أجرت صحيفة "المجد" الأردنية مقابلةً صحافيةً مع سماحة العلامة المرجع نشرتها بتاريخ 1 ذوالحجة 1423هـ الموافق 2-2-2003م،ومما جاء فيها:
السيد محمد حسين فضل الله، علمٌ من إعلام الإسلام، ومرجع من أكبر مراجعه المعاصرة، ورمز من أكبر رموز الاجتهاد والتجديد في الفكر والفقه الإسلامي.
مؤخراً، لفت الأنظار العربية والإسلامية بشدة حين اختلف مع الكثير من القوى الشيعية والإيرانية حول العدوان الأمريكي المبيت على العراق، حيث أعلن بشجاعة وثبات أن اختلافه مع النظام العراقي لن يحمله على غضِّ الطرف عن العدوان على العراق.
في دمشق، التقينا هذا العلامة اللبناني الكبير، لدى زيارته الأخيرة للعاصمة السورية، وكان هذا الحوار الذي راوح ما بين الديني والسياسي والثقافي..
مواجهة الحرب الإسرائيلية بالمثل:
س: بين الفينة والأخرى، يخرج علينا البعض بمقولة مفادها أن الاستشهاديين هم الذين يعكّرون صفو السلام، وأنه لا بد من لجمهم ليتسنى للفلسطينيين أن يحصلوا على السلام والأرض.. ما ردكم على ذلك؟
ج: إن هؤلاء يعيشون السذاجة التي تبلغ الحدود القصوى من التخلف، لماذا؟ لأن المسألة أن إسرائيل تريد كل فلسطين، وهذه هي استراتيجيتها التوارتية، واستراتيجيتها السياسية، والتي بدأت تظهر في خطاب "شارون" وخطاب "نتنياهو" وخطاب كل الليكود، الذي يلتقي معه حزب العمل في أكثر من جانب. لذلك فالمسألة هي أولاً إن إسرائيل لا تريد سلاماً يفرض عليها أن تعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير، ولو على حساب المبادرة العربية التي قررتها القمة العربية في بيروت.. لذلك، فإن إسرائيل تريد، ومعها أمريكا التي ترعى إسرائيل في تحقيق استراتيجيتها النهائية، أن لا تهدأ الحرب الإسرائيلية الفلسطينية حتى تستكمل إسرائيل استراتيجيتها التي ركزتها، قبل أن تتحول إلى دولة من دول المنطقة.
في ظلِّ هذه الأجواء، تستخدم إسرائيل أحدث الأسلحة الأمريكية، باستعمالها طائرات ال"أف 16" التي لا تستعمل إلا في الحروب الكبرى، واستخدمت كل وسائل التدمير، كالطائرات العمودية، والصواريخ والدبابات، حتى دمرت البنية التحتية الفلسطينية، في حين ليس للفلسطينيين ما يدافعون به عن أنفسهم. وفي هذا المجال، فإن المطلوب إسرائيلياً هو أن يرفع الفلسطينيون أيديهم تحت شعار القبول بالهزيمة.
وإذا كانت المسألة تتّخذ هذا المنحى، فإن العمليات الاستشهادية لم تنطلق لأن الفلسطينيين يريدون قتل أطفال الإسرائيليين، بل لأنهم يريدون أن يقتلوا الأمن الإسرائيلي، ليرفع الأمن الإسرائيلي يده عن الأمن الفلسطيني.. المسألة هي أن هناك جيشاً اسمه الأمن الإسرائيلي، وجيشاً اسمه الأمن الفلسطيني، ولا يملك الأمن الفلسطيني أمام الأسلحة التي يمتلكها الإسرائيلي إلا أجساد أبنائه، لذلك فالمسألة هي مسألة حرب تفرض أسلحتها. وإذا كان يسقط خلالها المدنيون، فقد يقال إنه ليس في إسرائيل مدنيون، بل إن الإسرائيليين عموماً عسكريون ومتعصبون، وهذ ما نلاحظه في الانتخابات حين صبت أغلب أصوات الإسرائيليين لمصلحة الليكود، الذي يواصل دعمه للمستوطنات والمستوطنين، ما يعني أن الشعب الإسرائيلي ينتخب أشرس الجزارين للشعب الفلسطيني.
وإذا كانوا يتحدثون، وكما نسمع من إذاعاتهم، عن مسألة أنّ قتل الأطفال الفلسطينيين خطأ، وكذلك قتل المدنيين خطأ، فإننا لا نعرف كيف يمكن أن يكون قتل المدنيين والأطفال خطاً إذا كنت تستعمل أحدث الأسلحة لاعتقال شخص أو شخصين من مخيم مملوء بالأطفال، أو إذا كنت ترمي القنابل على هذا المخيم أو ذاك المخيم أو تلك المنطقة المأهولة بالناس، ما يؤدي حكماً إلى مقتل الكثيرين، كما حدث في غزة وفي جنين وغيرهما.
إن الإعلام لا يزال يخدم إسرائيل، وليس عندنا إعلام في ذلك المستوى. لذلك نحن نقول إن المسألة هي أن الفلسطينيين يقولون للإسرائيليين اخرجوا من الأراضي المحتلة ولا مشكلة لدينا معكم، ولكنهم يريدون للفلسطينيين أن يعترفوا بالهزيمة، حتى يفاوضوهم من موقع لا يملك الفلسطينيون فيه ورقةً واحدةً يستعملونها في المفاوضات. وإذا عرفنا ان أمريكا تقف مع إسرائيل مائة بالمائة، وإذا عرفنا أن أمريكا لما رأت أنّ الاتحاد الأوروبي يتحدث بطريقة قريبة من التعاطف مع الفلسطينيين، والاتحاد الروسي والأمم المتحدة أيضاً، فإنها عملت على أساس ان تجمع اللجنة الرباعية الدولية بقيادة أمريكية حتى تضبط إيقاع كل هذه المواقع السياسية في العالم، حتى لا يبقى أحد يبدي أي تعاطف مع الفلسطينيين، حتى أن أمريكا عملت على تدجين كل العالم الغربي، وأكثر العالم العربي حتى لا يقوم أي منهما بأي دور فاعل لمساعدة الفلسطينيين.
نعم لحصار أميركا عربياً:
س: الحرب ضد العراق تقرع طبولها، والعدوان أصبح وشيكاً، وأمتنا العربية غارقة في سبات عميق.. ما هو المطلوب من الأمة بنظركم في مواجهة هذه الغطرسة الأمريكية؟
ج: المطلوب من الأمة على أساس {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، أن تملأ كل الشوارع في العالم العربي والإسلامي، بحيث يخرج هذا العالم ليقف ضد هذه الحرب التي لا يراد منها إنقاذ الشعب العراقي، ولكن إنقاذ المصالح الأميركية وإسقاط أي عنفوان عربي لأية دولة عربية، وهذا ما يفسر الحملة الأميركية على بعض دول الخليج المتحالفة معها، ولا نقول المتعاطفة معها. ثم إنه استناداً إلى قول الشاعر: "لا خيل عندك تهديها ولا مال..."، فإن المطلوب أن يثبت العالم العربي والإسلامي أنه مع نفسه، ومع أمته، وأن يقف في مواجهة الخطر بالطريقة التي تشعر فيها أمريكا أنها محاصرة في العالم العربي والإسلامي، لأنها لن تستطيع أن تلغي هذين العالمين.
عندما تكون المسألة في هذا الحجم من الخطر، لا بد من أن يكون لدينا هذا الحجم من التحرك الذي يضغط على الأنظمة لتتوازن مع العقل.
س: نشاهد يومياً اتساع الحركات المناهضة للحرب ضد العراق في الغرب بشكل عام، بينما أمتنا العربية هامدة وحراكها الشعبي في الشارع ما زال ضئيلاً.. لماذا يا ترى؟
ج: في الغرب هناك شعوبٌ حرَّة، وهناك مؤسسات شعبية يخاف منها الحاكمون، لأن الشعب هناك قادرٌ على أن يسقط الحاكمين بمختلف الوسائل من دون اللجوء إلى العنف، أما في العالم العربي، فالحاكمون يسقطون شعوبهم، ويصادرون شعوبهم، ويختصرون شعوبهم في داخل أسمائهم، حتى إنهم يسمون دولهم بأسمائهم أو بأسماء عوائلهم. إن المسألة هي أن أغلب هؤلاء موظفون لدى المخابرات المركزية الأميركية، والموظف لا بد من أن ينفذ كل تعليمات رؤسائه.
س: تصريحات بوش الأخيرة هل تشكل تراجعاً عن مواقفه؟ أم أنها للاستهلاك والتمويه ليتم توجيه ضربة مباغتة للعراق؟
ج: إني اتصور أن هناك مأزقاً أمريكياً في هذه المرحلة، ينطلق من أن أمريكا رفعت شعار تغيير النظام، لأنه نظام ليس له شعبية دولية، ولأن إعطاء العراق المفتشين الدوليين كل شيء، حتى ورقة التوت، بما قد يكشف عن كونه واثقاً من أنه لا يملك أسلحة الدمار الشامل، قد يحرج أمريكا في مجلس الأمن وأمام الدول الأخرى، لذلك بدأت الحديث عن قضية الحل السلمي من خلال فتح اللجوء السياسي للحاكم العراقي، وما إلى ذلك.. إنّ المسألة قد توحي بوجود شيء ما في الأفق، ولا بد أن نراقب.. وإن كانت طبول الحرب لا تزال تقرع بكل قوة.
الحوار مدخل لمعرفة الآخر
س: قضية حوار الثقافات والحضارات والتمازج الثقافي.. هل أنتم من الداعين إليها؟ وهل يمكن أن تتحقق؟ أم لكم رأي آخر؟
ج: من الطبيعي أنه ليس هناك أية حركة إنسانية، في مسار العلاقات بين البشر، يمكن أن تحقِّق أهدافها في المطلق، باعتبار أن ليس في الحياة شيء اسمه المطلق، الله وحده هو المطلق، لذلك، فإن مسألة ان تكون إنساناً اجتماعياً، يفرض عليك أن تكون حوارياً، لأن الحاجات الإنسانية الطبيعية التي يلتقي فيها الإنسان بالإنسان الآخر، تفرض عملية الحوار، باعتبارها أمراً حيوياً يلبي هذه الحاجات، وبذلك يمكن الوصول إلى نتيجة محددة ترضي ما يتطلعان إليه أو ما يحتاجان إليه، والثقافة هي مسألة عقل ينتجه الإنسان أو يحركه، ونحن نعلم أن الإنسان لم يخلقه الله واحداً في تفكيره أو في تجربته أو في حاجاته، فالإنسان عنصر يتأثر بما حوله، وبمن حوله، ومع اختلاف المؤثرات يختلف التأثير بالفكر والعاطفة والشعور، لهذا فإن مسألة أن يلتقي الناس على فكرٍ واحدٍ أو يقتربوا في ما يلتزمونه من أفكار، هي مسألة أن يحرك كل واحد منهم فكره لمعرفة عقل الآخر، ليفكر فيه وليبحث عن مواطن اللقاء ومواطن الاختلاف، وليسجِّل نقطةً سلبيةً هنا ونقطةً إيجابيةً هناك، ليكون الحوار حول نقاط الخلاف، ويكون الجدال من أجل الوصول إلى نتيجة محدَّدة أو الافتراق على نتيجة مختلفة، ولكن مهما كانت المسألة لقاءً أو افتراقاً، فإن قيمة الحوار هو أنه يحقق التفاهم، في مسألة الفهم والإفهام.
ومن الطبيعيّ أنَ هذا التفاهم يقارب بين المشاعر، ويجعل كل طرف يحسُ بالأمن في علاقته مع الطرف الآخر، لأن المشكلة بين الناس في ما يعيشونه من السلبيات، هي المناطق الخفية التي يتمثلها الإنسان لدى الآخر، فإذا إنكشفت هذه المناطق، واستطاعت أن تتمظهر بوضوح، فلن يوجد شيء يخيفني منك أو يخيفك مني، حتى في ما نختلف فيه، لأنني أعرف كيف تفكر حتى في الجوانب المضادة، وتعرف كيف أفكر حتى في هذه الجوانب، ولعل الحديث الشريف المأثور يشير إلى هذه المسألة، في ما روي عن النبي(ص): "لو تكاشفتم لما تدافنتم"، أي لما تقاتلتم ودفن أحدكم الآخر.
لذلك، فأنا أتصور أن الحياة المجتمعية للإنسان، سواء كانت هذه الحياة المجتمعية ضيقة في دائرة معينة أو واسعة بحجم العالم، فإنها تفرض الحوار على الناس، حتى لا تعود الحياة مجرد أرقام منفصلة عن بعضها البعض، بل تكون أرقاماً يتصل بعضها ببعض، وإن كان يفترق بعضها عن البعض الآخر، ولعل أفضل تعبير عن مسألة الحوار هو ما عبّر عنه في بعض المصطلحات الغربية "التفكير بصوت مسموع"، لأن هناك وسيلتين للتفكير، فهناك التفكير الذاتي، وهو الذي يعيش فيه الإنسان الفكر بينه وبين نفسه، أما التفكير بصوت مسموع، فهو أن تفكر مع الآخر، ولا بدّ حينها من أن يسمعك الآخر وأن تسمعه، وهذا هو الحوار.
إنني أعتقد بأن الحوار يقارب بين الثقافات ويعطي نتائج إيجابية، على أساس أنَّ كل ثقافة تتعرف على مفردات الثقافة الأخرى، في الوقت الذي كانت تجهل فيه ذلك، والإنسان عدو ما يجهل. ولعلّنا نلاحظ أن الكثير من المواقف السلبية المضادَّة، والتي قد تتحوَّل إلى مواقف عدوانية، يعود سببها إلى ما يجهله أصحاب فكر معين، أو دين معين عن الآخرين، حيث يتصورونهم بصورة مشوهة أو بصورة تحمل الكثير من عناصر الخطر لحياتهم أو لواقعهم، وهذا هو الذي عاشه الإسلام في مشكلته مع الكثير من مواقع الغرب الذين حملوا عن الإسلام فكرة العدوانية وفكرة الإرهاب، وعدم قبول الآخر، والفكرة الأصولية بالمعنى الذي يعتبر القوة أساس التغيير، ولا يعترف بالآخر وما إلى ذلك.
ولهذا، فإننا دعونا إلى حوار الحضارات، ودعونا إلى الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وبين العلمانيين والدينيين، وبين الغرب والشرق، بالإضافة إلى الحوار بين المسلمين أنفسهم، سواء في الخطين الكبيرين داخل التنوع الإسلامي، أو في داخل كل خط في ما يختلف الناس حوله، لأن ذلك وحده هو ما يصحِّح الفكرة ويوضح الصورة. وإنني أتصور أن الحوار قد استطاع أن يصل إلى نتائج إيجابية، وإن كان على مستوى محدود، لأن التعقيدات السياسية التي تطوِّق هذا الحوار لا تزال تضع الحواجز أمامه، من خلال التخلف الموجود في هذا الموقع أو ذاك، أو من خلال سوء الفهم هنا وهناك، أو من خلال اختلاط المسألة السياسية والأمنية بالمسألة الثقافية.
الحوار خير محصن، ولا مقدَّس فيه، وقد طرحت قبل سنين في إحدى محاضراتي في الجامعة الأميركية في بيروت، أن لا مقدسات في الحوار، وأن الله حاور إبليس كما حاور الملائكة، ولذلك نحن نحاور كل الناس، لنعرّف الناس بالحقيقة كما نفهمها، ونفهم من الناس الآخرين الحقيقة كما يفهمونها.