مختارات
10/03/2015

عوامل القضاء على الدِّين من الدّاخل

عوامل القضاء على الدِّين من الدّاخل

تجتاح العالم الإسلاميّ والعربيّ في وقتنا الرّاهن، موجة من الإرهاب المستشري بِاسْم الدِّين الإسلاميّ وإقامة الخلافة الرَّاشدة، ولم يكن لهذا الإرهاب أيُّ مثيل، بل قد فاق جرائم المغول الَّذين أبادوا الحرث والنَّسل. والفارق الأساس بينهما، أنَّ المغول لم يكونوا من المسلمين، فكلُّ ما عملوه يتحمّلونه هم شخصيّاً، أمّا الإرهاب الجديد، وما يعمله من إبادة للبشر والشَّجر والحجر، فهو باسم الإسلام، وهذه كارثة كبرى، حيث إنَّ أكثر النّاس من غير المسلمين، بل ومن المسلمين أيضاً، تشتبه عليهم أبسط المفاهيم الإسلاميَّة والأخلاقيَّة الّتي جاء بها نبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله(ص)، وهذا قضاء على الإسلام، وهدم له، ومحاربة له باسم الإسلام نفسه.

ومن خلال متابعاتي للنّصوص الدينيَّة في مدرسة أهل البيت(ع)، رأيت بعض النّصوص التي تتحدَّث عن الأحداث المؤلمة في صدر الإسلام، وما يستشرف مما يحدث في المستقبل مشابهة لها. إنّنا نمرّ بمرحلةٍ خطيرةٍ جدّاً تهدِّد العالم الإسلاميّ في وجوده، وتشوِّه الإسلام، وتقضي عليه باسم الدّين، من خلال عوامل عديدة سياسيَّة ودينيَّة ومذهبيَّة واجتماعيَّة.

إنَّ ما تحدَّث به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) عن عوامل القضاء على الدّين، وتحذيره منها قبل 14 قرناً من الزمن، يجمّل لنا الواقع المعاش الّذي نعيشه، مع اختلاف الزّمان ووسائل التكنولوجيا الحديثة، فعن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ(ع)، أنّه كان يَقُولُ: "احْذَرُوا عَلَى‏ دِينِكُمْ‏ ثَلَاثَةً: رَجُلًا قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ عَلَيْهِ بَهْجَتَهُ، اخْتَرَطَ سَيْفَهُ عَلَى جَارِهِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؟قَالَ: الرَّامِي. وَرَجُلًا اسْتَخَفَّتْهُ الْأَحَادِيثُ، كُلَّمَا أُحْدِثَتْ أُحْدُوثَةُ كَذِبٍ، مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا،وَرَجُلًا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ[1] وَكَذَبَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لَا يَنْبَغِي لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ، لَا يَأْمُرُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَتِهِ[2].

في هذا الحديث، ثلاثة عوامل للقضاء على الدِّين من الداخل:

العامل الأوَّل: العقل التّكفيريّ

إنَّ العقل التكفيريَّ لكلِّ من يختلف معه، هو مصيبةٌ عظمى وطامَّةٌ كبرى في القضاء على الدِّين، وتشويه سمعته في داخل المجتمع الإسلاميِّ وخارجه. إنَّ أعداء الدّين الإسلاميّ من اليوم الأوّل لبزوغه، حاولوا أن يفعِّلوا هذا العقل، ويستغلّوا ضعاف العقول بإقناعهم بتكفير كلِّ من يخالفهم في السّياسة والعقيدة والعبادة وغيرها، ويمثِّل لنا ذلك، كلام الإمام أمير المؤمنين(ع) قبل 14 قرناً من الزّمان، وهو يصوّر لنا ما يجري اليوم بكلِّ أبعاده فيما تمارسه (داعش)، وهو رمي الفريق المخالف لهم بالشِّرك بالله سبحانه، وتصوير ذلك بما هبَّ ودبَّ من تصوّراتٍ خاطئةٍ وبدائيَّةٍ مبنيَّةٍ على الجهل، أو تفسيراتٍ خاطئةٍ للنّصوص الدّينيّة، وبما يحلو لهم.

إنَّ العقل التكفيريّ الّذي انتشر اليوم في العالم الإسلاميّ انتشار النّار في الهشيم باسم الدّين وباسم التَّوحيد ومحاربة الشّرك، لم يكن وليد اليوم، بل كما أشار الإمام في المقطع الأوّل من هذه الرواية، كان من القرن الأول الهجري، وكان الهدف الأساس هو الاستيلاء على مقدّرات الأمّة، وأزمّة الأمور فيها، بدعوى حماية الدّين والمقدّسات، وقد مرَّر قادة هؤلاء على عوامّ النَّاس والمنْشَدِّين إلى الدِّين مثل هذه الأفكار، حتى راح الكثير منهم يقتل نفسه مغرَّراً به بما سمع من هذه الأفكار.

هذا في سالف الزّمان. أمّا اليوم، وبعد أن تطوَّرت وسائل التلقين والإغراء والتثقيف، أصبح الفكر التكفيريّ أكثر نفوذاً وخداعاً للنَّاس المتديّنين بفطرتهم، وقد دخلت على الخطِّ الدّول الاستكباريّة العالميَّة وبعض الدّول الإقليميَّة، حيث أصبحت مخابراتها تعمل ليل نهار على تجنيد هؤلاء عن طريق مباشرٍ وغير مباشر، لتدفعهم إلى تفتيت الأمّة وتمزيقها، والقضاء على الإسلام باسم الإسلام.

خلاصة ما تقدَّم من الرّواية، أنّنا إذا حلَّلنا كلام الإمام أمير المؤمنين(ع)، يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

1- إنَّ بعض المتزمّتين الَّذين يقرؤون القرآن بألحان جيّدة، ويحفظونه عن ظهر قلب، ويترنّمون به في صلواتهم وسائر المناسبات، بل تنعكس عليهم بهجته، ويتأثّر السّامع ويتعجّب من ذلك، بما منحهم الله به، كلّ ذلك يصبح خديعةً لسائر الناس، وبالأخصّ الشباب.

2- إنَّ كثيراً من المتديّنين غير الحقيقيّين، لم يكن هذا التديّن أو هذه القراءة أو الحفظ للقرآن، لله، بل لطلب الدّنيا، بل إنّ كلّ تديّن وتخشّع، لم يكن على أصوله، ولم يكن لله، يأتي تأثيره السّلبي.

3- اخترط سيفه؛ وهو كناية عن كلّ آلة حرب، من السّيف أو الرّمح أو الوسائل الحديثة للقتال، من بندقيّةٍ أو آلةٍ تفجيريّة، كالسيارات المفخَّخة والأحزمة الناسفة، لقتل الآخر المخالف، حتى ولو كان جاره أو من أهل دينه ومذهبه، أو طائفته، أو أهل جلدته، أو من المقرَّبين إليه، فالمهمّ أن يحقّق الهدف المخطَّط له.

4- إنَّ السّبب الحقيقيّ الفعّال الَّذي تنخدع به الجماهير، ويقنعهم بالإجرام والمجازر الَّتي يرتكبها هؤلاء المجرمون بحقّ المخالف لهم، هو اتهامهم للآخرين بالشّرك لله سبحانه، وتطبيق هذا العنوان عليهم، وتطبيق آيات الشِّرك والكفر والارتداد في حقِّهم، ويكون الفاعل في نظر السّذّج من الناس، معذوراً أمام الله سبحانه.

إنَّ ما ذكره أمير المؤمنين(ع) قبل هذه المدَّة، نراه منطبقاً تماماً على الواقع المعاش اليوم، والأحداث والمجازر الَّتي يندى لها الجبين، وتسوّد وجه التاريخ، والّتي تجري في العراق وسوريا ولبنان وليبيا ومصر واليمن وأفغانستان وغيرها.

وفي هذه العجالة، لا يمكن لنا أن نناقش هذه الأفكار مناقشةً مستفيضة، ولكن نقول بصورة مختصرة:

1-  إنّ الشّرك لا يمكن معرفته إلا من خلال التّوحيد، فمن لم يعرف التّوحيد، لم يعرف الشّرك.

2- إنَّ الثقافة التوحيديَّة على المستوى الفكريّ والعمليّ الّذي تركه أئمَّة أهل البيت(ع) في خطبهم وأدعيتهم ومناجاتهم ورواياتهم، لهي من أعظم وأكبر التَّوحيد العميق، سواء كان التَّوحيد في العبادة، أو التَّوحيد في الصِّفات أو الأفعال لله سبحانه.

3-  من أمثلة صور التّوحيد الرائع لله سبحانه بعد القرآن الكريم، هي:

أ- أوَّل خطبة من نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين(ع)، الَّتي يعرض فيها صورةً واضحةً عن التّوحيد لله، وأنَّ معرفة الله من أوَّل ما يجب على العبد، ومن أنّ صفاته عين ذاته، وأنَّ وجوده لا عن حدثٍ ولا عدمٍ، وغيرها من أبحاث.

ب- أوّل دعاء من الصَّحيفة السّجادية للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع)، وهو من أعمق الأدعية في هذا المجال.

ج- دعاء كميل بن زياد النَّخعي المرويّ عن أمير المؤمنين(ع)، والَّذي يكرّره ويقرؤه شيعة أهل البيت في ليلة النّصف من شعبان، وفي كلِّ ليلة جمعة.

د- دعاء الإمام الحسين(ع) في يوم عرفة، وهو من الأدعية الّتي يلهج بها ألسنة الملايين يوم عرفة في عرفات وغيرها.

العامل الثاني: التزوير والخرافات باسم الدّين

لقد لعب التَّزوير اللّفظيّ والمعنويّ مفعوله في تغيير المفاهيم الإسلاميَّة ونشرها بين عموم الأمَّة، حتى أصبح الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، بل إنّ  بعض المفاهيم أصبحت تخالف النّصوص القرآنيّة، وتؤوّل تلك النّصوص لصالح بعض المفاهيم أو السّياسات الّتي يراد نشرها، كما أنَّ الخرافات التي يتناقلها السواد الأعظم من النّاس باسم الدين، لا تقلّ خطورةً عن التَّحريف والتزوير، وخصوصاً إذا حصل لها من يروّجها من أهل الاختصاص، فيقول الإمام أمير المؤمنين(ع) في هذا الجانب: "وَرَجُلًا اسْتَخَفَّتْهُ الْأَحَادِيثُ، كُلَّمَا أُحْدِثَتْ أُحْدُوثَةُ كَذِبٍ، مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا".

فعندما يسمع بعض الرجال الكذب من التزوير والخرافات باسم الدين وتعجبه، يطوّرها ويبرّرها، فيمدّها بأطول منها من حيث التنميق والتّحسين، حتى تتحكّم في المجتمع باسم الدين، وأمثلة ذلك بالعشرات، بل المئات، وعلى مختلف الأزمنة والأمكنة والمذاهب.

وهذا يُتصوَّر في الوهلة الأولى من قسمين من الناس:

القسم الأوَّل: ممن يلبس اللّباس الدّيني وينتسب إلى العلماء ورجال الدّين.

والقسم الثاني: من عموم النَّاس.

أمَّا القسم الأوَّل، فإنَّ من أكبر العوامل وأهمّها للقضاء على الدِّين وتشويه صورته، هو نشر التّزوير اللّفظيّ أو المعنويّ باسم الدِّين، وهذا مجال واسع استغلّه الأعداء مثل السّوسة الّتي تقضي على كلِّ شيءٍ تتمكَّن من أكله.

إنَّ العلماء الواعين والمصلحين على مرِّ التّاريخ، قد تصدّوا لمحاربة التّزوير في الدّين وكشف مواطنه، وهذا كثيراً ما كان يقع من بعض من يلبس لباس العلماء ويختلط بهم.

إنَّ حفظ الدِّين وسلامته من التَّحريف والتّزوير اللّفظيّ أو المعنويّ، هي من مهمَّات العلماء الأعلام.

وأمَّا القسم الثاني، فهو بثّ الخرافات الّتي يتداولها سائر النّاس، أو أنصاف الطّلبة والمنخدعة؛ إنَّ خطر هؤلاء على الدّين، والاستخفاف به واحتقاره، وابتعاد الناس عنه، أعظم من خطر كبار الدول التي تتظاهر بالعداء للدّين.

كما أنَّ العلماء الأعلام قد تصدّوا لمحاربة الخرافات التي كثيراً ما تنتشر بين عوام الناس ويصدّقونها على أنها جزء من الدّين. وفي كلٍّ من محاربة التزوير والخرافات، ألّفت المؤلّفات والمقالات الّتي تندِّد بها.

العامل الثالث: دعوى العصمة السّياسيّة

إنَّ ممارسة كثير من الناس في مختلف المجالات، هي إضفاء العصمة عليهم من الناحية العمليَّة، عندما يدَّعون صحّة كلّ ما يصدر عنهم، ويلزمون الآخرين باتباعهم بالترغيب والترهيب، فهذا في الحقيقة دعوى عصمة، وإن لم يصرّحوا بذلك، ومن هؤلاء السلطان، عندما يدّعي أن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين(ع) بقوله: "وَرَجُلًا: آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ، وَكَذَبَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ...".

يتصوَّر الكثير ممن لديه السّلطة السياسيَّة، أنَّ وجود السّلطة تحت يده، تكون عاصمةً له من الانحراف والخطأ والضّلال، وحينئذٍ، يجب على كلِّ أفراد الشّعب ومن تحت يده، وممن يحكمهم بالسّلطة السياسيَّة، أن يسمعوا له ويطيعوه، ليس في الأمور الحياتيّة وما يتّصل بتنظيم الحياة، بل يجب عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه في ما يرتئيه من الدّين والمذهب، وفي الأمور العباديَّة، وذلك أنّه يتصوّر هو وبطانته، أنَّ طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فمن يطعه يطع الله، ومن يعصه يعصِ الله.

إنَّ التاريخ يحدّثنا عن أنّ كثيراً من الدّول كانت تمارس الترغيب والترهيب والاضطهاد على شعوبها، لتحويلهم من عقيدتهم الَّتي كانوا عليها إلى عقيدة السّلطان والحاكم، بحجّة أنها هي العقيدة الصَّحيحة، ومن مذهبهم إلى مذهب السّلطان، أو من فتوى فقهيَّة إلى أخرى، حسب ما يخدم مصالحه السياسيَّة أو ما يرتئيه من عقيدة.

إنَّ الإمام أمير المؤمنين(ع) يشجب مثل هذه الدّعوى، ويراها دعوى باطلة، فإنَّ السّلطة السّياسيَّة في حدِّ ذاتها، تكون تحت يد المؤمن وبعض الأنبياء، كسليمان بن داود(ع)، وتكون تحت الكفار والجبابرة والظلمة، كفرعون وما كان يمارسه، فإنَّ مجرّد التسلّط على الآخرين، وحكمهم في حياتهم الاجتماعيَّة، لا يخوّل له دعوى الخلافة عن الله سبحانه، وأنَّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله.


[1] وفي بعض النّسخ: "ينبغي للمخلوق أن يكون جنّةً لمعصية الله".

[2]  الخصال، ج‏1، ص139، ح 158.


تجتاح العالم الإسلاميّ والعربيّ في وقتنا الرّاهن، موجة من الإرهاب المستشري بِاسْم الدِّين الإسلاميّ وإقامة الخلافة الرَّاشدة، ولم يكن لهذا الإرهاب أيُّ مثيل، بل قد فاق جرائم المغول الَّذين أبادوا الحرث والنَّسل. والفارق الأساس بينهما، أنَّ المغول لم يكونوا من المسلمين، فكلُّ ما عملوه يتحمّلونه هم شخصيّاً، أمّا الإرهاب الجديد، وما يعمله من إبادة للبشر والشَّجر والحجر، فهو باسم الإسلام، وهذه كارثة كبرى، حيث إنَّ أكثر النّاس من غير المسلمين، بل ومن المسلمين أيضاً، تشتبه عليهم أبسط المفاهيم الإسلاميَّة والأخلاقيَّة الّتي جاء بها نبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله(ص)، وهذا قضاء على الإسلام، وهدم له، ومحاربة له باسم الإسلام نفسه.

ومن خلال متابعاتي للنّصوص الدينيَّة في مدرسة أهل البيت(ع)، رأيت بعض النّصوص التي تتحدَّث عن الأحداث المؤلمة في صدر الإسلام، وما يستشرف مما يحدث في المستقبل مشابهة لها. إنّنا نمرّ بمرحلةٍ خطيرةٍ جدّاً تهدِّد العالم الإسلاميّ في وجوده، وتشوِّه الإسلام، وتقضي عليه باسم الدّين، من خلال عوامل عديدة سياسيَّة ودينيَّة ومذهبيَّة واجتماعيَّة.

إنَّ ما تحدَّث به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) عن عوامل القضاء على الدّين، وتحذيره منها قبل 14 قرناً من الزمن، يجمّل لنا الواقع المعاش الّذي نعيشه، مع اختلاف الزّمان ووسائل التكنولوجيا الحديثة، فعن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ(ع)، أنّه كان يَقُولُ: "احْذَرُوا عَلَى‏ دِينِكُمْ‏ ثَلَاثَةً: رَجُلًا قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ عَلَيْهِ بَهْجَتَهُ، اخْتَرَطَ سَيْفَهُ عَلَى جَارِهِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؟قَالَ: الرَّامِي. وَرَجُلًا اسْتَخَفَّتْهُ الْأَحَادِيثُ، كُلَّمَا أُحْدِثَتْ أُحْدُوثَةُ كَذِبٍ، مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا،وَرَجُلًا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ[1] وَكَذَبَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لَا يَنْبَغِي لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ، لَا يَأْمُرُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَتِهِ[2].

في هذا الحديث، ثلاثة عوامل للقضاء على الدِّين من الداخل:

العامل الأوَّل: العقل التّكفيريّ

إنَّ العقل التكفيريَّ لكلِّ من يختلف معه، هو مصيبةٌ عظمى وطامَّةٌ كبرى في القضاء على الدِّين، وتشويه سمعته في داخل المجتمع الإسلاميِّ وخارجه. إنَّ أعداء الدّين الإسلاميّ من اليوم الأوّل لبزوغه، حاولوا أن يفعِّلوا هذا العقل، ويستغلّوا ضعاف العقول بإقناعهم بتكفير كلِّ من يخالفهم في السّياسة والعقيدة والعبادة وغيرها، ويمثِّل لنا ذلك، كلام الإمام أمير المؤمنين(ع) قبل 14 قرناً من الزّمان، وهو يصوّر لنا ما يجري اليوم بكلِّ أبعاده فيما تمارسه (داعش)، وهو رمي الفريق المخالف لهم بالشِّرك بالله سبحانه، وتصوير ذلك بما هبَّ ودبَّ من تصوّراتٍ خاطئةٍ وبدائيَّةٍ مبنيَّةٍ على الجهل، أو تفسيراتٍ خاطئةٍ للنّصوص الدّينيّة، وبما يحلو لهم.

إنَّ العقل التكفيريّ الّذي انتشر اليوم في العالم الإسلاميّ انتشار النّار في الهشيم باسم الدّين وباسم التَّوحيد ومحاربة الشّرك، لم يكن وليد اليوم، بل كما أشار الإمام في المقطع الأوّل من هذه الرواية، كان من القرن الأول الهجري، وكان الهدف الأساس هو الاستيلاء على مقدّرات الأمّة، وأزمّة الأمور فيها، بدعوى حماية الدّين والمقدّسات، وقد مرَّر قادة هؤلاء على عوامّ النَّاس والمنْشَدِّين إلى الدِّين مثل هذه الأفكار، حتى راح الكثير منهم يقتل نفسه مغرَّراً به بما سمع من هذه الأفكار.

هذا في سالف الزّمان. أمّا اليوم، وبعد أن تطوَّرت وسائل التلقين والإغراء والتثقيف، أصبح الفكر التكفيريّ أكثر نفوذاً وخداعاً للنَّاس المتديّنين بفطرتهم، وقد دخلت على الخطِّ الدّول الاستكباريّة العالميَّة وبعض الدّول الإقليميَّة، حيث أصبحت مخابراتها تعمل ليل نهار على تجنيد هؤلاء عن طريق مباشرٍ وغير مباشر، لتدفعهم إلى تفتيت الأمّة وتمزيقها، والقضاء على الإسلام باسم الإسلام.

خلاصة ما تقدَّم من الرّواية، أنّنا إذا حلَّلنا كلام الإمام أمير المؤمنين(ع)، يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

1- إنَّ بعض المتزمّتين الَّذين يقرؤون القرآن بألحان جيّدة، ويحفظونه عن ظهر قلب، ويترنّمون به في صلواتهم وسائر المناسبات، بل تنعكس عليهم بهجته، ويتأثّر السّامع ويتعجّب من ذلك، بما منحهم الله به، كلّ ذلك يصبح خديعةً لسائر الناس، وبالأخصّ الشباب.

2- إنَّ كثيراً من المتديّنين غير الحقيقيّين، لم يكن هذا التديّن أو هذه القراءة أو الحفظ للقرآن، لله، بل لطلب الدّنيا، بل إنّ كلّ تديّن وتخشّع، لم يكن على أصوله، ولم يكن لله، يأتي تأثيره السّلبي.

3- اخترط سيفه؛ وهو كناية عن كلّ آلة حرب، من السّيف أو الرّمح أو الوسائل الحديثة للقتال، من بندقيّةٍ أو آلةٍ تفجيريّة، كالسيارات المفخَّخة والأحزمة الناسفة، لقتل الآخر المخالف، حتى ولو كان جاره أو من أهل دينه ومذهبه، أو طائفته، أو أهل جلدته، أو من المقرَّبين إليه، فالمهمّ أن يحقّق الهدف المخطَّط له.

4- إنَّ السّبب الحقيقيّ الفعّال الَّذي تنخدع به الجماهير، ويقنعهم بالإجرام والمجازر الَّتي يرتكبها هؤلاء المجرمون بحقّ المخالف لهم، هو اتهامهم للآخرين بالشّرك لله سبحانه، وتطبيق هذا العنوان عليهم، وتطبيق آيات الشِّرك والكفر والارتداد في حقِّهم، ويكون الفاعل في نظر السّذّج من الناس، معذوراً أمام الله سبحانه.

إنَّ ما ذكره أمير المؤمنين(ع) قبل هذه المدَّة، نراه منطبقاً تماماً على الواقع المعاش اليوم، والأحداث والمجازر الَّتي يندى لها الجبين، وتسوّد وجه التاريخ، والّتي تجري في العراق وسوريا ولبنان وليبيا ومصر واليمن وأفغانستان وغيرها.

وفي هذه العجالة، لا يمكن لنا أن نناقش هذه الأفكار مناقشةً مستفيضة، ولكن نقول بصورة مختصرة:

1-  إنّ الشّرك لا يمكن معرفته إلا من خلال التّوحيد، فمن لم يعرف التّوحيد، لم يعرف الشّرك.

2- إنَّ الثقافة التوحيديَّة على المستوى الفكريّ والعمليّ الّذي تركه أئمَّة أهل البيت(ع) في خطبهم وأدعيتهم ومناجاتهم ورواياتهم، لهي من أعظم وأكبر التَّوحيد العميق، سواء كان التَّوحيد في العبادة، أو التَّوحيد في الصِّفات أو الأفعال لله سبحانه.

3-  من أمثلة صور التّوحيد الرائع لله سبحانه بعد القرآن الكريم، هي:

أ- أوَّل خطبة من نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين(ع)، الَّتي يعرض فيها صورةً واضحةً عن التّوحيد لله، وأنَّ معرفة الله من أوَّل ما يجب على العبد، ومن أنّ صفاته عين ذاته، وأنَّ وجوده لا عن حدثٍ ولا عدمٍ، وغيرها من أبحاث.

ب- أوّل دعاء من الصَّحيفة السّجادية للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع)، وهو من أعمق الأدعية في هذا المجال.

ج- دعاء كميل بن زياد النَّخعي المرويّ عن أمير المؤمنين(ع)، والَّذي يكرّره ويقرؤه شيعة أهل البيت في ليلة النّصف من شعبان، وفي كلِّ ليلة جمعة.

د- دعاء الإمام الحسين(ع) في يوم عرفة، وهو من الأدعية الّتي يلهج بها ألسنة الملايين يوم عرفة في عرفات وغيرها.

العامل الثاني: التزوير والخرافات باسم الدّين

لقد لعب التَّزوير اللّفظيّ والمعنويّ مفعوله في تغيير المفاهيم الإسلاميَّة ونشرها بين عموم الأمَّة، حتى أصبح الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، بل إنّ  بعض المفاهيم أصبحت تخالف النّصوص القرآنيّة، وتؤوّل تلك النّصوص لصالح بعض المفاهيم أو السّياسات الّتي يراد نشرها، كما أنَّ الخرافات التي يتناقلها السواد الأعظم من النّاس باسم الدين، لا تقلّ خطورةً عن التَّحريف والتزوير، وخصوصاً إذا حصل لها من يروّجها من أهل الاختصاص، فيقول الإمام أمير المؤمنين(ع) في هذا الجانب: "وَرَجُلًا اسْتَخَفَّتْهُ الْأَحَادِيثُ، كُلَّمَا أُحْدِثَتْ أُحْدُوثَةُ كَذِبٍ، مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا".

فعندما يسمع بعض الرجال الكذب من التزوير والخرافات باسم الدين وتعجبه، يطوّرها ويبرّرها، فيمدّها بأطول منها من حيث التنميق والتّحسين، حتى تتحكّم في المجتمع باسم الدين، وأمثلة ذلك بالعشرات، بل المئات، وعلى مختلف الأزمنة والأمكنة والمذاهب.

وهذا يُتصوَّر في الوهلة الأولى من قسمين من الناس:

القسم الأوَّل: ممن يلبس اللّباس الدّيني وينتسب إلى العلماء ورجال الدّين.

والقسم الثاني: من عموم النَّاس.

أمَّا القسم الأوَّل، فإنَّ من أكبر العوامل وأهمّها للقضاء على الدِّين وتشويه صورته، هو نشر التّزوير اللّفظيّ أو المعنويّ باسم الدِّين، وهذا مجال واسع استغلّه الأعداء مثل السّوسة الّتي تقضي على كلِّ شيءٍ تتمكَّن من أكله.

إنَّ العلماء الواعين والمصلحين على مرِّ التّاريخ، قد تصدّوا لمحاربة التّزوير في الدّين وكشف مواطنه، وهذا كثيراً ما كان يقع من بعض من يلبس لباس العلماء ويختلط بهم.

إنَّ حفظ الدِّين وسلامته من التَّحريف والتّزوير اللّفظيّ أو المعنويّ، هي من مهمَّات العلماء الأعلام.

وأمَّا القسم الثاني، فهو بثّ الخرافات الّتي يتداولها سائر النّاس، أو أنصاف الطّلبة والمنخدعة؛ إنَّ خطر هؤلاء على الدّين، والاستخفاف به واحتقاره، وابتعاد الناس عنه، أعظم من خطر كبار الدول التي تتظاهر بالعداء للدّين.

كما أنَّ العلماء الأعلام قد تصدّوا لمحاربة الخرافات التي كثيراً ما تنتشر بين عوام الناس ويصدّقونها على أنها جزء من الدّين. وفي كلٍّ من محاربة التزوير والخرافات، ألّفت المؤلّفات والمقالات الّتي تندِّد بها.

العامل الثالث: دعوى العصمة السّياسيّة

إنَّ ممارسة كثير من الناس في مختلف المجالات، هي إضفاء العصمة عليهم من الناحية العمليَّة، عندما يدَّعون صحّة كلّ ما يصدر عنهم، ويلزمون الآخرين باتباعهم بالترغيب والترهيب، فهذا في الحقيقة دعوى عصمة، وإن لم يصرّحوا بذلك، ومن هؤلاء السلطان، عندما يدّعي أن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين(ع) بقوله: "وَرَجُلًا: آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ، وَكَذَبَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ...".

يتصوَّر الكثير ممن لديه السّلطة السياسيَّة، أنَّ وجود السّلطة تحت يده، تكون عاصمةً له من الانحراف والخطأ والضّلال، وحينئذٍ، يجب على كلِّ أفراد الشّعب ومن تحت يده، وممن يحكمهم بالسّلطة السياسيَّة، أن يسمعوا له ويطيعوه، ليس في الأمور الحياتيّة وما يتّصل بتنظيم الحياة، بل يجب عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه في ما يرتئيه من الدّين والمذهب، وفي الأمور العباديَّة، وذلك أنّه يتصوّر هو وبطانته، أنَّ طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فمن يطعه يطع الله، ومن يعصه يعصِ الله.

إنَّ التاريخ يحدّثنا عن أنّ كثيراً من الدّول كانت تمارس الترغيب والترهيب والاضطهاد على شعوبها، لتحويلهم من عقيدتهم الَّتي كانوا عليها إلى عقيدة السّلطان والحاكم، بحجّة أنها هي العقيدة الصَّحيحة، ومن مذهبهم إلى مذهب السّلطان، أو من فتوى فقهيَّة إلى أخرى، حسب ما يخدم مصالحه السياسيَّة أو ما يرتئيه من عقيدة.

إنَّ الإمام أمير المؤمنين(ع) يشجب مثل هذه الدّعوى، ويراها دعوى باطلة، فإنَّ السّلطة السّياسيَّة في حدِّ ذاتها، تكون تحت يد المؤمن وبعض الأنبياء، كسليمان بن داود(ع)، وتكون تحت الكفار والجبابرة والظلمة، كفرعون وما كان يمارسه، فإنَّ مجرّد التسلّط على الآخرين، وحكمهم في حياتهم الاجتماعيَّة، لا يخوّل له دعوى الخلافة عن الله سبحانه، وأنَّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله.


[1] وفي بعض النّسخ: "ينبغي للمخلوق أن يكون جنّةً لمعصية الله".

[2]  الخصال، ج‏1، ص139، ح 158.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية