{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}.. وهذا نموذجٌ إنسانيٌّ إيماني، يريد القرآن أن يقدّمه لنا عبر ما يمثّله من مواقف في تاريخ العقيدة الإِلهيّة، وحركة الأنبياء وتأثيرها في حياة مجتمعاتهم الكافرة والضالّة، ويضعه في مستوى الظّاهرة البارزة بسبب الموقف الرائع الذي اتخذه في عملية التحدي.
فليس من المستبعد أن ينشأ إنسانٌ مؤمنٌ في مجتمع الكفر بصورةٍ عامّة، ولكنَّ من المستبعد جدّاً أن يكون هذا الإِنسان المؤمن جزءاً من الجهاز الحاكم الذي يرعى حركة الكفر وينمّيها، ويحارب كلّ من يعارضها أو يقف في وجهها، باعتبار أنّ الكفر هو مصدر امتيازات الحكم التي حصل عليها، وبالتالي، فإن سيادة الإيمان في المجتمع تفقده قداسة الشخصيّة وقداسة المركز، وهو أمر نلاحظه في وضعيّة فرعون بالنّسبة إلى مجتمعه، فهو كان يحكم المجتمع من موقع شعور النّاس بقداسته، لأنه يجسّد الألوهيّة أو يحمل جزءاً منها يبرّر مطالبتهم بالخضوع له وتقديسه.
وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرّر أن مؤمن آل فرعون يمثّل ظاهرةً مشرقةً جديرةً بالتأمّل والدرس، وباعثةً على الأمل في ظلمات اليأس، عندما يجد الداعية الأجواء مكفهرّةً أمامه، فإنه سيلتقي أملاً أخضر لظهور وجهٍ جديدٍ غير منتظر، يحمل الرّسالة معه، ويجاهد من أجله، من دون التفات للامتيازات أو الإِغراءات المطروحة أمامه، أو الموجودة لديه.
وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذا المؤمن ـ الظّاهرة بصورة الإنسان الرساليّ الذي يمتلئ قلبه بالحزن على قومه، فتزحف مشاعره على كلماته لتتلمّسها بحذرٍ وهدوءٍ، لتفتح نافذةً على الحقّ هنا أو هناك، وتفسح مجالاً للضوء كي يخترق بعض خيوط الظلام، لينطلق الضياء خطوة خطوة؛ لمعةً في الأعماق، وإشراقةً في الضّمير، قبل أن يشعر جنود الظلام بأن جحافل الفجر تعدّ في مقالع الضّوء أعمدة الشروق.
ثم يندفع في رسالته، وتتصاعد الكلمات بقوّة، وتتفجّر الآلام بحزم، وتنطلق الكلمة الحاسمة، لتكشف عن الحقّ، فيحسم الموقف بالنّداء القويّ الهادر الذي يترك الحذر خلفه، ليستقبل المجابهة بقوَّة.
ولعلّ قيمة هذا المؤمن الكبيرة تتمثّل في هذه الانطلاقة الإيمانيّة التي عاشت في نفسه، فعبّأت داخله بكلّ معاني الحياة الكبيرة، حتى تحوّل إلى إنسانٍ لا يكتفي بالجانب الذّاتي للإيمان الذي يضمن مصيره في الآخرة من دون أن يترك أيَّ أثرٍ حركيٍّ في موقفه تجاه الآخرين، كما هي حال كثير من المؤمنين الذين يشعرون بأنَّ مسؤوليّتهم تجاه الإيمان تنتهي عندما يقومون بما يفرضه عليهم من أعمالٍ وعباداتٍ أو ممارساتٍ فرديّةٍ، لأنّ ذلك هو سبيل النجاة في الآخرة.. أمّا الأعمال التي تُعرِّض الإِنسان للخطر، بفعل واقع المواجهة القويّة للتحدّيات الفكرية والاجتماعية والعسكرية، فليس مما تفرضه عليهم مسؤوليّة الإيمان، فإنّ لتلك الأعمال أهلها وأصحابها.
أمَّا هذا المؤمن، فلم يكتف بهذا الجانب، بل اعتبر الإيمان مسؤوليّة المؤمن، لارتباطه بقضيّة الخلاص الشخصي في الدّنيا والآخرة، وعلاقته بخلاص الآخرين، لأنّ من طبيعة الإيمان، أن يعيش المؤمن ـ في نفسه ـ حركة الرّسالة وامتدادها في حساب المسؤوليّة التي تحوّل كل المؤمنين إلى رُسُلٍ صغار، بحسب طاقتهم وقدرتهم، كما تُحوّل الأقوال والأفعال إلى رسالاتٍ تتحرّك في أكثر من اتجاهٍ، لتلتقي ـ بعد ذلك ـ في نطاق الهدف الواحد الكبير، وهو سعادة الإِنسان في ظلّ شريعة الله ورسالته.
وكان يكتم إيمانه، لا بسبب الخوف، فقد كان، في ما يبدو، يملك الموقع القويَّ الذي يكفل له الحماية من قومه، ولكن كي يحصل على حريّة الحركة في خدمة الرسالة من خلال الإِيحاء بالحياد والاعتدال، إزاء واقع التطرّف المتمثّل في موقف فرعون المتوتر والحاقد ضدّ الرسالة والرسول.. فقد بدأ العمل على تفشيل مخطّطات فرعون ضدّ موسى بهدوء، من خلال نثر الكلمات التي توحي بالتّفكير، وتبعث على اليقظة هنا وهناك، مع هذا الشّخص أو ذاك، ولدى هذه المجموعة أو تلك، حتى لنستطيع أن نرجع إلى تأثيره في موقف فرعون الخائف الذي كان يستجدي تأييد أتباعه لاتخاذ موقفٍ شديدٍ ضدّ موسى، ولكنّه لم يحصل على شيءٍ من ذلك، فقد يظهر لنا، من خلال دراستنا للحوار الذي كان يديره مع قومه، أنه كان يعمل على تفريغ القوّة من الداخل، حتى يرتفع الضغط عن الرسالة من جهة، وتقوى خطوات الرسول من جهة أخرى.. وكان يتابع عمله هذا من موقع القوّة التي يتمتع بها، لا من موقع الضعف، لأننا نلاحظ ـ في ما يأتي من حديث القرآن عنه ـ أنه كان يعبِّر عن رأيه في كثير من المجالات بصراحةٍ وقوةٍ، من غير أن يجابه بأيِّ ردّ، أو محاولة للردّ من أحد.
وقد تحدّث القرآن عن هذا المؤمن وعن مواقفه، في إطار حديثه عن قصّة موسى مع فرعون، حيث نلتقي به في هذا الجوّ الجديد من الحوار الّذي نرى فيه فرعون مجتمعاً بقومه، طالباً منهم إعطاءه الحريّة في قتل موسى، متذرّعاً بالأسباب التي يتذرّع بها الطغاة ـ عادةً ـ للقضاء على خصومهم من أصحاب المبادئ والرّسالات والأفكار الإصلاحيّة، وهي المحافظة على النظام وصلاح أمر البلاد والعباد.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}.. وهذا نموذجٌ إنسانيٌّ إيماني، يريد القرآن أن يقدّمه لنا عبر ما يمثّله من مواقف في تاريخ العقيدة الإِلهيّة، وحركة الأنبياء وتأثيرها في حياة مجتمعاتهم الكافرة والضالّة، ويضعه في مستوى الظّاهرة البارزة بسبب الموقف الرائع الذي اتخذه في عملية التحدي.
فليس من المستبعد أن ينشأ إنسانٌ مؤمنٌ في مجتمع الكفر بصورةٍ عامّة، ولكنَّ من المستبعد جدّاً أن يكون هذا الإِنسان المؤمن جزءاً من الجهاز الحاكم الذي يرعى حركة الكفر وينمّيها، ويحارب كلّ من يعارضها أو يقف في وجهها، باعتبار أنّ الكفر هو مصدر امتيازات الحكم التي حصل عليها، وبالتالي، فإن سيادة الإيمان في المجتمع تفقده قداسة الشخصيّة وقداسة المركز، وهو أمر نلاحظه في وضعيّة فرعون بالنّسبة إلى مجتمعه، فهو كان يحكم المجتمع من موقع شعور النّاس بقداسته، لأنه يجسّد الألوهيّة أو يحمل جزءاً منها يبرّر مطالبتهم بالخضوع له وتقديسه.
وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرّر أن مؤمن آل فرعون يمثّل ظاهرةً مشرقةً جديرةً بالتأمّل والدرس، وباعثةً على الأمل في ظلمات اليأس، عندما يجد الداعية الأجواء مكفهرّةً أمامه، فإنه سيلتقي أملاً أخضر لظهور وجهٍ جديدٍ غير منتظر، يحمل الرّسالة معه، ويجاهد من أجله، من دون التفات للامتيازات أو الإِغراءات المطروحة أمامه، أو الموجودة لديه.
وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذا المؤمن ـ الظّاهرة بصورة الإنسان الرساليّ الذي يمتلئ قلبه بالحزن على قومه، فتزحف مشاعره على كلماته لتتلمّسها بحذرٍ وهدوءٍ، لتفتح نافذةً على الحقّ هنا أو هناك، وتفسح مجالاً للضوء كي يخترق بعض خيوط الظلام، لينطلق الضياء خطوة خطوة؛ لمعةً في الأعماق، وإشراقةً في الضّمير، قبل أن يشعر جنود الظلام بأن جحافل الفجر تعدّ في مقالع الضّوء أعمدة الشروق.
ثم يندفع في رسالته، وتتصاعد الكلمات بقوّة، وتتفجّر الآلام بحزم، وتنطلق الكلمة الحاسمة، لتكشف عن الحقّ، فيحسم الموقف بالنّداء القويّ الهادر الذي يترك الحذر خلفه، ليستقبل المجابهة بقوَّة.
ولعلّ قيمة هذا المؤمن الكبيرة تتمثّل في هذه الانطلاقة الإيمانيّة التي عاشت في نفسه، فعبّأت داخله بكلّ معاني الحياة الكبيرة، حتى تحوّل إلى إنسانٍ لا يكتفي بالجانب الذّاتي للإيمان الذي يضمن مصيره في الآخرة من دون أن يترك أيَّ أثرٍ حركيٍّ في موقفه تجاه الآخرين، كما هي حال كثير من المؤمنين الذين يشعرون بأنَّ مسؤوليّتهم تجاه الإيمان تنتهي عندما يقومون بما يفرضه عليهم من أعمالٍ وعباداتٍ أو ممارساتٍ فرديّةٍ، لأنّ ذلك هو سبيل النجاة في الآخرة.. أمّا الأعمال التي تُعرِّض الإِنسان للخطر، بفعل واقع المواجهة القويّة للتحدّيات الفكرية والاجتماعية والعسكرية، فليس مما تفرضه عليهم مسؤوليّة الإيمان، فإنّ لتلك الأعمال أهلها وأصحابها.
أمَّا هذا المؤمن، فلم يكتف بهذا الجانب، بل اعتبر الإيمان مسؤوليّة المؤمن، لارتباطه بقضيّة الخلاص الشخصي في الدّنيا والآخرة، وعلاقته بخلاص الآخرين، لأنّ من طبيعة الإيمان، أن يعيش المؤمن ـ في نفسه ـ حركة الرّسالة وامتدادها في حساب المسؤوليّة التي تحوّل كل المؤمنين إلى رُسُلٍ صغار، بحسب طاقتهم وقدرتهم، كما تُحوّل الأقوال والأفعال إلى رسالاتٍ تتحرّك في أكثر من اتجاهٍ، لتلتقي ـ بعد ذلك ـ في نطاق الهدف الواحد الكبير، وهو سعادة الإِنسان في ظلّ شريعة الله ورسالته.
وكان يكتم إيمانه، لا بسبب الخوف، فقد كان، في ما يبدو، يملك الموقع القويَّ الذي يكفل له الحماية من قومه، ولكن كي يحصل على حريّة الحركة في خدمة الرسالة من خلال الإِيحاء بالحياد والاعتدال، إزاء واقع التطرّف المتمثّل في موقف فرعون المتوتر والحاقد ضدّ الرسالة والرسول.. فقد بدأ العمل على تفشيل مخطّطات فرعون ضدّ موسى بهدوء، من خلال نثر الكلمات التي توحي بالتّفكير، وتبعث على اليقظة هنا وهناك، مع هذا الشّخص أو ذاك، ولدى هذه المجموعة أو تلك، حتى لنستطيع أن نرجع إلى تأثيره في موقف فرعون الخائف الذي كان يستجدي تأييد أتباعه لاتخاذ موقفٍ شديدٍ ضدّ موسى، ولكنّه لم يحصل على شيءٍ من ذلك، فقد يظهر لنا، من خلال دراستنا للحوار الذي كان يديره مع قومه، أنه كان يعمل على تفريغ القوّة من الداخل، حتى يرتفع الضغط عن الرسالة من جهة، وتقوى خطوات الرسول من جهة أخرى.. وكان يتابع عمله هذا من موقع القوّة التي يتمتع بها، لا من موقع الضعف، لأننا نلاحظ ـ في ما يأتي من حديث القرآن عنه ـ أنه كان يعبِّر عن رأيه في كثير من المجالات بصراحةٍ وقوةٍ، من غير أن يجابه بأيِّ ردّ، أو محاولة للردّ من أحد.
وقد تحدّث القرآن عن هذا المؤمن وعن مواقفه، في إطار حديثه عن قصّة موسى مع فرعون، حيث نلتقي به في هذا الجوّ الجديد من الحوار الّذي نرى فيه فرعون مجتمعاً بقومه، طالباً منهم إعطاءه الحريّة في قتل موسى، متذرّعاً بالأسباب التي يتذرّع بها الطغاة ـ عادةً ـ للقضاء على خصومهم من أصحاب المبادئ والرّسالات والأفكار الإصلاحيّة، وهي المحافظة على النظام وصلاح أمر البلاد والعباد.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".