حرب العراق بديل لأفغانستان لتحقيق عنفوان التسلط الأميركي

حرب العراق بديل لأفغانستان لتحقيق عنفوان التسلط الأميركي

أكد العلامة السيد محمد حسين فضل الله، على أنه ليس هناك نظام عالمي جديد، بل واقع عالمي جديد، وأن الذهنية الاستعمارية الإستكبارية مستمرة، وما تغير منها هو الأسلوب فقط.

وقال إنَّ الولايات المتحدة الأميركية بعد إخفاقها في تحقيق عنوان تسلّط القوة الأميركية في أفغانستان، اختارت العراق، ليكون البديل المعنوي الذي يحقق لها ما تريده من إرهاب العالم بقوتها العسكرية التسلطية، الأمر الذي أدى بها إلى أن تخسر بذلك دور «الدولة المنقذة» لمصلحة أوروبا «الاستعمارية» السابقة.

وأشار إلى أن بريطانيا تلعب دور الملحقية السياسية لأمريكا من أجل مصالحها، وأن أميركا بحاجة إليها لإرباك الاتحاد الأوروبي، وأن القوى صاحبة القرار الآن في الدولتين لا ضمير لها، وأن القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية تصنعه الجماعات اليهودية والإنجيليون المتصهينون، وأن الرئيس الأميركي «جورج بوش» ضعيف وعاجز أمام إسرائيل ويخاف منها.

كما ألمح إلى أن المعارضة في الولايات المتحدة الأميركية للحرب على العراق تصبُّ في لعبة الانتخابات الرئاسية القادمة، وهي للحفاظ على صورة الديمقراطية فقط، ولن تؤثر سريعاً على مستقبل «بوش» السياسي، في حين أن هذه المعارضة ستؤثر على مستقبل «بلير» سريعاً.

وأكد على أن خارطة الطريق أدخلت المنطقة في متاهات متعددة، وأن إسرائيل لا تريد أية قوة غيرها في الشرق الأوسط مهما كانت صغيرة، وأن المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين هما نقطتا الضوء في الظلام العربي، وأن الفلسطينيين يواجهون الآن «منفردين» المشاكل التي تواجههم.

وقال إن الصحوة الإسلامية لا تزال تطلق حالة شعورية بالاستنهاض في مواجهة التحديات المفروضة عليها، وإن المؤتمرات القومية والإسلامية تجتمع لإصدار كتب لا لتغيير الواقع، وإن النخب الفكرية تحوّلت إلى مجرد مواقع للتنظير فقط، وإن على علماء المسلمين والمثقفين والعاملين في الحقل السياسي أن يعملوا من أجل تركيز الوحدة الإسلامية لا في الدائرة الإسلامية العامة، بل أن نشتغل في داخل السنة حتى يعيش السنة معنى أن يكون المرء مسلماً سنياً لا سنياً فحسب، وأن نشتغل في داخل الشيعة أن يكون المرء مسلماً شيعياً لا شيعياً فحسب، لينطلق الإسلام في شيعيته وسنيته من موقع الإسلام الذي كان يطهّر كل ما في المذهبية من عناصر خلافية.

وأشار إلى أن الحوار الإسلامي _ المسيحي في لبنان، هو حول المحاصصة الطائفية لا حول الإسلام والمسيحية.

جاء ذلك في حوار شامل خص سماحته «اللواء الإسلامي» به، هذا نصه:

 

بين النسق واللانسق

وقف العالم منذ العام 1991م أمام قضية اجتماعية _ سياسية في الاختيار بين النسق العالمي المتوازن بقواه السياسية، وصورة الفوضى الدولية المتمثلة باللانسق أو الامبراطورية العالمية الجديدة. برأي السيد، ماذا اختار هذا العالم بعد 20 آذار 2003 أو ماذا اختير له؟

- هذه الطروحات تحركت بشكل لا يرتكز على قاعدة واضحة تؤكد وجود خط بياني يمكن أن يحدد ملامح المرحلة المقبلة التي يراد تأسيسها أو إخضاع العالم لها، والعناوين التي طرحت تعبر عن وجود تفاصيل يراد الاستفادة منها هنا وهناك في نطاق المصالح الدولية، ولا سيما المصلحة الأميركية.

إنني أتصور أنه لم يتغير شيء منذ بدايات القرن السابق في كون العالم الثالث، ومنه العالم العربي والإسلامي، لم ينظر إليه من قبل القوى الكبرى كعالم يملك ذاتية ترتكز على التوازن في التفاصيل السياسية والاقتصادية، فهو عالمٌ لا يصلح إلا للاستهلاك لما ينتجه الآخرون، وللاستلاب في ما يخطط له الآخرون، برأيهم، وهذا ما لاحظناه في تنقلات خطط الاستكبار العالمي، وفي مقدمتها أميركا، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعها أوروبا التي تمثل حتى الآن ما يشبه الملحق السياسي والاقتصادي لأميركا.

وأضاف: إن المسألة هي تغيير الأسلوب بحسب تغير موازين القوى مع بقاء الذهنية على حالها، ومن المؤسف أن العالم العربي والإسلامي، ومعه الكثير من دول العالم الثالث، لم يواجه التحدي بالطريقة التي يمكن له فيها أن يثبت تماسكه، ولهذا فإننا نلاحظ أن أغلب الأنظمة سقطت تحت تأثير هذه الضغوط التي فرضتها الدول الكبرى من خلال خلفياتها التي تنطلق من الشركات الاحتكارية التي هي عمق القوة في إدارات هذه الدول ولا سيما الإدارة الأميركية بالذات.

أما الشعوب، فإنها تتنفس، وربما تصرخ وتتحرك، ولكنها بفعل التطورات التي حدثت للعالم وطوَّقت واقع المستضعفين، لم تعد تملك فاعلية في الحركة، لأنها فقدت الموقع القيادي، لأن ما لدينا في الساحة السياسية العامة هو مزق متناثرة من الشخصيات السياسية التي تضع نفسها في موضع القيادة لكنها ليست بهذا المستوى.

لذلك فقد هذا العالم القيادة السياسية، وربما القيادة الروحية التي كانت قد بدأت تنفتح على الوجدان الروحي للإنسان المستضعف، ولعل إيران الخميني في ثورته في أواخر السبعينات أعطى هذا الجو، ولكن دخلت في تفاصيله الكثير من أمراض العالم الثالث المذهبية والعرقية والمناطقية وما إلى ذلك، بحيث جرَّدت هذه الروح إلى حد ما، كما أنه ليست هناك قيادة سياسية حتى على المستوى التعبوي بعد غياب جمال عبد الناصر، الذي قد يناقش الكثيرون سياسته وخلفياته الفكرية، ولكن لا يستطيع أحد أن يناقش في أنه أعطى العالم العربي بالذات، وربما الأفريقي والإسلامي، روحاً جديدة قد لا تكون متجذّرة على مستوى الخطة، لكنها استطاعت أن تخلق مناخاً شعورياً هنا وهناك، مع التحفظات التي يملكها البعض في أنها جعلت العالم يعيش في التجريد بعيداً عن أية خطة في الأرض مما يناقشه فريق هنا وفريق هناك.

نقطتا الضوء في الظلام العربي

وقال: لذلك فإن الشعوب في أكثر تحركاتها لم تملك أي فرصة للتغيير، وهناك موقعان فقط يواجهان حتى الآن الكثير من الجراحات التي تتحرك هنا وهناك، وهما المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين.

إنهما تمثلان نقطة من ضوء في كل هذا الظلام العربي والإسلامي، ولذلك فإن هناك الكثير من عناصر الظلام التي تحاول أن تنفذ داخل هذه النقطة أو داخل تلك النقطة، لكنهما لا يزالان مع كل التعقيدات التي تحيط بهما والتي تتجمع في داخلهما، يمثلان حالة الإسلام التي لا ندري هل تستطيع أن تحرك الشعوب في العمق أم أنها لا تستطيع سوى إيجاد حالة نفسية معنوية قد لا تملك خلال من هذه الظروف أن تتحرك أكثر.

الذهنية الاستبكارية مستمرة

وأكد أن ما يحدث الآن هو امتداد للخطة الاستبكارية «الغربية» إذا أردنا أن نتحدث في العنوان الكبير المتداول عندنا في السياسة، لكن المسألة تكمن في أنه إذا كان هناك نوع من الاختلاف وتصادم المصالح العلني خلال مرحلة الاتحاد السوفياتي، فهل هناك اليوم مثل هذا الاختلاف وتصادم المصالح بين أميركا وأوروبا التي تحاول أن تصنع اتحادها في ظروف صعبة جداً، بالإضافة إلى مصالح الدول الآسيوية كالصين واليابان وغيرها؟؟

وتابع: إنني أعتقد أنه ليس هناك عالم مستقر، حتى أن أميركا التي تعتبر نفسها الآن إمبراطور العالم، لم تستطع أن تدخل في وجدان العالم، بل إن تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية أخرجتها بصورة أكبر من الوجدان السياسي والأخلاقي والاقتصادي، وأصبحت المسألة الموجودة في العالم هي الخوف من أميركا لا محبتها، بالرغم من أن أميركا تبذل الكثير من الجهد ومن خلال الأشخاص الذين يمثلونها في العالم الثالث على مستوى المسؤولية، لكنها لم تستطع أن تحقق دخولها إلى عمق وجدان الإنسان وعكس هذه الصورة.

ولعل من المفارقات التي نلاحظها أنَّ أوروبا التي بدأت تجربة الاستعمار في القرن السابق، والتي كانت حركتها الاستعمارية تدفع الناس لأن يعتبروا أن أميركا تمثِّل الدولة المنقذة، كونها ترفع شعار الحرية وما إلى ذلك، صار العالم الثالث يميل للانفتاح عليها أكثر من الانفتاح على أميركا، بالرغم من أن أوروبا تتحرك مع مصالحها ولا تتحرك لسواد عيون الشعوب.

الواقع الجديد

* وكيف نفسر ذلك؟ وما هو المطلوب من العرب والمسلمين لمواجهة هذه التحديات؟

- أحب دائماً أن أتذكر كلمة دقيقة جداً لشيفارنادزه، الذي هو الآن رئيس جورجيا، وكان وزير خارجية الاتحاد السوفياتي، وكان الناس يتحدثون عن النظام العالمي الجديد، فقال: «إنه ليس هناك من نظام عالمي جديد، بل واقع عالمي جديد»، أي أن هناك تبدلاً في حركة الواقع، لكنَّ النظام هو نفس النظام الذي يخضع لمسألة موازين القوى. لذلك أنا أعتبر أنه حتى الآن، وبعد كل هذه التطورات في مسألة ما حدث في 11 أيلول، وفي احتلال العراق، واحتلال أفغانستان، وما إلى ذلك، لا يزال النظام هو النظام، لكن المسألة أن الظروف التي تمكّن هذا النظام من الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية أصبحت أكبر من الظروف السابقة.

وقال: إن قضيتنا هي أن نفكر في ماذا نصنع، لأننا عادة نفكر في نطاق ما يفكر به الآخرون وما يصنعه الآخرون، وبالتالي المطلوب من كل الشعوب، ولا سيما شعوب العالم العربي والإسلامي، التي تواجه التحديات بشكل مباشر في نفس الخط الفكري والإسلامي الذي تتبناه هذه الشعوب، والتحديات التي تمس الثروات الإسلامية والاستثمارات وما إلى ذلك، هو أن نعرف ماذا نريد لا ما يريده الآخرون لنا، وعندما تعرف ماذا تريد تعرف ماذا يريد الآخرون، تعرف كيف تدخل مع الآخرين في حرب لتأكيد ما تريد أو في التسويات للوصول إلى مسائل قد لا تكون حاسمة ولكنها قريبة من الحسم.

سياسة إسرائيلة لا أمريكية

* هناك مسألة الآن تحرك الضمير الأميركي والديمقراطي في بريطانيا على ما يقال، وهي مسألة أسلحة الدمار الشامل التي كانت التبرير للحرب على العراق. والآن بعد هذه الصحوة الأميركية البريطانية في الرأي العام عندهما، جاء «كولن باول» ليقول إن إزاحة صدام حسين أزاحت أحد التهديدات التي كانت تخيِّم على إسرائيل. فهل ترون أن هذه الحرب التي قامت ستستمر لإزالة كل ما تراه أميركا تهديداً يخيم على إسرائيل؟

- إن أميركا ليس لها سياسة محدَّدة في خصوصياتها الأميركية بالمعنى الشامل لموقعها في العالم، بل إن السياسة الأميركية، ولا سيما في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، هي سياسة إسرائيلية، قد لا تصنع في داخل إسرائيل بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن تصنعها إسرائيل في أميركا التي تمثلها الجماعات اليهودية وما يسمى بالإنجيليين المتصهينين أو المحافظين الجدد.

وقال: لذلك فإننا عندما نتابع حرب العراق، نعود أولاً إلى ما حدث في 11 أيلول، حيث يتذكر الجميع في بلادنا أن الإعلام أشار في خبر خاطف يومها أن اليهود كانوا يعرفون ماذا يحصل في 11 أيلول ولذلك كانوا قد نبهوا كل جماعتهم أن لا يتوجهوا إلى المبنيين، ولكن بسرعة أغلق هذا الملف ولم يسمح لأحد أن يتحدث فيه بعد ذلك، ما يعني أن اليهود هم الذين خططوا مستغلّين بعض المشاعر، أو أنهم سهلوا حصولها إذا كان الإسلاميون هم الذين قاموا بذلك، كما يبدو راجحاً الآن من خلال الكثير من التفاصيل التي جاءت بعد ذلك. لهذا لاحظنا أن اللوبي اليهودي، والذي تعبر عنه إسرائيل في تصريحات مسؤوليها، كانوا يتحدثون عن العراق وإيران ولا زالوا يتحدثون عن سوريا ولبنان، لأن المسألة هي أن إسرائيل لا تريد أن تكون هناك أي قوة سواها في الشرق الأوسط مهما كانت صغيرة، وهذا هو الذي جعلنا نتابع التصريحات الأميركية التي هي امتداد ومحاكاة للتصريحات الإسرائيلية، لنرى أنها تتحدث بنفس اللغة عن أن هناك إرهاباً يشكل خطراً على العالم ومركزه إيران وسوريا، وأن هناك أسلحة دمار شامل تهدد العالم في العراق.

وتابع: لهذا، فقد كانت أميركا من خلال إدارتها تعمل على أساس أن تفتح في العالم ثغرة تتيح لها أن تخطط لأن يسقط العالم تحت تأثير حربها المقبلة، سواء كان ذلك من الناحية العاطفية أو السياسية، وهذا ما حدث بعد 11 أيلول، حيث استطاعت أميركا من خلاله أن تصنع لنفسها دور المأساة بحيث يزحف العالم كله إليها، حتى الذين هم ضدها، لتقديم التعازي أو إبداء الاستعداد للمساعدة.

وأشار إلى أن الحرب على أفغانستان التي أعلنت تحت شعار الحرب على «القاعدة»، والقول بأن «بن لادن» هو الذي يقف وراء ذلك، وأن طالبان عملت على حماية «القاعدة»، كانت المقدمة لحرب العراق التي لم تكن في بداية حرب أفغانستان مطروحة على أساس أنها دولة إرهابية أو تساعد الإرهاب، ولكن المسألة أن أميركا لم تجد في أفغانستان ما يؤكد ما تريده من عنفوان، لأن أفغانستان لا تمثل شيئاً على مستوى الثروات الطبيعية ولا على مستوى الواقع السياسي، ولذلك بدأ التفكير في إيجاد الظروف الملائمة لحرب العراق لتحقيق عنفوان التسلط الأميركي، ولعل المحللين يقولون إن خطة غزو العراق كانت موضوعة منذ الثمانينات وليست جديدة، ولكنها كانت تنتظر الظروف المناسبة، وهكذا طرحت مسألة أسلحة الدمار الشامل عندما تحققت تلك الظروف المنتظرة.

صناعة أميركية

وأضاف: إننا نعرف أن العراق في نظامه السابق كان صناعة أميركية، لأن أميركا أرادت أن تدخل في نطاق السياسة العراقية لتدعم النظام العراقي في مقابل عبد الناصر، وهذا ما لاحظناه عندما طرحت الوحدة العربية وانطلق الشيوعيون ليطرحوا الاتحاد الفيدرالي، وكانت المسألة هي تعقيد العراقيين من عبد الناصر. ونحن نعرف أن العراق في مرحلته تلك لم يكن مع الوحدة وإن كان يرفع شعارها، لأن طبيعة القيادات التي كانت مسيطرة عليه كانت لا تتعاطف مع عبد الناصر، لذلك كانت تلك المرحلة هي مرحلة دخول أميركا على خط السياسة العراقية، لتوظف هذه السياسة في تدمير البنية التحتية للعراق من خلال تدمير المعارضين الإسلاميين والقوميين وما إلى ذلك، ومن خلال إرباك العالم العربي والإسلامي في حرب إيران واجتياح الكويت التي أوحت بها السياسة الأميركية لتحصل على نتائجها المستقبلية في أن تدخل لتحرر الكويت من الاحتلال وتشرعن وجودها العسكري في الخليج. كانت هذه هي المسألة، وبعدها بدأت أميركا في العمل على إسقاط العراق القوي والنظام الذي يحكمه، باعتبار أن وجود عراق قوي لديه هذه الثروات الطبيعية الضخمة والقدرة على إنتاج السلاح النووي وما إلى ذلك، ولديه شعب قوي وكفاءات رائعة، يمكن أن يشكل يوماً خطراً على إسرائيل، سواء سقط النظام أو لم يسقط، لأن القضية هي العراق لا صدام حسين، ولذلك قررت أميركا أن تمسك العراق كله بيديها، فتسيطر على كل العراق حاضراً ومستقبلاً، لتسيطر على كل نفط العراق الذي يعتبر احتياطيه ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم، ولتسيطر على مقدرات العراق، ولتؤسس جيشاً عراقياً ضعيفاً قد ينحصر دوره فقط في حفظ الأمن الداخلي، وسوف تمنع أميركا هذا الجيش من أن يتسلَّح بسلاح استراتيجي فاعل في هذا المجال، وستصوغ العراق صياغةً على صورة مصالحها، ليبدأ هذا العراق بطريقة وبأخرى المشاغبة على المنطقة، وقد لا يكون ذلك بالطريقة التي كان يشاغب فيها النظام السابق على المنطقة، لكنه سيلعب هذا الدور. ولهذا كانت أسلحة الدمار الشامل هي الطعم الذي أريد لحرب السمكة السياسية أن تأكله، وهم يعرفون بأن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل، لأن المسألة هي أن كل نقاط التفتيش السابقة تأكدت من الموضوع، وعرفت أن العراق لم يعد قادراً على أن ينتج أسلحة دمار شامل، ولكن أريد لهذا العنوان أن يعطي أفقاً خيالياً، ليشعر العالم بالرعب من أن أسلحة الدمار الشامل يمكن أن تنتقل إلى أميركا لتدمرها، وأن تؤذي بريطانيا وأوروبا وتشكل خطراً على العالم كله.

وأكد سماحته أن بريطانيا في هذا الموضوع تمثل الملحقية السياسية لأمريكا، لأن حزب العمال كما المحافظين يشعرون بأن قوتهم الاقتصادية والسياسية هي في تحالفهم مع أميركا لا سيما أن أميركا، تحتاج إلى بريطانيا لتربك الاتحاد الأوروبي، كما أربكت العملة الأوروبية الموحدة، وكما أربكت الكثير من خطوات التوحيد في أوروبا.

إنني أتصوَّر أن ما حدث بعد حرب العراق من جدل في أميركا وبريطانيا حول أسلحة الدمار الشامل ليس صحوة ضمير، وإنما يدخل في إطار اللعبة الانتخابية، ولذلك رأينا الشد والجذب هنا وهناك يتحركان لتبرير موقف هنا وآخر هناك، ولتنامي الوعود بأنهم سيعثرون على تلك الأسلحة. وهذا الجدل في اعتقادي قد يساهم في إسقاط بلير، لكنني لا أظن أنه سيترك تأثيراً كبيراً على بوش، لكن العالم الذي تعود على شرعنة الكذب في الحروب، لا يجد أن مثل هذه الكذبة الكبرى يمكن أن تهز نظامه أو أنها تفتح ضوءاً في الضمير.

قد نجد بعض السياسيين أو بعض الصحفيين يتحدثون، لكن هذا يدور في إطار تصوير الديمقراطية في الغرب، بأن من أراد الكلام باستطاعته ذلك، لكن الأمر لن يتجاوز هذه الحدود.

التكتيك والاستراتيجية

* هل ترى أن إعلان شارون عن قيام الدولة اليهودية في اجتماع العقبة، يرتبط بانتهاء الحرب على العراق، التي أزاحت تهديداً كان يخيم على إسرائيل بحسب ما أكده «كولن باول»؟

- شارون مثل أكثر رؤساء إسرائيل الذين يعتبرون أن حرب الانتفاضة هي حرب استقلال، وأن معركة الاستقلال لم تنته بتأسيس الدولة، وأن امتداد الوجود الفلسطيني المقاوم يجعل الدولة تعيش في خطر، لأن الشعب هو الذي يقاوم لا المنظمات، وهو شعب يرفض الاعتراف بإسرائيل.

وتابع: ولذلك فإن «خارطة الطريق» يراد لها تحقيق استراتيجية إسرائيلية مع بعض التجميل لبعض الصور أو بعض العناوين. ونحن نعلم أن اللجنة الرباعية الدولية التي تقودها أميركا حاولت أن تحشر الفلسطينيين في الزاوية، وأن تعطي حرية الحركة لإسرائيل، ولذلك ترى اليوم أن أي حادث يحصل من قبل الفلسطينيين في هذه المرحلة يتم تناوله إعلامياً على المستوى العالمي، بينما كل ما تقوم به إسرائيل من اعتقالات واغتيالات لا نجد له صدى في معظم وسائل الإعلام العالمية.

لقد قلت سابقاً وأكرر، بأن بوش ضعيف عاجز أمام إسرائيل ويخاف منها، لأنه يشعر بأنها قادرة من خلال الجماعات اليهودية في أميركا على إسقاطه، ولذلك رأيناه يلحس توقيعه أكثر من مرة في قضايا الانسحابات وغيرها. من هنا، فإن إسرائيل اليوم تحافظ على خارطة الطريق بتحفظاتها وبتطويقها بكل المفردات الاستراتيجية الإسرائيلية، لكي لا يبقى للفلسطينيين إلا التكتيك الذي هو في خدمة السيناريو الاستراتيجي الإسرائيلي. ولعل المرحلة التي نعيشها الآن هي من أخطر المراحل في القضية الفلسطينية، لأن الفلسطينيين يواجهون المشكلة لوحدهم، يقال لهم اقلعوا شوككم بأظافركم. صحيح أن هناك تأييداً للانتفاضة في إيران وسوريا ولبنان، لكن هذه الدول لا تملك الكثير مما تقدمه للفلسطينيين، وفي المقابل، إذا كان هناك من حديث عن صحوة ضمير أميركية _ بريطانية، فنقول إن القوى التي تملك إصدار القرارات في أميركا وبريطانيا لا ضمير لها.

دور النخب والمرجعيات الروحية

* إذا كان النظام السياسي العربي قاصراً عن المواجهة، فأين دور الشعوب والنخب والمرجعيات الروحية في المواجهة؟

- إنني أزعم أنه منذ مؤتمر مدريد أريد إلغاء العالم العربي، ولذلك لم يسمح للجامعة العربية بالمشاركة ولو كعضو مراقب، وكانت المسألة أن تفاوض كل دولة إسرائيل على حدة. وهكذا أريد للعالم العربي أن يضيع عن المسألة السياسية التي تجمع العرب وتوجد نبضاً عربياً قومياً أو إسلامياً، وهذا ما لاحظناه من خلال الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي وغيرهما.

إن المشكلة التي نواجهها الآن هي أن الأنظمة والحروب الصعبة التي أحاطت بالمنطقة وشغلت ناسها، أوجدت حالة شلل حتى في القيادات الدينية، وأوجدت حالة تراجع في مسألة النخب الفكرية التي تحوَّلت إلى مجرد مواقع تنظير، وأصبحت المؤتمرات القومية وحتى الإسلامية تجتمع لتصدر كتاباً لا لتغير واقعاً، لأنها كفت عن قدرتها على تغيير الواقع، وهكذا في المواقع الدينية، فإن المناخ العام الذي سارت عليه المواقع الأخرى تختصر دورها في الجانب الشرعي، كإصدار الفتاوى في الجوانب الشخصية فقط، ولأن المسألة كذلك، فقد يحدث موقف بين فينة وأخرى من خلال طبيعة شخصية مرجعية دينية هنا وقيادة هناك.

وتابع: لذلك فإننا نلاحظ أن القوى الاستكبارية ومعها أيضاً التيارات التي تحيط بالإسلام والمسلمين، تبادر بكل قسوة إلى ضرب وإسقاط كل شخصية دينية أو جهة يمكن أن تفتح عقول الناس على التغيير وعلى الانتفاضة ضدَّ الواقع الذي يراد فرضه على المنطقة.

إنني لا أتكلم بطريقة التشاؤم واليأس، فأمتنا تختزن الكثير من الطاقات والكثير من المخلصين، ولكن المشكلة أن هناك ستاراً حديدياً يطبق على الأمة من جميع الجهات، وهناك من يحاول أن يفتح ثغرة هنا وثغرة هناك. ولعل مما يقرب الصورة في قضية الستار الحديدي الذي يحيط بالأمة، أن المظاهرات التي كانت تتجمع تأييداً للانتفاضة أو رفضاً للحرب على العراق، لم يكن يسمح لها بالخروج إلى الشارع، بل كانت تبقى ضمن أسوار الجامعة أو بين جدران المساجد أو داخل باحاتها، لأن المطلوب أن يبقى الشعب في سجن كبير لا أن يتنفس في الهواء الطلق، لأنهم يخافون أن يتعوَّد الشعب على الحياة خارج السجن السياسي والأمني ولو للحظات.

ثم أكد أن الأمة في كل تاريخها استطاعت أن تنهض وأن تنطلق، ولكنها تحتاج في هذه المرحلة إلى الصمود كما تحتاج إلى التخطيط لمواجهة المرحلة المقبلة.

الواقع المذهبي

* تحاول الولايات المتحدة الأميركية، تفكيك الأقطار العربية والدول الإسلامية بسلاح «الجمرة الخبيثة»، أي زرع الفتنة المذهبية بين المسلمين السنَّة والمسلمين الشيعة، فما هو تطلعكم المستقبلي لهذه القضية؟

- من الطبيعي أن مسألة إثارة الحساسيات بين السنة والشيعة هي من المسائل التاريخية التي انطلقت من خلال قوى التخلف التي تجعل المسلمين يعيشون في الزنزانة المذهبية على الطريقة الطائفية، وقد كانت لي مداخلة قبل أكثر من ثلاثين سنة حول المذهبية الطائفية والمذهبية الفكرية، فكنت أقول إننا مع المذهبية الفكرية لأنها تمثل غنى في مسار الإسلام، ولكننا لسنا مع المذهبية الطائفية التي هي حالة عشائرية متخلّفة.

وقال: وقد انطلق الاستعمار منذ القرن السابق، في عملية تعميق هذه الحساسيات، وليبرمج هذه الفوارق، بحيث يجعلون المسلمين يركزون على الفواصل ولا يركزون على القواسم المشتركة، مع أن القرآن الكريم أراد من المسلمين أن يركزوا على الكلمة السواء مع أهل الكتاب، باعتبار أن الشعار الإسلامي هو التركيز على مناطق اللقاء، فذلك يساعد على معالجة مواقع الخلاف بروح الوفاق.

وتابع: ولذلك أصبحت الوحدة الإسلامية من الممنوعات السياسية، حتى إن الوحدة الإسلامية السنية والوحدة الإسلامية الشيعية من هذه الممنوعات، ولذلك نجد أن هناك عملاً في داخل السنة وفي داخل الشيعة يحاول من خلاله إثارة الحساسيات داخل كل مجموعة.

ثم أكَّد: إن هناك صراعاً بين المتخلّفين والمتعصبين في العالم الإسلامي وبين المنفتحين، وأتصور أن ما يحدث من بعض الأمور في باكستان وبعض المناطق، هو مظهر من مظاهر التعصب المخصور في دائرة وقد بدأ ينحسر تدريجياً.

وبالنسبة للعراق قال: لا أتصوَّر أن هناك أية فرصة لوجود فتنة شيعية سنية، لأن التاريخ العراقي منذ ما قبل عهد الاستعمار وحتى الآن هو تاريخ الوحدة الوطنية، ولم يحصل يوماً حربٌ بين السنة والشيعة. من الطبيعي أن التعددية تنتج حساسيات، أو أن بعض أوضاع التعصب قد تسيء، ولكنها تبقى في دائرة محصورة، لكننا في الوقت نفسه لن نهوِّن من إمكانية اللعبة السياسية الدولية، ولن نهوِّن من الأفق الضيق الذي تفرضه قوى التخلف. ولذلك فعلى علماء المسلمين والمثقفين والعاملين في الحقل السياسي، أن يعملوا من أجل تركيز الوحدة الإسلامية، لا في الدائرة الإسلامية العامة، بل أن نشتغل في داخل السنة حتى يعيش السنة معنى أن يكون المرء مسلماً سنياً لا سنياً فحسب، وأن نشتغل في داخل الشيعة لأن يكون المرء مسلماً شيعياً لا شيعياً فحسب، لينطلق الإسلام في شيعيته وسنيته من موقع الإسلام الذي يطهر كل ما في المذهبية من عناصر خلافية. وإنني متفائل، لأن الصحوة الإسلامية بالرغم مما يصيبها من جراحات ومن تحديات، لا تزال تطلق حالة شعورية في كل العالم الإسلامي عندما يصاب المسلمون بأي مشكلة، ولا سيما في القضية الفلسطينية.

خريطة طريق المتاهات

* خارطة الطريق أصبحت على قارعة الطريق، فماذا ستحمل برأيكم للبنان؟ وهل ستقضي على مقولة أن الصراع مع اليهودية السياسية هو صراع وجود لا صراع حدود؟

- إنني لا أتصور أن هذه المقولة ستسقط، لأن اليهود في عنصريتهم التي تنعكس على الثقافة والسياسة والاقتصاد والأمن بطريقة وبأخرى، سوف يعلقون هذه الفكرة في وجدان العالم، لأن الفوقية التي يختزنها اليهود في وجدانهم الفكري الذي تحول إلى حالة قومية، هؤلاء مع ما يملكون من النفوذ في العالم، سوف يبقون الصراع، ولكن لا بالطريقة المسلّحة، بل بأكثر من ذلك. ومن الصعب جداً أن نصل إلى مرحلة يكون فيها التلاحم من الداخل بين اليهود وبين العرب والمسلمين، ونحن نقرأ في القرآن {ولتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} والقرآن الكريم وكلام الله سبحانه وتعالى لا يقصد بالعداوة من خلال طبيعة الدين اليهودي، ولكن من خلال الذهنية اليهودية {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} إلى آخر ما هنالك من آيات تكشف عن ذهنيتهم تلك. لذلك أنا أتصور أن خارطة الطريق سوف تؤدي إلى متاهات، ونحن نلاحظ الآن كيف أن الوضع السياسي، بما فيه الأميركي والعربي، يتحرك في اللاموقع، لأن الخطوط التي تتحرك فيها الخريطة خطوط شاحبة يملأها الأميركيون والإسرائيليون ولا يملك أن يملأها العرب، ولذلك سنبقى في المتاهات.

حوار المحاصصة

* هل يمكن للحوار الإسلامي _ المسيحي في لبنان أن يغير برأي سماحتكم في الواقع السياسي اللبناني، والذي يدور في إطار التجاذب المستمر؟

- لقد كنت من أوائل الذين دعوا إلى الحوار الإسلامي _ المسيحي، وقد صدر لي كتاب في «آفاق الحوار الإسلامي _ المسيحي» منذ سنين، ولكن التجربة في لبنان هي أن الحوار الإسلامي _ المسيحي لم يكن حوار الإسلام والمسيحية، وإنما حول المسلمين والمسيحيين في المحاصصة الطائفية، حول ماذا يملك كل فريق منهم في الوظائف والمواقع والقرار الوطني، أما كلمتا المسيحية والإسلام، فليست إلا لافتة لا علاقة لها بما يتحدث المتحاورون حوله، فليس هناك من يحاور حول مسألة اللاهوت أو في مسألة الفوارق بين القيم الإسلامية والقيم المسيحية، إلا في بعض النوادي الثقافية المتخصّصة في هذا المجال.

إنَّ الحوار الإسلامي _ المسيحي بهذه الطريقة قد يخلق مناخاً، لكنه لن يحل مشكلة، لا سيما أن مسألة مواقع المسؤولية في لبنان لا تصنع في لبنان وإنما خارجه، وعلى اللبنانيين أن يتقبلوها بخشوع، لا لأن ذلك هو من خصوصياتهم، لكنهم ارتضوا ذلك، ومن النكت السياسية اللبنانية في أية انتخابات رئاسية الحديث عن «كلمة السر»، وقبلها في أيام حكم الرئيس فؤاد شهاب كانوا يتحدثون عن «الدكتيلو». لذلك لا أتصور أن يؤدي الحوار الإسلامي _ المسيحي إلى نتيجة، لأنه يتحرك في الحلقة المفرغة ويحركه آخرون.

نشرت هذه المقابلة في ملحق جريدة اللواء اللبنانية - اللواء الإسلامي ، بتاريخ 11 جمادى1 1424هـ الموافق 
11 تموز-يوليو 2003م العدد رقم 10833 .

أكد العلامة السيد محمد حسين فضل الله، على أنه ليس هناك نظام عالمي جديد، بل واقع عالمي جديد، وأن الذهنية الاستعمارية الإستكبارية مستمرة، وما تغير منها هو الأسلوب فقط.

وقال إنَّ الولايات المتحدة الأميركية بعد إخفاقها في تحقيق عنوان تسلّط القوة الأميركية في أفغانستان، اختارت العراق، ليكون البديل المعنوي الذي يحقق لها ما تريده من إرهاب العالم بقوتها العسكرية التسلطية، الأمر الذي أدى بها إلى أن تخسر بذلك دور «الدولة المنقذة» لمصلحة أوروبا «الاستعمارية» السابقة.

وأشار إلى أن بريطانيا تلعب دور الملحقية السياسية لأمريكا من أجل مصالحها، وأن أميركا بحاجة إليها لإرباك الاتحاد الأوروبي، وأن القوى صاحبة القرار الآن في الدولتين لا ضمير لها، وأن القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية تصنعه الجماعات اليهودية والإنجيليون المتصهينون، وأن الرئيس الأميركي «جورج بوش» ضعيف وعاجز أمام إسرائيل ويخاف منها.

كما ألمح إلى أن المعارضة في الولايات المتحدة الأميركية للحرب على العراق تصبُّ في لعبة الانتخابات الرئاسية القادمة، وهي للحفاظ على صورة الديمقراطية فقط، ولن تؤثر سريعاً على مستقبل «بوش» السياسي، في حين أن هذه المعارضة ستؤثر على مستقبل «بلير» سريعاً.

وأكد على أن خارطة الطريق أدخلت المنطقة في متاهات متعددة، وأن إسرائيل لا تريد أية قوة غيرها في الشرق الأوسط مهما كانت صغيرة، وأن المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين هما نقطتا الضوء في الظلام العربي، وأن الفلسطينيين يواجهون الآن «منفردين» المشاكل التي تواجههم.

وقال إن الصحوة الإسلامية لا تزال تطلق حالة شعورية بالاستنهاض في مواجهة التحديات المفروضة عليها، وإن المؤتمرات القومية والإسلامية تجتمع لإصدار كتب لا لتغيير الواقع، وإن النخب الفكرية تحوّلت إلى مجرد مواقع للتنظير فقط، وإن على علماء المسلمين والمثقفين والعاملين في الحقل السياسي أن يعملوا من أجل تركيز الوحدة الإسلامية لا في الدائرة الإسلامية العامة، بل أن نشتغل في داخل السنة حتى يعيش السنة معنى أن يكون المرء مسلماً سنياً لا سنياً فحسب، وأن نشتغل في داخل الشيعة أن يكون المرء مسلماً شيعياً لا شيعياً فحسب، لينطلق الإسلام في شيعيته وسنيته من موقع الإسلام الذي كان يطهّر كل ما في المذهبية من عناصر خلافية.

وأشار إلى أن الحوار الإسلامي _ المسيحي في لبنان، هو حول المحاصصة الطائفية لا حول الإسلام والمسيحية.

جاء ذلك في حوار شامل خص سماحته «اللواء الإسلامي» به، هذا نصه:

 

بين النسق واللانسق

وقف العالم منذ العام 1991م أمام قضية اجتماعية _ سياسية في الاختيار بين النسق العالمي المتوازن بقواه السياسية، وصورة الفوضى الدولية المتمثلة باللانسق أو الامبراطورية العالمية الجديدة. برأي السيد، ماذا اختار هذا العالم بعد 20 آذار 2003 أو ماذا اختير له؟

- هذه الطروحات تحركت بشكل لا يرتكز على قاعدة واضحة تؤكد وجود خط بياني يمكن أن يحدد ملامح المرحلة المقبلة التي يراد تأسيسها أو إخضاع العالم لها، والعناوين التي طرحت تعبر عن وجود تفاصيل يراد الاستفادة منها هنا وهناك في نطاق المصالح الدولية، ولا سيما المصلحة الأميركية.

إنني أتصور أنه لم يتغير شيء منذ بدايات القرن السابق في كون العالم الثالث، ومنه العالم العربي والإسلامي، لم ينظر إليه من قبل القوى الكبرى كعالم يملك ذاتية ترتكز على التوازن في التفاصيل السياسية والاقتصادية، فهو عالمٌ لا يصلح إلا للاستهلاك لما ينتجه الآخرون، وللاستلاب في ما يخطط له الآخرون، برأيهم، وهذا ما لاحظناه في تنقلات خطط الاستكبار العالمي، وفي مقدمتها أميركا، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعها أوروبا التي تمثل حتى الآن ما يشبه الملحق السياسي والاقتصادي لأميركا.

وأضاف: إن المسألة هي تغيير الأسلوب بحسب تغير موازين القوى مع بقاء الذهنية على حالها، ومن المؤسف أن العالم العربي والإسلامي، ومعه الكثير من دول العالم الثالث، لم يواجه التحدي بالطريقة التي يمكن له فيها أن يثبت تماسكه، ولهذا فإننا نلاحظ أن أغلب الأنظمة سقطت تحت تأثير هذه الضغوط التي فرضتها الدول الكبرى من خلال خلفياتها التي تنطلق من الشركات الاحتكارية التي هي عمق القوة في إدارات هذه الدول ولا سيما الإدارة الأميركية بالذات.

أما الشعوب، فإنها تتنفس، وربما تصرخ وتتحرك، ولكنها بفعل التطورات التي حدثت للعالم وطوَّقت واقع المستضعفين، لم تعد تملك فاعلية في الحركة، لأنها فقدت الموقع القيادي، لأن ما لدينا في الساحة السياسية العامة هو مزق متناثرة من الشخصيات السياسية التي تضع نفسها في موضع القيادة لكنها ليست بهذا المستوى.

لذلك فقد هذا العالم القيادة السياسية، وربما القيادة الروحية التي كانت قد بدأت تنفتح على الوجدان الروحي للإنسان المستضعف، ولعل إيران الخميني في ثورته في أواخر السبعينات أعطى هذا الجو، ولكن دخلت في تفاصيله الكثير من أمراض العالم الثالث المذهبية والعرقية والمناطقية وما إلى ذلك، بحيث جرَّدت هذه الروح إلى حد ما، كما أنه ليست هناك قيادة سياسية حتى على المستوى التعبوي بعد غياب جمال عبد الناصر، الذي قد يناقش الكثيرون سياسته وخلفياته الفكرية، ولكن لا يستطيع أحد أن يناقش في أنه أعطى العالم العربي بالذات، وربما الأفريقي والإسلامي، روحاً جديدة قد لا تكون متجذّرة على مستوى الخطة، لكنها استطاعت أن تخلق مناخاً شعورياً هنا وهناك، مع التحفظات التي يملكها البعض في أنها جعلت العالم يعيش في التجريد بعيداً عن أية خطة في الأرض مما يناقشه فريق هنا وفريق هناك.

نقطتا الضوء في الظلام العربي

وقال: لذلك فإن الشعوب في أكثر تحركاتها لم تملك أي فرصة للتغيير، وهناك موقعان فقط يواجهان حتى الآن الكثير من الجراحات التي تتحرك هنا وهناك، وهما المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين.

إنهما تمثلان نقطة من ضوء في كل هذا الظلام العربي والإسلامي، ولذلك فإن هناك الكثير من عناصر الظلام التي تحاول أن تنفذ داخل هذه النقطة أو داخل تلك النقطة، لكنهما لا يزالان مع كل التعقيدات التي تحيط بهما والتي تتجمع في داخلهما، يمثلان حالة الإسلام التي لا ندري هل تستطيع أن تحرك الشعوب في العمق أم أنها لا تستطيع سوى إيجاد حالة نفسية معنوية قد لا تملك خلال من هذه الظروف أن تتحرك أكثر.

الذهنية الاستبكارية مستمرة

وأكد أن ما يحدث الآن هو امتداد للخطة الاستبكارية «الغربية» إذا أردنا أن نتحدث في العنوان الكبير المتداول عندنا في السياسة، لكن المسألة تكمن في أنه إذا كان هناك نوع من الاختلاف وتصادم المصالح العلني خلال مرحلة الاتحاد السوفياتي، فهل هناك اليوم مثل هذا الاختلاف وتصادم المصالح بين أميركا وأوروبا التي تحاول أن تصنع اتحادها في ظروف صعبة جداً، بالإضافة إلى مصالح الدول الآسيوية كالصين واليابان وغيرها؟؟

وتابع: إنني أعتقد أنه ليس هناك عالم مستقر، حتى أن أميركا التي تعتبر نفسها الآن إمبراطور العالم، لم تستطع أن تدخل في وجدان العالم، بل إن تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية أخرجتها بصورة أكبر من الوجدان السياسي والأخلاقي والاقتصادي، وأصبحت المسألة الموجودة في العالم هي الخوف من أميركا لا محبتها، بالرغم من أن أميركا تبذل الكثير من الجهد ومن خلال الأشخاص الذين يمثلونها في العالم الثالث على مستوى المسؤولية، لكنها لم تستطع أن تحقق دخولها إلى عمق وجدان الإنسان وعكس هذه الصورة.

ولعل من المفارقات التي نلاحظها أنَّ أوروبا التي بدأت تجربة الاستعمار في القرن السابق، والتي كانت حركتها الاستعمارية تدفع الناس لأن يعتبروا أن أميركا تمثِّل الدولة المنقذة، كونها ترفع شعار الحرية وما إلى ذلك، صار العالم الثالث يميل للانفتاح عليها أكثر من الانفتاح على أميركا، بالرغم من أن أوروبا تتحرك مع مصالحها ولا تتحرك لسواد عيون الشعوب.

الواقع الجديد

* وكيف نفسر ذلك؟ وما هو المطلوب من العرب والمسلمين لمواجهة هذه التحديات؟

- أحب دائماً أن أتذكر كلمة دقيقة جداً لشيفارنادزه، الذي هو الآن رئيس جورجيا، وكان وزير خارجية الاتحاد السوفياتي، وكان الناس يتحدثون عن النظام العالمي الجديد، فقال: «إنه ليس هناك من نظام عالمي جديد، بل واقع عالمي جديد»، أي أن هناك تبدلاً في حركة الواقع، لكنَّ النظام هو نفس النظام الذي يخضع لمسألة موازين القوى. لذلك أنا أعتبر أنه حتى الآن، وبعد كل هذه التطورات في مسألة ما حدث في 11 أيلول، وفي احتلال العراق، واحتلال أفغانستان، وما إلى ذلك، لا يزال النظام هو النظام، لكن المسألة أن الظروف التي تمكّن هذا النظام من الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية أصبحت أكبر من الظروف السابقة.

وقال: إن قضيتنا هي أن نفكر في ماذا نصنع، لأننا عادة نفكر في نطاق ما يفكر به الآخرون وما يصنعه الآخرون، وبالتالي المطلوب من كل الشعوب، ولا سيما شعوب العالم العربي والإسلامي، التي تواجه التحديات بشكل مباشر في نفس الخط الفكري والإسلامي الذي تتبناه هذه الشعوب، والتحديات التي تمس الثروات الإسلامية والاستثمارات وما إلى ذلك، هو أن نعرف ماذا نريد لا ما يريده الآخرون لنا، وعندما تعرف ماذا تريد تعرف ماذا يريد الآخرون، تعرف كيف تدخل مع الآخرين في حرب لتأكيد ما تريد أو في التسويات للوصول إلى مسائل قد لا تكون حاسمة ولكنها قريبة من الحسم.

سياسة إسرائيلة لا أمريكية

* هناك مسألة الآن تحرك الضمير الأميركي والديمقراطي في بريطانيا على ما يقال، وهي مسألة أسلحة الدمار الشامل التي كانت التبرير للحرب على العراق. والآن بعد هذه الصحوة الأميركية البريطانية في الرأي العام عندهما، جاء «كولن باول» ليقول إن إزاحة صدام حسين أزاحت أحد التهديدات التي كانت تخيِّم على إسرائيل. فهل ترون أن هذه الحرب التي قامت ستستمر لإزالة كل ما تراه أميركا تهديداً يخيم على إسرائيل؟

- إن أميركا ليس لها سياسة محدَّدة في خصوصياتها الأميركية بالمعنى الشامل لموقعها في العالم، بل إن السياسة الأميركية، ولا سيما في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، هي سياسة إسرائيلية، قد لا تصنع في داخل إسرائيل بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن تصنعها إسرائيل في أميركا التي تمثلها الجماعات اليهودية وما يسمى بالإنجيليين المتصهينين أو المحافظين الجدد.

وقال: لذلك فإننا عندما نتابع حرب العراق، نعود أولاً إلى ما حدث في 11 أيلول، حيث يتذكر الجميع في بلادنا أن الإعلام أشار في خبر خاطف يومها أن اليهود كانوا يعرفون ماذا يحصل في 11 أيلول ولذلك كانوا قد نبهوا كل جماعتهم أن لا يتوجهوا إلى المبنيين، ولكن بسرعة أغلق هذا الملف ولم يسمح لأحد أن يتحدث فيه بعد ذلك، ما يعني أن اليهود هم الذين خططوا مستغلّين بعض المشاعر، أو أنهم سهلوا حصولها إذا كان الإسلاميون هم الذين قاموا بذلك، كما يبدو راجحاً الآن من خلال الكثير من التفاصيل التي جاءت بعد ذلك. لهذا لاحظنا أن اللوبي اليهودي، والذي تعبر عنه إسرائيل في تصريحات مسؤوليها، كانوا يتحدثون عن العراق وإيران ولا زالوا يتحدثون عن سوريا ولبنان، لأن المسألة هي أن إسرائيل لا تريد أن تكون هناك أي قوة سواها في الشرق الأوسط مهما كانت صغيرة، وهذا هو الذي جعلنا نتابع التصريحات الأميركية التي هي امتداد ومحاكاة للتصريحات الإسرائيلية، لنرى أنها تتحدث بنفس اللغة عن أن هناك إرهاباً يشكل خطراً على العالم ومركزه إيران وسوريا، وأن هناك أسلحة دمار شامل تهدد العالم في العراق.

وتابع: لهذا، فقد كانت أميركا من خلال إدارتها تعمل على أساس أن تفتح في العالم ثغرة تتيح لها أن تخطط لأن يسقط العالم تحت تأثير حربها المقبلة، سواء كان ذلك من الناحية العاطفية أو السياسية، وهذا ما حدث بعد 11 أيلول، حيث استطاعت أميركا من خلاله أن تصنع لنفسها دور المأساة بحيث يزحف العالم كله إليها، حتى الذين هم ضدها، لتقديم التعازي أو إبداء الاستعداد للمساعدة.

وأشار إلى أن الحرب على أفغانستان التي أعلنت تحت شعار الحرب على «القاعدة»، والقول بأن «بن لادن» هو الذي يقف وراء ذلك، وأن طالبان عملت على حماية «القاعدة»، كانت المقدمة لحرب العراق التي لم تكن في بداية حرب أفغانستان مطروحة على أساس أنها دولة إرهابية أو تساعد الإرهاب، ولكن المسألة أن أميركا لم تجد في أفغانستان ما يؤكد ما تريده من عنفوان، لأن أفغانستان لا تمثل شيئاً على مستوى الثروات الطبيعية ولا على مستوى الواقع السياسي، ولذلك بدأ التفكير في إيجاد الظروف الملائمة لحرب العراق لتحقيق عنفوان التسلط الأميركي، ولعل المحللين يقولون إن خطة غزو العراق كانت موضوعة منذ الثمانينات وليست جديدة، ولكنها كانت تنتظر الظروف المناسبة، وهكذا طرحت مسألة أسلحة الدمار الشامل عندما تحققت تلك الظروف المنتظرة.

صناعة أميركية

وأضاف: إننا نعرف أن العراق في نظامه السابق كان صناعة أميركية، لأن أميركا أرادت أن تدخل في نطاق السياسة العراقية لتدعم النظام العراقي في مقابل عبد الناصر، وهذا ما لاحظناه عندما طرحت الوحدة العربية وانطلق الشيوعيون ليطرحوا الاتحاد الفيدرالي، وكانت المسألة هي تعقيد العراقيين من عبد الناصر. ونحن نعرف أن العراق في مرحلته تلك لم يكن مع الوحدة وإن كان يرفع شعارها، لأن طبيعة القيادات التي كانت مسيطرة عليه كانت لا تتعاطف مع عبد الناصر، لذلك كانت تلك المرحلة هي مرحلة دخول أميركا على خط السياسة العراقية، لتوظف هذه السياسة في تدمير البنية التحتية للعراق من خلال تدمير المعارضين الإسلاميين والقوميين وما إلى ذلك، ومن خلال إرباك العالم العربي والإسلامي في حرب إيران واجتياح الكويت التي أوحت بها السياسة الأميركية لتحصل على نتائجها المستقبلية في أن تدخل لتحرر الكويت من الاحتلال وتشرعن وجودها العسكري في الخليج. كانت هذه هي المسألة، وبعدها بدأت أميركا في العمل على إسقاط العراق القوي والنظام الذي يحكمه، باعتبار أن وجود عراق قوي لديه هذه الثروات الطبيعية الضخمة والقدرة على إنتاج السلاح النووي وما إلى ذلك، ولديه شعب قوي وكفاءات رائعة، يمكن أن يشكل يوماً خطراً على إسرائيل، سواء سقط النظام أو لم يسقط، لأن القضية هي العراق لا صدام حسين، ولذلك قررت أميركا أن تمسك العراق كله بيديها، فتسيطر على كل العراق حاضراً ومستقبلاً، لتسيطر على كل نفط العراق الذي يعتبر احتياطيه ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم، ولتسيطر على مقدرات العراق، ولتؤسس جيشاً عراقياً ضعيفاً قد ينحصر دوره فقط في حفظ الأمن الداخلي، وسوف تمنع أميركا هذا الجيش من أن يتسلَّح بسلاح استراتيجي فاعل في هذا المجال، وستصوغ العراق صياغةً على صورة مصالحها، ليبدأ هذا العراق بطريقة وبأخرى المشاغبة على المنطقة، وقد لا يكون ذلك بالطريقة التي كان يشاغب فيها النظام السابق على المنطقة، لكنه سيلعب هذا الدور. ولهذا كانت أسلحة الدمار الشامل هي الطعم الذي أريد لحرب السمكة السياسية أن تأكله، وهم يعرفون بأن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل، لأن المسألة هي أن كل نقاط التفتيش السابقة تأكدت من الموضوع، وعرفت أن العراق لم يعد قادراً على أن ينتج أسلحة دمار شامل، ولكن أريد لهذا العنوان أن يعطي أفقاً خيالياً، ليشعر العالم بالرعب من أن أسلحة الدمار الشامل يمكن أن تنتقل إلى أميركا لتدمرها، وأن تؤذي بريطانيا وأوروبا وتشكل خطراً على العالم كله.

وأكد سماحته أن بريطانيا في هذا الموضوع تمثل الملحقية السياسية لأمريكا، لأن حزب العمال كما المحافظين يشعرون بأن قوتهم الاقتصادية والسياسية هي في تحالفهم مع أميركا لا سيما أن أميركا، تحتاج إلى بريطانيا لتربك الاتحاد الأوروبي، كما أربكت العملة الأوروبية الموحدة، وكما أربكت الكثير من خطوات التوحيد في أوروبا.

إنني أتصوَّر أن ما حدث بعد حرب العراق من جدل في أميركا وبريطانيا حول أسلحة الدمار الشامل ليس صحوة ضمير، وإنما يدخل في إطار اللعبة الانتخابية، ولذلك رأينا الشد والجذب هنا وهناك يتحركان لتبرير موقف هنا وآخر هناك، ولتنامي الوعود بأنهم سيعثرون على تلك الأسلحة. وهذا الجدل في اعتقادي قد يساهم في إسقاط بلير، لكنني لا أظن أنه سيترك تأثيراً كبيراً على بوش، لكن العالم الذي تعود على شرعنة الكذب في الحروب، لا يجد أن مثل هذه الكذبة الكبرى يمكن أن تهز نظامه أو أنها تفتح ضوءاً في الضمير.

قد نجد بعض السياسيين أو بعض الصحفيين يتحدثون، لكن هذا يدور في إطار تصوير الديمقراطية في الغرب، بأن من أراد الكلام باستطاعته ذلك، لكن الأمر لن يتجاوز هذه الحدود.

التكتيك والاستراتيجية

* هل ترى أن إعلان شارون عن قيام الدولة اليهودية في اجتماع العقبة، يرتبط بانتهاء الحرب على العراق، التي أزاحت تهديداً كان يخيم على إسرائيل بحسب ما أكده «كولن باول»؟

- شارون مثل أكثر رؤساء إسرائيل الذين يعتبرون أن حرب الانتفاضة هي حرب استقلال، وأن معركة الاستقلال لم تنته بتأسيس الدولة، وأن امتداد الوجود الفلسطيني المقاوم يجعل الدولة تعيش في خطر، لأن الشعب هو الذي يقاوم لا المنظمات، وهو شعب يرفض الاعتراف بإسرائيل.

وتابع: ولذلك فإن «خارطة الطريق» يراد لها تحقيق استراتيجية إسرائيلية مع بعض التجميل لبعض الصور أو بعض العناوين. ونحن نعلم أن اللجنة الرباعية الدولية التي تقودها أميركا حاولت أن تحشر الفلسطينيين في الزاوية، وأن تعطي حرية الحركة لإسرائيل، ولذلك ترى اليوم أن أي حادث يحصل من قبل الفلسطينيين في هذه المرحلة يتم تناوله إعلامياً على المستوى العالمي، بينما كل ما تقوم به إسرائيل من اعتقالات واغتيالات لا نجد له صدى في معظم وسائل الإعلام العالمية.

لقد قلت سابقاً وأكرر، بأن بوش ضعيف عاجز أمام إسرائيل ويخاف منها، لأنه يشعر بأنها قادرة من خلال الجماعات اليهودية في أميركا على إسقاطه، ولذلك رأيناه يلحس توقيعه أكثر من مرة في قضايا الانسحابات وغيرها. من هنا، فإن إسرائيل اليوم تحافظ على خارطة الطريق بتحفظاتها وبتطويقها بكل المفردات الاستراتيجية الإسرائيلية، لكي لا يبقى للفلسطينيين إلا التكتيك الذي هو في خدمة السيناريو الاستراتيجي الإسرائيلي. ولعل المرحلة التي نعيشها الآن هي من أخطر المراحل في القضية الفلسطينية، لأن الفلسطينيين يواجهون المشكلة لوحدهم، يقال لهم اقلعوا شوككم بأظافركم. صحيح أن هناك تأييداً للانتفاضة في إيران وسوريا ولبنان، لكن هذه الدول لا تملك الكثير مما تقدمه للفلسطينيين، وفي المقابل، إذا كان هناك من حديث عن صحوة ضمير أميركية _ بريطانية، فنقول إن القوى التي تملك إصدار القرارات في أميركا وبريطانيا لا ضمير لها.

دور النخب والمرجعيات الروحية

* إذا كان النظام السياسي العربي قاصراً عن المواجهة، فأين دور الشعوب والنخب والمرجعيات الروحية في المواجهة؟

- إنني أزعم أنه منذ مؤتمر مدريد أريد إلغاء العالم العربي، ولذلك لم يسمح للجامعة العربية بالمشاركة ولو كعضو مراقب، وكانت المسألة أن تفاوض كل دولة إسرائيل على حدة. وهكذا أريد للعالم العربي أن يضيع عن المسألة السياسية التي تجمع العرب وتوجد نبضاً عربياً قومياً أو إسلامياً، وهذا ما لاحظناه من خلال الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي وغيرهما.

إن المشكلة التي نواجهها الآن هي أن الأنظمة والحروب الصعبة التي أحاطت بالمنطقة وشغلت ناسها، أوجدت حالة شلل حتى في القيادات الدينية، وأوجدت حالة تراجع في مسألة النخب الفكرية التي تحوَّلت إلى مجرد مواقع تنظير، وأصبحت المؤتمرات القومية وحتى الإسلامية تجتمع لتصدر كتاباً لا لتغير واقعاً، لأنها كفت عن قدرتها على تغيير الواقع، وهكذا في المواقع الدينية، فإن المناخ العام الذي سارت عليه المواقع الأخرى تختصر دورها في الجانب الشرعي، كإصدار الفتاوى في الجوانب الشخصية فقط، ولأن المسألة كذلك، فقد يحدث موقف بين فينة وأخرى من خلال طبيعة شخصية مرجعية دينية هنا وقيادة هناك.

وتابع: لذلك فإننا نلاحظ أن القوى الاستكبارية ومعها أيضاً التيارات التي تحيط بالإسلام والمسلمين، تبادر بكل قسوة إلى ضرب وإسقاط كل شخصية دينية أو جهة يمكن أن تفتح عقول الناس على التغيير وعلى الانتفاضة ضدَّ الواقع الذي يراد فرضه على المنطقة.

إنني لا أتكلم بطريقة التشاؤم واليأس، فأمتنا تختزن الكثير من الطاقات والكثير من المخلصين، ولكن المشكلة أن هناك ستاراً حديدياً يطبق على الأمة من جميع الجهات، وهناك من يحاول أن يفتح ثغرة هنا وثغرة هناك. ولعل مما يقرب الصورة في قضية الستار الحديدي الذي يحيط بالأمة، أن المظاهرات التي كانت تتجمع تأييداً للانتفاضة أو رفضاً للحرب على العراق، لم يكن يسمح لها بالخروج إلى الشارع، بل كانت تبقى ضمن أسوار الجامعة أو بين جدران المساجد أو داخل باحاتها، لأن المطلوب أن يبقى الشعب في سجن كبير لا أن يتنفس في الهواء الطلق، لأنهم يخافون أن يتعوَّد الشعب على الحياة خارج السجن السياسي والأمني ولو للحظات.

ثم أكد أن الأمة في كل تاريخها استطاعت أن تنهض وأن تنطلق، ولكنها تحتاج في هذه المرحلة إلى الصمود كما تحتاج إلى التخطيط لمواجهة المرحلة المقبلة.

الواقع المذهبي

* تحاول الولايات المتحدة الأميركية، تفكيك الأقطار العربية والدول الإسلامية بسلاح «الجمرة الخبيثة»، أي زرع الفتنة المذهبية بين المسلمين السنَّة والمسلمين الشيعة، فما هو تطلعكم المستقبلي لهذه القضية؟

- من الطبيعي أن مسألة إثارة الحساسيات بين السنة والشيعة هي من المسائل التاريخية التي انطلقت من خلال قوى التخلف التي تجعل المسلمين يعيشون في الزنزانة المذهبية على الطريقة الطائفية، وقد كانت لي مداخلة قبل أكثر من ثلاثين سنة حول المذهبية الطائفية والمذهبية الفكرية، فكنت أقول إننا مع المذهبية الفكرية لأنها تمثل غنى في مسار الإسلام، ولكننا لسنا مع المذهبية الطائفية التي هي حالة عشائرية متخلّفة.

وقال: وقد انطلق الاستعمار منذ القرن السابق، في عملية تعميق هذه الحساسيات، وليبرمج هذه الفوارق، بحيث يجعلون المسلمين يركزون على الفواصل ولا يركزون على القواسم المشتركة، مع أن القرآن الكريم أراد من المسلمين أن يركزوا على الكلمة السواء مع أهل الكتاب، باعتبار أن الشعار الإسلامي هو التركيز على مناطق اللقاء، فذلك يساعد على معالجة مواقع الخلاف بروح الوفاق.

وتابع: ولذلك أصبحت الوحدة الإسلامية من الممنوعات السياسية، حتى إن الوحدة الإسلامية السنية والوحدة الإسلامية الشيعية من هذه الممنوعات، ولذلك نجد أن هناك عملاً في داخل السنة وفي داخل الشيعة يحاول من خلاله إثارة الحساسيات داخل كل مجموعة.

ثم أكَّد: إن هناك صراعاً بين المتخلّفين والمتعصبين في العالم الإسلامي وبين المنفتحين، وأتصور أن ما يحدث من بعض الأمور في باكستان وبعض المناطق، هو مظهر من مظاهر التعصب المخصور في دائرة وقد بدأ ينحسر تدريجياً.

وبالنسبة للعراق قال: لا أتصوَّر أن هناك أية فرصة لوجود فتنة شيعية سنية، لأن التاريخ العراقي منذ ما قبل عهد الاستعمار وحتى الآن هو تاريخ الوحدة الوطنية، ولم يحصل يوماً حربٌ بين السنة والشيعة. من الطبيعي أن التعددية تنتج حساسيات، أو أن بعض أوضاع التعصب قد تسيء، ولكنها تبقى في دائرة محصورة، لكننا في الوقت نفسه لن نهوِّن من إمكانية اللعبة السياسية الدولية، ولن نهوِّن من الأفق الضيق الذي تفرضه قوى التخلف. ولذلك فعلى علماء المسلمين والمثقفين والعاملين في الحقل السياسي، أن يعملوا من أجل تركيز الوحدة الإسلامية، لا في الدائرة الإسلامية العامة، بل أن نشتغل في داخل السنة حتى يعيش السنة معنى أن يكون المرء مسلماً سنياً لا سنياً فحسب، وأن نشتغل في داخل الشيعة لأن يكون المرء مسلماً شيعياً لا شيعياً فحسب، لينطلق الإسلام في شيعيته وسنيته من موقع الإسلام الذي يطهر كل ما في المذهبية من عناصر خلافية. وإنني متفائل، لأن الصحوة الإسلامية بالرغم مما يصيبها من جراحات ومن تحديات، لا تزال تطلق حالة شعورية في كل العالم الإسلامي عندما يصاب المسلمون بأي مشكلة، ولا سيما في القضية الفلسطينية.

خريطة طريق المتاهات

* خارطة الطريق أصبحت على قارعة الطريق، فماذا ستحمل برأيكم للبنان؟ وهل ستقضي على مقولة أن الصراع مع اليهودية السياسية هو صراع وجود لا صراع حدود؟

- إنني لا أتصور أن هذه المقولة ستسقط، لأن اليهود في عنصريتهم التي تنعكس على الثقافة والسياسة والاقتصاد والأمن بطريقة وبأخرى، سوف يعلقون هذه الفكرة في وجدان العالم، لأن الفوقية التي يختزنها اليهود في وجدانهم الفكري الذي تحول إلى حالة قومية، هؤلاء مع ما يملكون من النفوذ في العالم، سوف يبقون الصراع، ولكن لا بالطريقة المسلّحة، بل بأكثر من ذلك. ومن الصعب جداً أن نصل إلى مرحلة يكون فيها التلاحم من الداخل بين اليهود وبين العرب والمسلمين، ونحن نقرأ في القرآن {ولتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} والقرآن الكريم وكلام الله سبحانه وتعالى لا يقصد بالعداوة من خلال طبيعة الدين اليهودي، ولكن من خلال الذهنية اليهودية {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} إلى آخر ما هنالك من آيات تكشف عن ذهنيتهم تلك. لذلك أنا أتصور أن خارطة الطريق سوف تؤدي إلى متاهات، ونحن نلاحظ الآن كيف أن الوضع السياسي، بما فيه الأميركي والعربي، يتحرك في اللاموقع، لأن الخطوط التي تتحرك فيها الخريطة خطوط شاحبة يملأها الأميركيون والإسرائيليون ولا يملك أن يملأها العرب، ولذلك سنبقى في المتاهات.

حوار المحاصصة

* هل يمكن للحوار الإسلامي _ المسيحي في لبنان أن يغير برأي سماحتكم في الواقع السياسي اللبناني، والذي يدور في إطار التجاذب المستمر؟

- لقد كنت من أوائل الذين دعوا إلى الحوار الإسلامي _ المسيحي، وقد صدر لي كتاب في «آفاق الحوار الإسلامي _ المسيحي» منذ سنين، ولكن التجربة في لبنان هي أن الحوار الإسلامي _ المسيحي لم يكن حوار الإسلام والمسيحية، وإنما حول المسلمين والمسيحيين في المحاصصة الطائفية، حول ماذا يملك كل فريق منهم في الوظائف والمواقع والقرار الوطني، أما كلمتا المسيحية والإسلام، فليست إلا لافتة لا علاقة لها بما يتحدث المتحاورون حوله، فليس هناك من يحاور حول مسألة اللاهوت أو في مسألة الفوارق بين القيم الإسلامية والقيم المسيحية، إلا في بعض النوادي الثقافية المتخصّصة في هذا المجال.

إنَّ الحوار الإسلامي _ المسيحي بهذه الطريقة قد يخلق مناخاً، لكنه لن يحل مشكلة، لا سيما أن مسألة مواقع المسؤولية في لبنان لا تصنع في لبنان وإنما خارجه، وعلى اللبنانيين أن يتقبلوها بخشوع، لا لأن ذلك هو من خصوصياتهم، لكنهم ارتضوا ذلك، ومن النكت السياسية اللبنانية في أية انتخابات رئاسية الحديث عن «كلمة السر»، وقبلها في أيام حكم الرئيس فؤاد شهاب كانوا يتحدثون عن «الدكتيلو». لذلك لا أتصور أن يؤدي الحوار الإسلامي _ المسيحي إلى نتيجة، لأنه يتحرك في الحلقة المفرغة ويحركه آخرون.

نشرت هذه المقابلة في ملحق جريدة اللواء اللبنانية - اللواء الإسلامي ، بتاريخ 11 جمادى1 1424هـ الموافق 
11 تموز-يوليو 2003م العدد رقم 10833 .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية