لم تأتِ رؤية السيد فضل الله (قده) في مسألة الصحابة في صورة فكرة عابرة، بل هي مفردة في سياق مجموعة من الأفكار والقضايا التي تبنَّاها سماحته (قده) وهو يحمل همّ الإصلاح باكراً. وهو يعني - فيما يعني - إعادة ترتيب الأولويّات التي ينبغي لهذه الأمّة تبنّيها لتصنع نهضتها، وقد يتطلّب ذلك هدم بعض المقولات، وهو الّذي كان على وعي تامّ - وهو وعي يصل إلى حدّ الظاهرة في خطابه - بأنّ أيّ مشروع نهضة، لا يكتب له النّجاح والتقدّم ما لم يتبنَّ النقد؛ فهو أساس قيامه وقيامته، لأنّه لا ينبت من فراغ، ولا يسير في فضاء، وما حركة النبوّة الممتدّة عبر التاريخ، والماثلة في فكر السيّد ووجدانه، إلا صورةً من صور الهدم والبناء.
وإذا ما شئنا البحث عن أهمِّ الرّكائز التي شكّلت مرجعيّةً لرؤية العلامة الفقيه السيّد فضل الله (ره)، وكانت المنبع الأساس التي استقت عناصرها منها، واشتقّت منها معالمها، وشقَّت طريقها وأسلوبها في ضوئها، فمن أهمّها الرّكيزتان الآتيتان:
أوّلاً: الرّكيزة الأولى: القرآن هو المحور:
قارب السيّد فضل الله (ره) الكثير من القضايا التي كانت محلّ خلاف بين المسلمين، ومن تلك القضايا (قضية الصحابة)، وهو يعلم ما آلت إليه، إذ تحوَّلت من مسارها الطبيعي كقضيّة لها حيثيّة تاريخيّة، فتبحث على النحو الذي يقتضيه البحث في التاريخ، ولها حيثيّة تتصل بالتّشريع، فتبحث وفقاً للقواعد والموازين المناسبتين لتلك الحيثيّة، تحوّلت من ذلك إلى قضية تقاذف وصراع ملأ فضاء المسلمين بغبار كثيف من المقولات والأدبيات و"المرويات"، فحجبت الرّؤية، وتسمّر كلّ فريق على مواقف لم يخضعها لمراجعة واجتهاد على أساس علمي.
واستفاد من ذلك المغرضون وأهل السّلطة؛ فوجدوا فيها مادةً دسمةً تخدم مصالحهم وأهدافهم، فزادوا الطّين بلّة، وكان لهم في كلّ مراحل التاريخ الإسلامي المليء بالصّراع والانقسامات السياسية آذانٌ صاغية من "أهل العلم والدين"، فحرَّفوها عن مسارها، وصبغوا ما تهوى أنفسهم ومن يقف وراءهم بصبغة الدين والمذهب، فأشعلوها فتنةً، ونصبوها معلماً على أساسه تحدَّد الهويات.
وهذا ما كان محلَّ رفض من السيّد فضل الله (قده)، فلم يقبل الخضوع للغة الصراع السائدة، والتي كاد الخروج عنها يصبح مداناً، وأصبحت محلّ حماية ورعاية بحكم عوامل مختلفة، فتجنَّبها وابتعد عن قاموسها.
وأكبر شاهدٍ على ذلك، وبلغة تسير على خطى القرآن وهديه، وترشف من معين وحيه، بعيدةٍ من عقدة التقديس والتدنيس، و«العقيدة» المغلقة على صور استُكملت عناصرها من خارج النصّ وظرف نزوله، واختلف لونها باختلاف لون راسمها المذهبي واتجاهه السياسي، صورةُ الصحابة في (من وحي القرآن)، فهم محلُّ تبجيلٍ وتقديرٍ، لما ذكره القرآن في حقهم، ووفقاً لموازينه، بل إنّ الآيات التي نزلت فيهم وتصف حياتهم وتجربتهم، بما لها من صلة بالرسول وحركة الرسالة، في مواقع مختلفة، لم يحبسها السيّد فضل الله في حيّزها التاريخي، بل انتزع منها روحها ورحيقها، ليقدِّمها إلى الجيل الحاضر ليستفيدوا منها، فيتجنَّبوا مواقع الضّعف فلا يقعوا فيها، ويحرصوا على مواقع القوَّة فيتخذوا منها مثالاً وقدوة، لافتاً إلى أنّ القرآن لم يحدّثنا عن التاريخ من موقع المؤرّخ، بل استهدف أن يقدّم في ذلك العبرة والخبرة، فلكلّ زمن تحدياته التي تختلف في بعض التّفاصيل، إلا أنّها تلتقي في كثير من الظّروف، ويبقى الإنسان هو الإنسان.
فالصحابة في رؤية العلامة فضل الله بشر متفاوتون، بل قد يكون لكلٍّ منهم حال مختلفة في حياته. وهذه الصّورة ليست صورةً توفيقيةً تلفيقيةً مخترعة أو مقترحة، يقدمها لفكّ اشتباك وتعويماً لمنطق المصالحة، بل هي صورة قرآنية تبتعد عن صورة التقديس المحبوكة من خيط الصحبة المعقود على مجرد الرؤية واللّقيا، فهي حبل الخلاص والغفران، وهو تكريس خطير لا ينسجم مع القرآن الذي جعل الميزان الإيمان المقرون بعمل الصالحات، وإن كان ليس لأحد أن يغلق باب التوبة في وجه من عصى، ولا يحبس المغفرة والعفو عمّن يشاء الله له ذلك.
ثانياً: الرّكيزة الثانية: الوحدة الإسلاميّة:
إنّ الوحدة الإسلاميّة في رؤية السيّد فضل الله(ره) مبدأ قرآني، وليست مجرّد شعارٍ يُرفع في اللّحظة الأخيرة قبل السقوط في الهاوية، وحين نستشعر حدوث زلزال، يدكُّ "قصورنا" المغلقة ببيت العنكبوت.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران: 103).
{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: 46).
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء: 92).
وهو مبدأ تبنَّاه (قده)، وبنى عليه مواقفه منذ بداية حركته ونفرته وانطلاقه في ساحة العمل الإسلامي والدعوة، وهي بداية مبكرة في عمره، فكان هذا المبدأ حاضراً في شعره وتفسيره وفقهه وعلاقاته... وهو لم يخرج عنه حين يكون بعيداً عن الأضواء، بل إنّه تعبَّد به في الدوائر الضيّقة التي يباح فيها "ما يحرم" أمام عموم النّاس.
وقد أكَّد تمسّكه بهذا المبدأ، وعيُه العميق، ومعرفته الواسعة بمصادر الخطر على هذه الأمّة، وما يحاك لها من مؤامرات، فوقف في وجهها، ولم يقبل أن يكون في الأمّة من يكشف ظهرها لعدوّها، ولو باسم الانتصار للمذهب في العناوين الضيّقة، ومهما كان موقعه، ومن أيّ مذهب كان؛ لأنّ ذلك مخالف لما يصدح به القرآن، ولأنَّ أيّ صراع داخلي لن "يربح" فيه أيّ طرف من أطرافه، ومن ورائه أو من ورائهم عدوّ {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}(الكهف: 79)، ويتربّص بهم السوء، بمقدار ما سيربح العدوّ الذي يرى في ذلك مادة استثمار تحقّق له القدر الأكبر من المصالح على حساب أطراف الصّراع.
وما الخلاف في الصحابة في نظره إلا مادّةً دسمة، وهو خلاف ترتفع قيمة أسهمه، ويزداد حضورها والإقبال عليها، كلّما كانت الساحة الإسلاميّة مستهدفةً بمشروع يصبُّ في صالح القوى الكبرى، التي تعتمد الأسلوب نفسه في الاستثمار في ساحة ثانية ذات خصائص مختلفة عن الساحة الإسلاميّة، فتمهّد لمشروعها باستثارة خلاف عرقي أو قبلي... إلخ.
ولهذا، لم يكتف (ره) بما قدَّمه - وهو كثير - من نشر قيم التّسامح، وإشاعة الحوار، وإفشاء المحبّة والوحدة، والتّنظير لها إسلامياً وإنسانياً، بل اتخذ موقفاً واضحاً لا لبس فيه، وهو يعرف تمام المعرفة أنَّ ذلك سيحمّله ضرائب {لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ}(القصص: 76)، وسيأكل من كتفه الأقربون، فأفتى - وكان السبَّاق إلى ذلك - بحرمة سبّ الصّحابة وشتمهم ولعنهم، باعتبار استحالة اللّعن - عرفاً - إلى السّبّ، متمسّكاً في ذلك بوجوب الامتناع "عن فعل وقول ما يضرُّ بوحدة المسلمين وتناصرهم وتعاونهم على الخير"، ومستنداً إلى نهيه تعالى في كتابه المجيد عن سبّ الكافرين الذين يعبدون الأصنام، وذلك احترازاً من ردّ فعلهم بسبّ الله تعالى عدواً بغير علم، فما بالك بالمسلمين الذين نتوافق معهم على جلّ العقائد والأحكام، والذين نعيش وإيّاهم هموماً واحدة ومصيراً واحداً؟! فإنّ الواجب يدعونا إلى احترام قناعاتهم وأفكارهم، والكفّ عن إهانة مقدَّساتهم وشعائرهم، ومحاورتهم في مسائل الاختلاف بالحسنى، لا بالانفعال والسّباب والشّتائم"...
وهذا الموقف الفقهي، لا يعني إنكار بعض الأحداث والمواقف التاريخيّة التي سجَّلها المؤرّخون وغيرهم، بل ينبغي إخضاع ما حمله المؤرّخون والرّواة إلينا للبحث العلمي الذي يحاول أن يقدّم لنا الحقيقة في حدود وظيفته وأدواته، وعلينا - ومن موقع المسؤوليّة - أن نجيد قراءة تلك الأحداث، وأن نحسن تقديمها في صيغة وسياق ينفع هذه الأمّة في حاضرها ومستقبلها، ونجتهد في جعل التاريخ في خدمة الحاضر والمستقبل؛ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}(البقرة: 134)، وليس علينا الرجوع إلى التاريخ لنتقوقع فيه متصارعين متناحرين، فهذا المنطق لا ينسجم مع المنطق القرآني والإنساني، ويتنافى مع مبدأ الوحدة الذي ولو لم يكن مبدأً تعبّدياً، فهو عنوان إرشادي يحقّق المصلحة العليا التي لا أظنّ أحداً يودّ السير بخلافها، إلا من في قلبه زيغ ويبتغي الفتنة بين المسلمين ـ {وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ} - ولقد كان (ره) يرى في المصلحة العليا عنواناً عامّاً وحاكماً يحرم المساس به، ويجب التضحية من أجله بالنفس والنفيس، وهو ما كان عليه.
** من "موسوعة الفكر الإسلامي"، ج5.
*مدير المعهد الشرعي الإسلامي في بيروت.