اليوم تغييرها او تعديلها. هل ستستطيع سوريا بعلاقتها مع اميركا المحافظة على التوازن المذكور اعلاه وهل ستقبل اميركا بعدما صار معظم العالم العربي تحت رحمتها او سيطرتها استمرار سوريا في هذا التوازن وتمسكها به؟
سركيس نعوم : صحيفة "النهار" اللبنانية (21 ربيع الآخر 1424هـ/ 21-6-2003م).
تحدث المرجع الديني الأبرز في التيارات الاسلامية الاصولية الشيعية اللبنانية، رداً على سؤال عن قدرة سوريا "البراغماتية" على الحفاظ على التوازن بين ثوابتها من جهة والوضع الإقليمي - الدولي الجديد وعن مدى قبول اميركا الزعيم الأوحد لعالم اليوم ذلك، قال:
أولاً: إن الثوابت السياسية او الوطنية او القومية هي ثوابت متحرّكة في أرض الواقع وليست ثوابت ثابتة لا يمكن تحريكها. لذلك فهي تحاول لتحمي نفسها أن تراقب الواقع لتقدِّم بعض التنازلات او التفاصيل، إن صحّ التعبير، التي تحفظ لها صدقيتها في الامتداد. ثم هناك نقطة حتى في السياسة الاميركية هي ان اميركا لا تريد للدول التي تأمل بعلاقات طبيعية معها انطلاقاً من مصالحها ان تسقط ثوابتها لأن المسألة هي ان الفائدة التي تستفيدها اميركا من هذه الواقعية لا تتحقق الا اذا بقيت الثوابت في الواجهة بالمستوى الذي يجتذب الآخرين.
لذلك كنت أقول ولا أزال، وربما يختلف معي بعض الناس في ذلك، ان سوريا ضرورة في السياسة الأميركية. إننا نعرف ان اسرائيل تمثّل الخيار الأميركي والقاعدة في المنطقة العسكرية والسياسية لأميركا، ولكنه ليس من مصلحة أميركا ان تعطي اسرائيل كدولة كل الحرية، وليست هناك دولة أخرى يمكن أن تواكب او تتحرك مع التيارات الأصولية او الراديكالية او غيرها في العالم العربي إلا سوريا، فالمسألة لا تُدرس من خلال السطح لأن هناك عمقاً في الواقع لا أدّعي انه يعطي الضوء الأخضر المطلق ولكني اعتقد ان المسألة هي مسألة الضوء الأصفر وليس الأحمر".
س : هل تعتقد أن هناك مجالاً للضوء الأصفر مع الرئيس بوش؟ أم أنه إما مع الأخضر أو الأحمر؟
أجاب المرجع الإسلامي الأبرز:
"عندما ندرس خطاب بوش نجد أنه يتحرك من خلال ادارته وجهازه الاعلامي في سبيل رشّ القلق على المنطقة. لقد كنا نتصوّر ونتوهّم بعد سقوط بغداد ان اميركا سوف تدخل اكثر من حرب على سوريا وايران إلخ... ولكننا من خلال دراستنا للثغر الموجودة في تصريحات بوش او وزيري الخارجية والدفاع نجد ان المسألة كانت تمثّل حال من التهويل الذي يراد من خلاله ان يخلق مناخاً يجعل الجميع يشعرون بشيء من الخوف أو الاهتزاز أو غيره.
ونحن عندما ندرس مسار السياسة الاميركية منذ سقوط بغداد حتى الآن ومسار السياسة السورية في التعامل مع بعض المفردات التي أفرزتها الحرب نجد ان اميركا لم تقم بأي شيء سلبي حتى مسألة "قانون محاسبة سوريا" الذي يثار بين وقت وآخر لم يبصر النور، وانني أزعم حتى ان الادارة الاميركية لا تجد مصلحة لها في كسر سوريا، على الأقل هذه هي القراءة التي يمكن الانسان ان يدعي ان فيها شيئاً من الواقعية ان لم تكن هي الواقعية".
س : ماذا تختار سوريا في حال انتصر "الصقور" في الادارة الاميركية في صورة نهائية. هل تنسجم معهم وتستجيب لمطالبهم ام تواجههم، علماً انهم معروفون بعدائهم لها؟
أجاب: "أرى أن سوريا سوف تختار الخط الوسط، لأن مسألة الضغط على سوريا بالمطلق هي مسألة لا تعطي اميركا أي ربح في مستوى الشعب السوري كما اعطته في البداية الربح في مستوى الشعب العراقي، كما ان مسألة الضغط الساحق على سوريا ليس لها أي نوع من أنواع الربح لدى العالم العربي.
لذلك فخز يحرج حلفاء اميركا في العالم العربي، لهذا فانه ليست هناك أي معطيات بحسب ما يبرز من الصورة، لضغوط ساحقة - وأشدد على كلمة ساحقة - على سوريا. اننا نتصور ان مسألة الصقور هي مسألة المجانين ولكني اعتقد ان الصقور هم وكلاء الشركات النفطية والسلاح والذين يديرون الشركات يعتقدون ان مصلحتهم في العالم العربي والاسلامي، ولذلك أتصور رغم كل هذا العهر الموجود لدى هؤلاء وكل هذا الحماقة والعصبية الخانقة يلاحظون مصالحهم وليس من مصلحتهم ان تضرب سوريا بالضربة القاضية حتى لو لم يكن بالطريقة العسكرية.
وأحب أن أثير مثالاً سريعاً وهو ان اللوبي اليهودي او جماعة المحافظين الجدد او المسيحيين المتطرفين، إن صح التعبير، هؤلاء يضغطون في كثير من الحالات على اسرائيل باعتبار انهم يرون انها تسير بغطرستها نحو الهاوية، ولذلك فهم عندما يفكرون بمصلحة اسرائيل يتحدثون معها ان تتحرك بالطريقة التي تحقق التوازن بحيث لا تفقد اسرائيل نفسها في المنطقة لأن لهم من خلالها مصالح في المنطقة. ففي الوقت الذي نعرف أن هناك عجزاً في العالم العربي ولكن هذا العالم لا يزال حتى على مستوى المسؤولين الذين نتهمهم بالعجز والفشل والسقوط يحسبون حساب حفظ ماء الوجه في بعض القضايا. واميركا تعرف انه لا بد ان تحفظ لهم بعض ماء الوجه حتى تستطيع أن تستخدمهم في ما تريد تنفيذه هنا وهناك، انها لا تريد ان تسقطهم عند شعوبهم لأنها تضطر الى ابدالهم بعد ذلك تحت عناوين جديدة، لهذا فالمسألة نسبية حتى مسألة العجز والفشل هي مسألة نسبية في هذا المجال".
س : هل تعتبر ان هناك حواراً جارياً بين سوريا وأميركا؟
أجاب المرجع الاصولي الأبرز: "أتصور أن الحوار لم ينقطع وهذا ما سمعناه من هنا وهناك".
سركيس نعوم : صحيفة "النهار" اللبنانية (23 ربيع الآخر 1424هـ/ 23-6-2003م).