أميركا في متاهة وعلى العراقيين التوافق على الحد الأدنى

أميركا في متاهة وعلى العراقيين التوافق على الحد الأدنى

الشيعة في عين الإعصار الأميركي في العراق أو لبنان أو إيران *

يؤكد السيد فضل الله أن أميركا التي انتصرت في حرب سهلة على العراق، لم تستطع حتى الآن الحصول على ثماره سياسياً. من هنا يأتي المأزق الذي تتخبط به، وهو الذي دفعها إلى الضغط على مجلس الأمن ليصدر قراراً لم يتناسب مع طروحاتها، لا سيما أنها لا تعتبر نفسها دولة محتلة للعراق، إذ إنه في مثل هذا الوضع لا تملك أيّة شرعية للتصرف في ثروات أو استثمارات أو اعمار العراق. فالانتصار الذي أحرزته لا يعطيها الشرعية إذا لم تكن دولة احتلال. لذا شهدنا أولاً مسألة رفع العقوبات عن العراق، الأمر الذي يمنحها حرية التصرف بكل ما يتعلق باقتصاد العراق وغيره. هذا القرار يتوقف عليه أن تأخذ صفة الدولة الشرعية بالمعنى القانوني.

يؤكد السيد فضل الله أن أميركا التي انتصرت في حرب سهلة على العراق، لم تستطع حتى الآن الحصول على ثماره سياسياً. من هنا يأتي المأزق الذي تتخبط به، وهو الذي دفعها إلى الضغط على مجلس الأمن ليصدر قراراً لم يتناسب مع طروحاتها، لا سيما أنها لا تعتبر نفسها دولة محتلة للعراق، إذ إنه في مثل هذا الوضع لا تملك أيّة شرعية للتصرف في ثروات أو استثمارات أو اعمار العراق. فالانتصار الذي أحرزته لا يعطيها الشرعية إذا لم تكن دولة احتلال. لذا شهدنا أولاً مسألة رفع العقوبات عن العراق، الأمر الذي يمنحها حرية التصرف بكل ما يتعلق باقتصاد العراق وغيره. هذا القرار يتوقف عليه أن تأخذ صفة الدولة الشرعية بالمعنى القانوني.

أمريكا لا تتقن عملية لعب دور الدولة المحتلة

ويضيف: إنّ مسألة الاحتلال قد لا ترضي أميركا في العمق، وهي تقارب مسألة الاحتلال للضفة الغربية والقطاع التي اعترف بها أرييل شارون ثم تبرأ منها بعد ذلك. لهذا بعد أن أصدر مجلس الأمن قراره باعتبار أميركا دولة محتلة بات عليها أن تتحمل المسؤولية أمام العالم كله في إعادة العراق إلى موقعه كدولة تملك الشرعية الوطنية من خلال مؤسساتها وأجهزتها. لكن المشكلة بالنسبة لأميركا، هي انها في ما يبدو لا تتقن عملية لعب دور الدولة المحتلة. فتاريخ أميركا وحركتها السياسية هو تاريخ الدولة المسيطرة القاهرة، التي تقمع وتصادر وتتدخل وتستفيد من كل الظروف التي تحمي مصالحها. أما أن تكون دولة محتلة تشرف بشكل مباشر على بلد بكل خصوصياته وكلياته، فهذا أمر لا سابق عهد لها به. وهنا تختلف عن بريطانيا التي عرفت في تاريخها الطويل استعماراً للكثير من الدول. لهذا لاحظنا هذا النوع من الارتباك في إدارة المسألة العراقية من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، الأمر الذي دفعها إلى تغيير مسؤوليها الإداريين بين وقت وآخر، كما جعلها تستنجد بالعالم من أجل أن يساعدها في ضبط الأمن، وهي الآن تقوم بأكثر من تجربة لجمع الأطياف العراقية من اجل تأسيس حكومة أو إدارة مؤقتة وما إلى ذلك.

ويتابع السيد فضل الله بالقول أتصور أن أميركا دخلت في متاهات سياسية وأمنية في العراق. ويبدو ان هذا النوع من الإرباك هو الذي جعل العراقيين المتحمسين لأميركا يفكرون بأن ما عاشوه في الأحلام يمثل كذبه الواقع. وعليه فقد ارتفعت الهتافات التي تطالب بانسحاب قوات التحالف من العراق، كما لاحظنا وجود أكثر من نشاط أمني، ربما ينسب إعلاميا إلى جهات من الخارج أو إلى فلول النظام وغيره. وإن كان ذلك يعبر عن ظاهرة قد تكون متعددة الخلفيات، إلاّ إنه يدل على أن الانتصار العسكري الذي حققته أمريكا في العراق لم تستطع استثماره سياسياً حتى الآن.

العراق هو بلد الكفاءات ذو حضارة تاريخية

* يثير ما تصفه بالارتباك الأميركي مسألة دينامية المجتمع العراقي الذي عانى التدمير طوال عقود متلاحقة.. كيف يعاد إطلاقه لمضاعفة المأزق الأميركي؟

** إنني لا أزال أتحفظ على سرعة النمو السياسي في العراق بالمستوى الذي تستطيع معه بسرعة أن تؤلف حكومة مسيطرة. ولكن القضية هي أن الأطياف العراقية، سواء كانت تسمى بمعارضة الخارج أو الداخل أو القوى العشائرية، لا تملك الكثير من مقومات السيطرة الميدانية بدليل تناقضاتها وتعذر توظيفها لإيجاد وضع مستقر. أنا لا أقول أن العراق لا يملك كفاءات سياسية واقتصادية وعلمية. بل أؤكد أن العراق هو بلد الكفاءات، وهو البلد الذي لا يملك حضارة تاريخية، بل يعيشها ويتملاها. لكن قضية الدينامية السياسية تحتاج إلى نوع من الخبرة الميدانية المتحركة. وقد غيب العراق عن ذلك كله في الداخل.

أما من كان في الخارج فكان أقرب إلى المسألة التنظيرية منه إلى المسألة الواقعية. ان هذه الأمور تجعل هناك صعوبة فعليّة وليس استحالة. لذلك فإني أتصور أنَّ الخطة الوحيدة للعراقيين هي أن يعملوا في الداخل من خلال هيئاتهم لإيجاد قاعدة تجمع الجميع على أساس أقل القواسم المشتركة، وعليهم البدء بمسألة الحكومة الوطنية العراقية، وبذلك يخلقون حاجزا أمام أميركا في تبرير تدخلها المباشر في العراق لحاجتها إلى الاستقرار. لكن المسألة هي هل الأطياف العراقية التي رأينا بعضها كيف يبحث عن الحصص، والبعض الآخر كيف يطلق العناوين الطائفية والمذهبية وغير ذلك... هذه الأطياف هل تملك الإرادة لإيجاد وضع عراقي وطني منفتح على المرحلة والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية من اجل صنع حالة وطنية عراقية أم لا. هذا ما ننتظره.

الفجوة والفراغ

* إذن العراق بين مأزقين: مأزق الاحتلال الأميركي من جهة ومأزق المعارضة العراقية من جهة ثانية؟

** هذه الفجوة، أو هذه المساحة الضائعة التي تعيشها الساحة العراقية بين نظام طاغ جمّد العراق كله، وبين نظام محتل أعطى العراق أحلاماً لكنه لم يستطع حتى الآن أن يمنحه أمناً واستقراراً اقتصاديا وخدمات، وان يضبط الساحة حتى بالنسبة لأمنه هو. إذاً هناك منطقة فراغ بين مرحلتين، ولم يتقدم أحد حتى الآن ليملأ هذا الفراغ، الذي يخيل للبعض أن هناك ما يملأه كحرية الهتافات والتظاهرات وبعض الاجتماعات والمؤتمرات.. الحرية الإعلامية لا تختزل حرية المواطن والوطن. الكل يتحدث عن التغيير، ولكن لم نجد أي خطوة متقدمة في اتجاهه، حتى على مستوى العلاقات السياسية بين السياسيين أنفسهم. لم نجد هناك في العمق وحدة سياسية بين الأطياف العراقية وإن كانت هناك عناوين سياسية تطرح ولكن من دون عمق.

 

لا أثق بأن أميركا يمكن أن تعطي أي بلد من بلدان العالم الثالث ديموقراطية لأن هذا ضد مصالحها

* سماحة المرجع: نقول لك.. كإنسان عاش وعايش العراق هل كنت تتوقع خلاف ما تقوله الآن؟

** كنت منذ البداية أتوقع هذا الفراغ لسببين: أولهما: هو ان قوة الاحتلال ليست مستعدة لأن تعطي أي شعب، ولا سيما في العراق باعتباره البلد القوي الذي يمكن أن يوازي إسرائيل في القوة على المستويات الاقتصادية، باعتباره من أغنى البلدان العربية في المنطقة، لا في البترول فحسب، ولكن في أكثر من مورد، ثم أن طاقته البشرية تتميز عن سواها من البلدان العربية لجهة الكفاءات الهائلة المنتشرة في كافة القطاعات وعلى كل المستويات. لذلك فإني لا أثق بأن أميركا يمكن أن تعطي أي بلد من بلدان العالم الثالث ديموقراطية بالطريقة التي يمكن أن يتمتع بها أي مواطن غربي، لأن هذا ضد مصالحها. هذا أمر كان واضحاً عندي وما زال.

ثانيهما: هو أن السياسية العراقية كانت تعاني من غياب. وإذا كان البعض يتحدث عن اجتماعات المعارضة ومؤتمراتها وعلاقتها بأميركا أو بريطانيا أو بعض الدول العربية، فإنني أعتقد انها كانت مجرد عملية ملء لفراغ، لا يملك فيه أحد فرصة الكثير من وضوح الصورة عن العراق في تلك المرحلة. فالكل كان يفكر كيف يسقط النظام، حتى أنّ الوجدان العراقي العام اصبح يعتبر أميركا مُحررة، لأن الشعب لا يستطيع إسقاط النظام، وأن أميركا هي الوحيدة التي تستطيع ذلك. هذا الاستغراق في فكرة إسقاط النظام، وهو حق، وهذا الاستغراق في الخديعة الأميركية التي حاولت أن تعطي وهماً أنها تؤمن بحقوق الإنسان، وأنها تتباكى على الشعب العراقي، وأنها تريد أن تحرره دفعهم إلى أن يتعاونوا مع أميركا على هذا الأساس من دون أيّ دراسة معمقة لما بعد سقوط النظام. إذاً لم تكن مسألة ما بعد سقوط النظام مدروسة على الأقل بشكل تفصيلي بحيث يمكن لكل هذه المعارضات أن تدخل إلى العراق ومعها «الوصفة» جاهزة لمداواة هذا المرض. هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من أن الفوضى ما تزال تحكم العراق، مما يجعل الشعب يفكر بأمنه وخبزه وما شابههما من أمور بعيدة عن المسألة السياسية، فهذه القضية ترتبط بالحاجة إلى حكومة ودولة لتحفظ الأمن وتحقق الخدمات لشعبها. أما الأفق السياسي فإنني أتصور أنه لم يكن مدروسا حتى ضمن خطوط عامة تفسح المجال أمام خطوط تفصيلية. وهذا لم أجده حتى الآن في التجربة العراقية الجديدة.

هدف أميركا الأول هو حماية أمن إسرائيل

الأمن والحصار

* تشير إلى انعدام الأفق السياسي والفوضى، لكن ذلك لا ينحصر بالعراق وحده، رغم خصوصية أوضاعه.. ألا ترى أن غياب الأفق السياسي يحكم المنطقة بأسرها؟

** هذه المسألة التي تثيرها تتصل بموقع العراق من الخطة السياسية الأميركية في المنطقة. وعندما نتحدث عن العراق من الداخل يتبين لنا أن أميركا ومعها حلفائها أو عملائها في المنطقة لا تملك إلاّ أن تعترف بأن هذا المشروع مطروح قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، وحتى منذ الثمانينيات. فأميركا تعمل الآن بمختلف الوسائل وألوان اللعبة السياسية والاقتصادية لتبقى وحدها الدولة المهيمنة على العالم. وقد صرّح أكثر من مسؤول أميركي بدورها القيادي في العالم اليوم. لذلك فإن ما يجري ينبع من السؤال كيف يمكن ترتيب الشرق الأوسط بما يحقق لها هذه الأهداف؟؟

لا شك في أن أميركا لها عدة أهداف، الأول منها: هو حماية أمن إسرائيل، لأن هذا الأمن يقع في المقدمة الأولى من الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، باعتباره يمثّل سياسة المطلق، إذا كان هناك من سياسة للمطلق.

والهدف الثاني: هو الحصول على مواقع متقدمة للنفوذ الأميركي على جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية. لذلك كانت مسألة احتلال العراق هي من المسائل التي تعتبر المدخل، لا من حيث أن أميركا اقتربت من حدود إيران، إذا كنا نتحدث عن حدود. لأنّ أميركا تحاصر إيران وتحيطها بدول متعاملة معها. فأميركا موجودة في الخليج كله، كما انها موجودة سياسياً وعسكرياً في باكستان وأفغانستان وقد مدت أذرعها إلى منطقة الجمهوريات الإسلامية التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي. وفي تركيا هناك قواعد أميركية. لذلك فإن الحديث عن أن احتلال أميركا للعراق قد جعل إيران في خطر هو غير صحيح. نعم، ربما يقال أن الخطر قد اشتد. لأن أميركا أكملت التطويق جغرافياً لإيران في هذا المجال.

أميركا تحاول أن تفرض نفوذها على المنطقة، ولكن ليس من الضروري أن يكون ذلك من الناحية العسكرية. فأميركا الآن توظف انتصارها الذي جعلها قوة بامتياز كما يقال، من أجل أن تلوح بالعصا لأكثر من دولة في المنطقة. ومن الطبيعي أنها تعمل الآن على تغيير المنطقة الخليجية على أساس أن تمسك بها بشكل مباشر، بعد أن كانت تمسك بها بشكل غير مباشر. أما المسألة التي يبشر بها بوش عن نفسه، وهي مسألة «النبوة»، تقتضي منه أن يحقق رسالته في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، في حقوق الإنسان والديموقراطية ومقاومة الإرهاب وما إلى ذلك. لهذا فإن أميركا تحاول الآن أن تمد يدها لتمارس الضغط هنا وهناك. ولكن ليس هناك من خطر عسكري في المستقبل القريب على الأقل بالنسبة لسوريا ولبنان.

* الاستنتاج توصلت إليه باستبعاد الخطر العسكري على سوريا ولبنان، هل مرده أن رد الفعل لا يهدد الخطة الأميركية؟

أمريكا تريد أن تبرّد الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة

** السياسة السورية تتميز بقدر كبير من الواقعية السياسية التي تحاول أن تحافظ على الخطوط العامة في عناوينها السياسية المبدئية، ولكنها تتحرك على الأرض لتدرس المتغيرات، ولتحرك خطوطها داخل هذه المتغيرات بعيداً عما يلغي خطوطها العامة الأساسية، وبكثير من اللباقة السياسية في هذا المجال. آما قضية لبنان فإن المسألة هي مسألة المقاومة. أتصور أن أميركا ليست في وارد أن تجمع سلاح المقاومة الإسلامية، ولكنها في وارد أن تبرّد الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وهذا أمر حاصل من خلال أن المقاومة الإسلامية بلغت سن الرشد، وأصبحت لا تؤمن بالمغامرة، بل تؤمن بالواقعية في الطريق إلى الهدف. لذلك فإنني لا أتصور أن هناك وضعاً أمنياً أميركياً قريباً، كما أن هذا الأمر ينسحب على إيران أيضاً. ولعلنا لاحظنا في اجتماعات بوش وبوتين وحديثهما المعلن عن مسألة الأسلحة النووية في إيران أو المشاريع النووية على الأصح، أن بوش يقول أننا نريد من إيران أن تضع المفاعلات النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية. وهذا أمر طلبته إيران منذ البداية، وكانت لها تجربة مع بعض الجدل في تفاصيل ذلك. هذا مما يدل على أن أميركا وروسيا وصلتا إلى نوع من التوافق الذي لا يسقط مصالح روسيا في بناء المفاعل النووي في بوشهر الإيرانية وفي التزامها مع أميركا بمنع السلاح النووي.

فلسطين هي الأم

* سماحة السيد، لم تشر إلى فلسطين في عرضك لوضع المنطقة مع أنها في قلب المحنة أكثر من أي وقت مضى؟

** أما فلسطين فهي الأم. إنني أعتبر أنّ فلسطين هي أم المنطقة العربية، ولعل كل ما عرفته المنطقة، بل العالم، وما تعرضت له الدول العربية من ضغوط بهدف تدجينها وإضعافها وزيادتها فشلاً وعجزاً وسقوطاً، وإن كان يهدف إلى احتواء هذه المنطقة في الخطة الأميركية، إلاّ أنه ينطلق من مسألة احتلال إسرائيل لفلسطين. انني أعتقد ان كل هذه الخلفيات وكل التطورات التي مرت على العالم العربي والإسلامي بكل مفاعيلها السلبية من انقلابات عسكرية، ومن فوضى في الأيديولوجيات ومن صراعات داخلية، وحكم ديكتاتوري يتحرك بشكل مقنع تارة، وبشكل سافر طوراً، حتى إنه صادر الشعوب العربية جميعاً، ومنعها من حرياتها ومن إرادتها في تقرير مصيرها.. إن هذا كله انطلق من مخطط اللعبة الدولية، ولا سيما الأميركية، كي تصنع إسرائيل دولتها في ظل غياب عربي، يملك الكثير من الصراخ ومن الانفعال ليتحول إلى ظاهرة صوتية، وليس إلى ظاهرة واقعية.

ولذلك كله، رأينا كيف أن الوضع السياسي في العالم العربي، الذي امتد من خلال الخطوط الدولية، ولا سيما الأميركية، تحرك عندما انطلقت الانتفاضة وانطلقت المقاومة في لبنان. فقد أصبحوا عندها ينادون بالويل والثبور باعتبار أن هؤلاء يمثلون التطرف والفئات التي لا تريد السلم والاستقرار. ثم عندما حدثت حادثة الحادي عشر من أيلول دخل كل هؤلاء في الإرهاب، وتعاونت الدول العربية مع الخطة الأميركية في هذا المجال. ولا تزال الضغوط تتحرك في المسألة الفلسطينية من أجل القضاء على الانتفاضة، وفي لبنان من أجل القضاء على المقاومة.

لم يطرح الرئيس بوش الخطوط التفصيلية لخارطة الطريق بوضوح

ان المسألة في تصوري وأمام ما يسمى بخارطة الطريق، هي أن الرئيس بوش يتحرك في هذه القضية بطريقة ضبابية، لأنه حتى في خارطة الطريق لم يطرح الخطوط التفصيلية بوضوح، ما يجعل كل نقطة فيها قابلة لأكثر من مئة سؤال كما كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يقول عندما يتحدث عن اتفاقية أوسلو. وهذا يفسح المجال لإدخال المسألة الفلسطينية من جديد في المتاهات الإسرائيلية، تبعا للطريقة التي تدير بها الحكومة الإسرائيلية مسألة المفاوضات لتجعل الأمور ضائعة وتفتقد الواقعية.

وعلى ضوء ذلك نؤكد أنّ الخارطة لا تخلو من أحد الأمرين:

الأول: إما أن تكون مجرد واجهة سياسية يراد منها التحريك، من أجل دخول أميركا إلى بلدان العالم العربي سياسيا لتعلن انها تتحمل المسؤولية عن هذه المشكلة التي تحتاج إلى مفاوضات ومفاوضات.

ثانياً: أو أنها تريد أن تسقط الفلسطينيين بالضربة القاضية ليخضعوا لكل ما تريده إسرائيل، وهذا يمثل الاستراتيجية الأميركية التي تعتبر أن المسألة الحيوية عندها هي حماية إسرائيل من كل شيء، حتى من نفسها كما عبر عن ذلك كلينتون.

إننا لا نثق بأميركا ولا نريد أن ندخل في تخوين مسؤول فلسطيني من هنا أو هناك. أتصور أنّ الضغوط التي تشبه الجبال التي تواجه القيادات الفلسطينية تجعل بعض المسؤولين الفلسطينيين في السلطة يفكرون في أن يكونوا واقعيين في حركتهم على الأرض. ولكن لا أتصور أن إسرائيل التي وجدت في أميركا، الدولة التي تملك العالم، وتملكها هي في منطقة الشرق الأوسط، الخادم الذي يخدم استراتيجيتها، ولذلك فإن إسرائيل إذا لم تحصل متغيرات فوق العادة في العالم تضغط عليها، وإذا لم يحدث في العالم العربي والإسلامي ما يضغط عليها، بحيث يشرب حليب السباع بدلاً من حليب الأرانب الذي أدمنه الحكام.. إذا لم يحصل هناك وضع عربي يحرك أوراق الضغط على أميركا قبل إسرائيل، فإنني أتصور أن المسألة ستمتد إلى قرن آخر.

العنف في الإسلام هو عنف دفاعي وٍقائي وليس عنصراً عدوانياً

الضياع والتحديث

* سؤال أخير سماحة السيد: وسط هذا الاحتدام هناك ضياع فكري فالإسلام هو إسلامات.. والحركة القومية في نزاعها، ما هو الخط الفكري التحديثي لمواجهة التحديات؟

** إنني كنت ولا أزال أدعو إلى الحوار بين الإسلاميين في المنطقة الإسلامية من أجل أن نؤسس لأصالة إسلامية يملكها الإسلام في عمقه، وليس شيئا نصنعه. هذا الأمر يتطلب الدراسة الواعية المنفتحة على دور الإسلام في حل مشاكل الإنسان ورفع مستواه، وإعطائه في كل مرحلة الحياة الجديدة. يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. فالدعوة في الإسلام هي دعوة إلى الحياة بكل ما تحمله الحياة من أبعاد وتنوعات. كما أن علينا أن ندرس مسألة العنف والرفق في الإسلام. لأن العنف في الإسلام ليس هو القاعدة، ولكنه الخط الذي أخذ به الإنسان منذ البداية ولا يزال عندما يعيش حالة الدفاع أو الوقاية. لذلك فإن العنف في الإسلام هو عنف دفاعي وٍقائي وليس عنصراً عدوانياً. إنّ علينا أن ندرس ذلك كله، أن ندرس أيضا موقف الإسلام من التحديث، وموقفه من القضايا التي تفرض نفسها علينا كالعولمة، والتنمية، والبيئة وما إلى ذلك من الأمور، حتى ينطلق الإسلام في حركة العصر دون أن يكون بعيدا عن تطلعات الإنسان، وليشارك في قيادة العالم بمفاهيمه الحضارية الأساسية.

إنني أعتقد أن الحوار مع كل الأطياف الإسلامية في مسألة الاجتهاد في فهم الإسلام، هو الذي يمكن أن يصل بنا إلى نتيجة. ولكن هذا، أمام حالة التخلف والخرافة والظلم والضغوط الهائلة التي تتحرك من هنا وهناك ولا سيما في الدوائر التي تفرض التجهيل على الواقع الإسلامي، يحتاج إلى معاناة طويلة. وربما تكون الصدمات التي تحدث من خلال هذه العمليات الإرهابية وما إليها، قد تكون فرصة لتحريك هذا الاتجاه. إننا لا نعتبر أن هناك إسلاميات، بل هناك إسلام واحد يختلف الناس في فهمه.


* مقابلة مع جريدة السفير اللبنانية ، نشرت بتاريخ 4-5-1424هـ الموافق في 4-7- 2003م ضمن مقابلات وتحقيقات امتدت على حلقات .

الشيعة في عين الإعصار الأميركي في العراق أو لبنان أو إيران *

يؤكد السيد فضل الله أن أميركا التي انتصرت في حرب سهلة على العراق، لم تستطع حتى الآن الحصول على ثماره سياسياً. من هنا يأتي المأزق الذي تتخبط به، وهو الذي دفعها إلى الضغط على مجلس الأمن ليصدر قراراً لم يتناسب مع طروحاتها، لا سيما أنها لا تعتبر نفسها دولة محتلة للعراق، إذ إنه في مثل هذا الوضع لا تملك أيّة شرعية للتصرف في ثروات أو استثمارات أو اعمار العراق. فالانتصار الذي أحرزته لا يعطيها الشرعية إذا لم تكن دولة احتلال. لذا شهدنا أولاً مسألة رفع العقوبات عن العراق، الأمر الذي يمنحها حرية التصرف بكل ما يتعلق باقتصاد العراق وغيره. هذا القرار يتوقف عليه أن تأخذ صفة الدولة الشرعية بالمعنى القانوني.

يؤكد السيد فضل الله أن أميركا التي انتصرت في حرب سهلة على العراق، لم تستطع حتى الآن الحصول على ثماره سياسياً. من هنا يأتي المأزق الذي تتخبط به، وهو الذي دفعها إلى الضغط على مجلس الأمن ليصدر قراراً لم يتناسب مع طروحاتها، لا سيما أنها لا تعتبر نفسها دولة محتلة للعراق، إذ إنه في مثل هذا الوضع لا تملك أيّة شرعية للتصرف في ثروات أو استثمارات أو اعمار العراق. فالانتصار الذي أحرزته لا يعطيها الشرعية إذا لم تكن دولة احتلال. لذا شهدنا أولاً مسألة رفع العقوبات عن العراق، الأمر الذي يمنحها حرية التصرف بكل ما يتعلق باقتصاد العراق وغيره. هذا القرار يتوقف عليه أن تأخذ صفة الدولة الشرعية بالمعنى القانوني.

أمريكا لا تتقن عملية لعب دور الدولة المحتلة

ويضيف: إنّ مسألة الاحتلال قد لا ترضي أميركا في العمق، وهي تقارب مسألة الاحتلال للضفة الغربية والقطاع التي اعترف بها أرييل شارون ثم تبرأ منها بعد ذلك. لهذا بعد أن أصدر مجلس الأمن قراره باعتبار أميركا دولة محتلة بات عليها أن تتحمل المسؤولية أمام العالم كله في إعادة العراق إلى موقعه كدولة تملك الشرعية الوطنية من خلال مؤسساتها وأجهزتها. لكن المشكلة بالنسبة لأميركا، هي انها في ما يبدو لا تتقن عملية لعب دور الدولة المحتلة. فتاريخ أميركا وحركتها السياسية هو تاريخ الدولة المسيطرة القاهرة، التي تقمع وتصادر وتتدخل وتستفيد من كل الظروف التي تحمي مصالحها. أما أن تكون دولة محتلة تشرف بشكل مباشر على بلد بكل خصوصياته وكلياته، فهذا أمر لا سابق عهد لها به. وهنا تختلف عن بريطانيا التي عرفت في تاريخها الطويل استعماراً للكثير من الدول. لهذا لاحظنا هذا النوع من الارتباك في إدارة المسألة العراقية من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، الأمر الذي دفعها إلى تغيير مسؤوليها الإداريين بين وقت وآخر، كما جعلها تستنجد بالعالم من أجل أن يساعدها في ضبط الأمن، وهي الآن تقوم بأكثر من تجربة لجمع الأطياف العراقية من اجل تأسيس حكومة أو إدارة مؤقتة وما إلى ذلك.

ويتابع السيد فضل الله بالقول أتصور أن أميركا دخلت في متاهات سياسية وأمنية في العراق. ويبدو ان هذا النوع من الإرباك هو الذي جعل العراقيين المتحمسين لأميركا يفكرون بأن ما عاشوه في الأحلام يمثل كذبه الواقع. وعليه فقد ارتفعت الهتافات التي تطالب بانسحاب قوات التحالف من العراق، كما لاحظنا وجود أكثر من نشاط أمني، ربما ينسب إعلاميا إلى جهات من الخارج أو إلى فلول النظام وغيره. وإن كان ذلك يعبر عن ظاهرة قد تكون متعددة الخلفيات، إلاّ إنه يدل على أن الانتصار العسكري الذي حققته أمريكا في العراق لم تستطع استثماره سياسياً حتى الآن.

العراق هو بلد الكفاءات ذو حضارة تاريخية

* يثير ما تصفه بالارتباك الأميركي مسألة دينامية المجتمع العراقي الذي عانى التدمير طوال عقود متلاحقة.. كيف يعاد إطلاقه لمضاعفة المأزق الأميركي؟

** إنني لا أزال أتحفظ على سرعة النمو السياسي في العراق بالمستوى الذي تستطيع معه بسرعة أن تؤلف حكومة مسيطرة. ولكن القضية هي أن الأطياف العراقية، سواء كانت تسمى بمعارضة الخارج أو الداخل أو القوى العشائرية، لا تملك الكثير من مقومات السيطرة الميدانية بدليل تناقضاتها وتعذر توظيفها لإيجاد وضع مستقر. أنا لا أقول أن العراق لا يملك كفاءات سياسية واقتصادية وعلمية. بل أؤكد أن العراق هو بلد الكفاءات، وهو البلد الذي لا يملك حضارة تاريخية، بل يعيشها ويتملاها. لكن قضية الدينامية السياسية تحتاج إلى نوع من الخبرة الميدانية المتحركة. وقد غيب العراق عن ذلك كله في الداخل.

أما من كان في الخارج فكان أقرب إلى المسألة التنظيرية منه إلى المسألة الواقعية. ان هذه الأمور تجعل هناك صعوبة فعليّة وليس استحالة. لذلك فإني أتصور أنَّ الخطة الوحيدة للعراقيين هي أن يعملوا في الداخل من خلال هيئاتهم لإيجاد قاعدة تجمع الجميع على أساس أقل القواسم المشتركة، وعليهم البدء بمسألة الحكومة الوطنية العراقية، وبذلك يخلقون حاجزا أمام أميركا في تبرير تدخلها المباشر في العراق لحاجتها إلى الاستقرار. لكن المسألة هي هل الأطياف العراقية التي رأينا بعضها كيف يبحث عن الحصص، والبعض الآخر كيف يطلق العناوين الطائفية والمذهبية وغير ذلك... هذه الأطياف هل تملك الإرادة لإيجاد وضع عراقي وطني منفتح على المرحلة والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية من اجل صنع حالة وطنية عراقية أم لا. هذا ما ننتظره.

الفجوة والفراغ

* إذن العراق بين مأزقين: مأزق الاحتلال الأميركي من جهة ومأزق المعارضة العراقية من جهة ثانية؟

** هذه الفجوة، أو هذه المساحة الضائعة التي تعيشها الساحة العراقية بين نظام طاغ جمّد العراق كله، وبين نظام محتل أعطى العراق أحلاماً لكنه لم يستطع حتى الآن أن يمنحه أمناً واستقراراً اقتصاديا وخدمات، وان يضبط الساحة حتى بالنسبة لأمنه هو. إذاً هناك منطقة فراغ بين مرحلتين، ولم يتقدم أحد حتى الآن ليملأ هذا الفراغ، الذي يخيل للبعض أن هناك ما يملأه كحرية الهتافات والتظاهرات وبعض الاجتماعات والمؤتمرات.. الحرية الإعلامية لا تختزل حرية المواطن والوطن. الكل يتحدث عن التغيير، ولكن لم نجد أي خطوة متقدمة في اتجاهه، حتى على مستوى العلاقات السياسية بين السياسيين أنفسهم. لم نجد هناك في العمق وحدة سياسية بين الأطياف العراقية وإن كانت هناك عناوين سياسية تطرح ولكن من دون عمق.

 

لا أثق بأن أميركا يمكن أن تعطي أي بلد من بلدان العالم الثالث ديموقراطية لأن هذا ضد مصالحها

* سماحة المرجع: نقول لك.. كإنسان عاش وعايش العراق هل كنت تتوقع خلاف ما تقوله الآن؟

** كنت منذ البداية أتوقع هذا الفراغ لسببين: أولهما: هو ان قوة الاحتلال ليست مستعدة لأن تعطي أي شعب، ولا سيما في العراق باعتباره البلد القوي الذي يمكن أن يوازي إسرائيل في القوة على المستويات الاقتصادية، باعتباره من أغنى البلدان العربية في المنطقة، لا في البترول فحسب، ولكن في أكثر من مورد، ثم أن طاقته البشرية تتميز عن سواها من البلدان العربية لجهة الكفاءات الهائلة المنتشرة في كافة القطاعات وعلى كل المستويات. لذلك فإني لا أثق بأن أميركا يمكن أن تعطي أي بلد من بلدان العالم الثالث ديموقراطية بالطريقة التي يمكن أن يتمتع بها أي مواطن غربي، لأن هذا ضد مصالحها. هذا أمر كان واضحاً عندي وما زال.

ثانيهما: هو أن السياسية العراقية كانت تعاني من غياب. وإذا كان البعض يتحدث عن اجتماعات المعارضة ومؤتمراتها وعلاقتها بأميركا أو بريطانيا أو بعض الدول العربية، فإنني أعتقد انها كانت مجرد عملية ملء لفراغ، لا يملك فيه أحد فرصة الكثير من وضوح الصورة عن العراق في تلك المرحلة. فالكل كان يفكر كيف يسقط النظام، حتى أنّ الوجدان العراقي العام اصبح يعتبر أميركا مُحررة، لأن الشعب لا يستطيع إسقاط النظام، وأن أميركا هي الوحيدة التي تستطيع ذلك. هذا الاستغراق في فكرة إسقاط النظام، وهو حق، وهذا الاستغراق في الخديعة الأميركية التي حاولت أن تعطي وهماً أنها تؤمن بحقوق الإنسان، وأنها تتباكى على الشعب العراقي، وأنها تريد أن تحرره دفعهم إلى أن يتعاونوا مع أميركا على هذا الأساس من دون أيّ دراسة معمقة لما بعد سقوط النظام. إذاً لم تكن مسألة ما بعد سقوط النظام مدروسة على الأقل بشكل تفصيلي بحيث يمكن لكل هذه المعارضات أن تدخل إلى العراق ومعها «الوصفة» جاهزة لمداواة هذا المرض. هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من أن الفوضى ما تزال تحكم العراق، مما يجعل الشعب يفكر بأمنه وخبزه وما شابههما من أمور بعيدة عن المسألة السياسية، فهذه القضية ترتبط بالحاجة إلى حكومة ودولة لتحفظ الأمن وتحقق الخدمات لشعبها. أما الأفق السياسي فإنني أتصور أنه لم يكن مدروسا حتى ضمن خطوط عامة تفسح المجال أمام خطوط تفصيلية. وهذا لم أجده حتى الآن في التجربة العراقية الجديدة.

هدف أميركا الأول هو حماية أمن إسرائيل

الأمن والحصار

* تشير إلى انعدام الأفق السياسي والفوضى، لكن ذلك لا ينحصر بالعراق وحده، رغم خصوصية أوضاعه.. ألا ترى أن غياب الأفق السياسي يحكم المنطقة بأسرها؟

** هذه المسألة التي تثيرها تتصل بموقع العراق من الخطة السياسية الأميركية في المنطقة. وعندما نتحدث عن العراق من الداخل يتبين لنا أن أميركا ومعها حلفائها أو عملائها في المنطقة لا تملك إلاّ أن تعترف بأن هذا المشروع مطروح قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، وحتى منذ الثمانينيات. فأميركا تعمل الآن بمختلف الوسائل وألوان اللعبة السياسية والاقتصادية لتبقى وحدها الدولة المهيمنة على العالم. وقد صرّح أكثر من مسؤول أميركي بدورها القيادي في العالم اليوم. لذلك فإن ما يجري ينبع من السؤال كيف يمكن ترتيب الشرق الأوسط بما يحقق لها هذه الأهداف؟؟

لا شك في أن أميركا لها عدة أهداف، الأول منها: هو حماية أمن إسرائيل، لأن هذا الأمن يقع في المقدمة الأولى من الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، باعتباره يمثّل سياسة المطلق، إذا كان هناك من سياسة للمطلق.

والهدف الثاني: هو الحصول على مواقع متقدمة للنفوذ الأميركي على جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية. لذلك كانت مسألة احتلال العراق هي من المسائل التي تعتبر المدخل، لا من حيث أن أميركا اقتربت من حدود إيران، إذا كنا نتحدث عن حدود. لأنّ أميركا تحاصر إيران وتحيطها بدول متعاملة معها. فأميركا موجودة في الخليج كله، كما انها موجودة سياسياً وعسكرياً في باكستان وأفغانستان وقد مدت أذرعها إلى منطقة الجمهوريات الإسلامية التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي. وفي تركيا هناك قواعد أميركية. لذلك فإن الحديث عن أن احتلال أميركا للعراق قد جعل إيران في خطر هو غير صحيح. نعم، ربما يقال أن الخطر قد اشتد. لأن أميركا أكملت التطويق جغرافياً لإيران في هذا المجال.

أميركا تحاول أن تفرض نفوذها على المنطقة، ولكن ليس من الضروري أن يكون ذلك من الناحية العسكرية. فأميركا الآن توظف انتصارها الذي جعلها قوة بامتياز كما يقال، من أجل أن تلوح بالعصا لأكثر من دولة في المنطقة. ومن الطبيعي أنها تعمل الآن على تغيير المنطقة الخليجية على أساس أن تمسك بها بشكل مباشر، بعد أن كانت تمسك بها بشكل غير مباشر. أما المسألة التي يبشر بها بوش عن نفسه، وهي مسألة «النبوة»، تقتضي منه أن يحقق رسالته في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، في حقوق الإنسان والديموقراطية ومقاومة الإرهاب وما إلى ذلك. لهذا فإن أميركا تحاول الآن أن تمد يدها لتمارس الضغط هنا وهناك. ولكن ليس هناك من خطر عسكري في المستقبل القريب على الأقل بالنسبة لسوريا ولبنان.

* الاستنتاج توصلت إليه باستبعاد الخطر العسكري على سوريا ولبنان، هل مرده أن رد الفعل لا يهدد الخطة الأميركية؟

أمريكا تريد أن تبرّد الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة

** السياسة السورية تتميز بقدر كبير من الواقعية السياسية التي تحاول أن تحافظ على الخطوط العامة في عناوينها السياسية المبدئية، ولكنها تتحرك على الأرض لتدرس المتغيرات، ولتحرك خطوطها داخل هذه المتغيرات بعيداً عما يلغي خطوطها العامة الأساسية، وبكثير من اللباقة السياسية في هذا المجال. آما قضية لبنان فإن المسألة هي مسألة المقاومة. أتصور أن أميركا ليست في وارد أن تجمع سلاح المقاومة الإسلامية، ولكنها في وارد أن تبرّد الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وهذا أمر حاصل من خلال أن المقاومة الإسلامية بلغت سن الرشد، وأصبحت لا تؤمن بالمغامرة، بل تؤمن بالواقعية في الطريق إلى الهدف. لذلك فإنني لا أتصور أن هناك وضعاً أمنياً أميركياً قريباً، كما أن هذا الأمر ينسحب على إيران أيضاً. ولعلنا لاحظنا في اجتماعات بوش وبوتين وحديثهما المعلن عن مسألة الأسلحة النووية في إيران أو المشاريع النووية على الأصح، أن بوش يقول أننا نريد من إيران أن تضع المفاعلات النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية. وهذا أمر طلبته إيران منذ البداية، وكانت لها تجربة مع بعض الجدل في تفاصيل ذلك. هذا مما يدل على أن أميركا وروسيا وصلتا إلى نوع من التوافق الذي لا يسقط مصالح روسيا في بناء المفاعل النووي في بوشهر الإيرانية وفي التزامها مع أميركا بمنع السلاح النووي.

فلسطين هي الأم

* سماحة السيد، لم تشر إلى فلسطين في عرضك لوضع المنطقة مع أنها في قلب المحنة أكثر من أي وقت مضى؟

** أما فلسطين فهي الأم. إنني أعتبر أنّ فلسطين هي أم المنطقة العربية، ولعل كل ما عرفته المنطقة، بل العالم، وما تعرضت له الدول العربية من ضغوط بهدف تدجينها وإضعافها وزيادتها فشلاً وعجزاً وسقوطاً، وإن كان يهدف إلى احتواء هذه المنطقة في الخطة الأميركية، إلاّ أنه ينطلق من مسألة احتلال إسرائيل لفلسطين. انني أعتقد ان كل هذه الخلفيات وكل التطورات التي مرت على العالم العربي والإسلامي بكل مفاعيلها السلبية من انقلابات عسكرية، ومن فوضى في الأيديولوجيات ومن صراعات داخلية، وحكم ديكتاتوري يتحرك بشكل مقنع تارة، وبشكل سافر طوراً، حتى إنه صادر الشعوب العربية جميعاً، ومنعها من حرياتها ومن إرادتها في تقرير مصيرها.. إن هذا كله انطلق من مخطط اللعبة الدولية، ولا سيما الأميركية، كي تصنع إسرائيل دولتها في ظل غياب عربي، يملك الكثير من الصراخ ومن الانفعال ليتحول إلى ظاهرة صوتية، وليس إلى ظاهرة واقعية.

ولذلك كله، رأينا كيف أن الوضع السياسي في العالم العربي، الذي امتد من خلال الخطوط الدولية، ولا سيما الأميركية، تحرك عندما انطلقت الانتفاضة وانطلقت المقاومة في لبنان. فقد أصبحوا عندها ينادون بالويل والثبور باعتبار أن هؤلاء يمثلون التطرف والفئات التي لا تريد السلم والاستقرار. ثم عندما حدثت حادثة الحادي عشر من أيلول دخل كل هؤلاء في الإرهاب، وتعاونت الدول العربية مع الخطة الأميركية في هذا المجال. ولا تزال الضغوط تتحرك في المسألة الفلسطينية من أجل القضاء على الانتفاضة، وفي لبنان من أجل القضاء على المقاومة.

لم يطرح الرئيس بوش الخطوط التفصيلية لخارطة الطريق بوضوح

ان المسألة في تصوري وأمام ما يسمى بخارطة الطريق، هي أن الرئيس بوش يتحرك في هذه القضية بطريقة ضبابية، لأنه حتى في خارطة الطريق لم يطرح الخطوط التفصيلية بوضوح، ما يجعل كل نقطة فيها قابلة لأكثر من مئة سؤال كما كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يقول عندما يتحدث عن اتفاقية أوسلو. وهذا يفسح المجال لإدخال المسألة الفلسطينية من جديد في المتاهات الإسرائيلية، تبعا للطريقة التي تدير بها الحكومة الإسرائيلية مسألة المفاوضات لتجعل الأمور ضائعة وتفتقد الواقعية.

وعلى ضوء ذلك نؤكد أنّ الخارطة لا تخلو من أحد الأمرين:

الأول: إما أن تكون مجرد واجهة سياسية يراد منها التحريك، من أجل دخول أميركا إلى بلدان العالم العربي سياسيا لتعلن انها تتحمل المسؤولية عن هذه المشكلة التي تحتاج إلى مفاوضات ومفاوضات.

ثانياً: أو أنها تريد أن تسقط الفلسطينيين بالضربة القاضية ليخضعوا لكل ما تريده إسرائيل، وهذا يمثل الاستراتيجية الأميركية التي تعتبر أن المسألة الحيوية عندها هي حماية إسرائيل من كل شيء، حتى من نفسها كما عبر عن ذلك كلينتون.

إننا لا نثق بأميركا ولا نريد أن ندخل في تخوين مسؤول فلسطيني من هنا أو هناك. أتصور أنّ الضغوط التي تشبه الجبال التي تواجه القيادات الفلسطينية تجعل بعض المسؤولين الفلسطينيين في السلطة يفكرون في أن يكونوا واقعيين في حركتهم على الأرض. ولكن لا أتصور أن إسرائيل التي وجدت في أميركا، الدولة التي تملك العالم، وتملكها هي في منطقة الشرق الأوسط، الخادم الذي يخدم استراتيجيتها، ولذلك فإن إسرائيل إذا لم تحصل متغيرات فوق العادة في العالم تضغط عليها، وإذا لم يحدث في العالم العربي والإسلامي ما يضغط عليها، بحيث يشرب حليب السباع بدلاً من حليب الأرانب الذي أدمنه الحكام.. إذا لم يحصل هناك وضع عربي يحرك أوراق الضغط على أميركا قبل إسرائيل، فإنني أتصور أن المسألة ستمتد إلى قرن آخر.

العنف في الإسلام هو عنف دفاعي وٍقائي وليس عنصراً عدوانياً

الضياع والتحديث

* سؤال أخير سماحة السيد: وسط هذا الاحتدام هناك ضياع فكري فالإسلام هو إسلامات.. والحركة القومية في نزاعها، ما هو الخط الفكري التحديثي لمواجهة التحديات؟

** إنني كنت ولا أزال أدعو إلى الحوار بين الإسلاميين في المنطقة الإسلامية من أجل أن نؤسس لأصالة إسلامية يملكها الإسلام في عمقه، وليس شيئا نصنعه. هذا الأمر يتطلب الدراسة الواعية المنفتحة على دور الإسلام في حل مشاكل الإنسان ورفع مستواه، وإعطائه في كل مرحلة الحياة الجديدة. يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. فالدعوة في الإسلام هي دعوة إلى الحياة بكل ما تحمله الحياة من أبعاد وتنوعات. كما أن علينا أن ندرس مسألة العنف والرفق في الإسلام. لأن العنف في الإسلام ليس هو القاعدة، ولكنه الخط الذي أخذ به الإنسان منذ البداية ولا يزال عندما يعيش حالة الدفاع أو الوقاية. لذلك فإن العنف في الإسلام هو عنف دفاعي وٍقائي وليس عنصراً عدوانياً. إنّ علينا أن ندرس ذلك كله، أن ندرس أيضا موقف الإسلام من التحديث، وموقفه من القضايا التي تفرض نفسها علينا كالعولمة، والتنمية، والبيئة وما إلى ذلك من الأمور، حتى ينطلق الإسلام في حركة العصر دون أن يكون بعيدا عن تطلعات الإنسان، وليشارك في قيادة العالم بمفاهيمه الحضارية الأساسية.

إنني أعتقد أن الحوار مع كل الأطياف الإسلامية في مسألة الاجتهاد في فهم الإسلام، هو الذي يمكن أن يصل بنا إلى نتيجة. ولكن هذا، أمام حالة التخلف والخرافة والظلم والضغوط الهائلة التي تتحرك من هنا وهناك ولا سيما في الدوائر التي تفرض التجهيل على الواقع الإسلامي، يحتاج إلى معاناة طويلة. وربما تكون الصدمات التي تحدث من خلال هذه العمليات الإرهابية وما إليها، قد تكون فرصة لتحريك هذا الاتجاه. إننا لا نعتبر أن هناك إسلاميات، بل هناك إسلام واحد يختلف الناس في فهمه.


* مقابلة مع جريدة السفير اللبنانية ، نشرت بتاريخ 4-5-1424هـ الموافق في 4-7- 2003م ضمن مقابلات وتحقيقات امتدت على حلقات .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية