الخطّ الرّمادي ليس خطّ الرّسول (ص)

الخطّ الرّمادي ليس خطّ الرّسول (ص)

لم يحدّثنا الله عن مولد الرسول (ص)، وإنَّما حدَّثنا عن مبعثه، لأنّه يريدنا أن نتصوَّره وهو يتحرَّك في الرّسالة، ولا يريد لنا أن نكتفي بتصوّره وهو يدرج إلى الحياة.

ليست القصّة أن يولد، وأن ينمو، وأن يتحرّك في حياته كما يتحرّك الأحياء.. تلك قصّته كإنسان، ولكنّ المسألة أنّ قصّته بالنسبة إلينا هي قصّة صفته كرسول، لأنّنا عندما نستغرق في ذاته، فسوف يكون هذا الجوّ الذي نعيشه؛ ما هي صفة عينيه؟ وما هي صفة وجهه؟ وما هي صفة منكبيه؟ وما إلى ذلك من كلماتٍ ليست تهمّنا من قريبٍ ولا من بعيد.

لكن ما هي شخصيّته، ما هي أخلاقه؟ ما هو أسلوبه في الدّعوة؟ ما هي طريقته في الحركة؟ ما هو فعله في مواجهة قضايا الناس؟ ما هو ردّ فعله أمام التحدّيات؟ ما هي خطّته في بناء الحياة على أساس الرسالة؟ ما هو صبره؟ ما هو هدوء طبعه؟ ما هو انفتاح روحه على الله؟ ما هي سعة صدره للنّاس؟ ما هو قلبه عندما ينبض بالحبّ؟ ما هي كلماته عندما تتحرّك بالدّفء وبالحرارة وبالرّوح؟ تلك هي قصّته كرسول، فتعالوا بنا إلى محمّدٍ الرسول.

في ذكراه، هل نريد أن ننتقل إليه لنعيش في عام الفيل أو بعد عام الفيل أربعين سنة؟ هل نريد أن نعيش هناك في مكّة؟ لقد كانت مكّة أرض الرسالة التي عاشها الصحابة الأصفياء وأهل البيت (ع) العظماء، عاشوا بفكرهم كلّه وصبرهم كلّه، وتجربتهم كلّها وخطواتهم كلّها الّتي سارت مع خطّ الرّسول في حركة الرّسالة.. عاشوها في التجربة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

ذلك تاريخهم، جهدهم، جهادهم، وعيهم، دعوتهم، حركتهم، هل نريد أن ندخل في التّاريخ فنكتفي بأن نتذكَّر التّاريخ، لنعظِّم الذين كانوا في التاريخ، ولنختلف على الذين كانوا في التاريخ، ولنتقاتل باسم الذين عاشوا في التّاريخ، ثم نكون خارج التاريخ؟!

هل نريد ذلك؟ أن نأخذ التاريخ الماضي ونكفّ نحن عن صنع التاريخ، ليصنع التاريخ غيرنا، ليبنوا لنا تاريخنا، ليبنوا لنا تاريخاً غربياً حتّى نكون غربيّين، أو تاريخاً شرقياً حتّى نكون شرقيّين، أو تاريخاً مخلوطاً يتحرّك في قطعة من هنا وفي قطعةٍ من هناك، حتّى نكون صورةً مشوّهةً كما يراد لنا أن نكون صورة مشوّهةً، لا تعرف معنى الملامح الأصليّة لهذا الجانب أو ذاك؟!

هل نريد للآخرين أن يصنعوا لنا تاريخنا ونتذكَّر نحن فقط تاريخنا، ثمّ نجعل العواصف تتحرّك، ليكون جهدنا كلّه أن ننحني للعواصف، لا أن نواجه العواصف، ولتتحرَّك القوى كلّها في ساحاتنا لنكون الذين يباركون القويّ، ولنكون الذين يخضعون للقويّ، ولنكون الذين ينسحقون أمام القويّ، لا أن نصنع القوّة ونصنع التاريخ؟!

إذاً، نحن لا نريد أن نرجع إلى عام الفيل، ولكنّنا نريد أن نبدأ من حيث انتهت تلك الأجيال التي صنعت لنا الإسلام، والتي استطاعت أن تكمل المرحلة التي بدأها رسول الله  (ص)، فقد كان هو الهدى في رسالته، وقد كان هو خطّ الحياة في دعوته، لكن كان جهاده مرحلةً في الرّسالة، وقال لنا الله، إذا انتهت المرحلة، فعليكم أن تكملوها: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].

كان هو الرّسالة كلّها، ولكن كانت حركته في حياته هي المرحلة الأولى التي تشير للآخرين ممّن ولد وعاش بعده، وممَّن لم يولد، لتقول بأنّ المسألة أنّني فتحت لكم الدرب، وقد كلَّف فتح هذا الدرب جهاداً وجهداً ودماءً وتضحيات كثيرة.. أيُّها المسلمون، إذا كنتم المسلمين حقاً، فتحمَّلوا مسؤولية الرسالة في روحية الرسول. كونوا المجاهدين كما كان، وكونوا الدُّعاة كما كان، وكونوا المنفتحين على النّاس وعلى الحياة كما كان. أعطوا الرسالة من جهدكم كلّه، ولا تجعلوها على هامش حياتكم.

نحن نريد أن ندعوه إلينا، ولا نريد أن ننتقل إليه، لأنّه رسول الحياة، وإذا كان رسول الحياة، فإنّه يأتي إلينا في كلّ مرحلةٍ نحتاجه فيها، لن يأتي إلينا بجسده، ولكنّه يأتي إلينا يحمل كتاب الله، ويأتي إلينا يحمل ما أعطاه كلّه في سُنَّته، ويأتي إلينا يحمل ما جسَّده كلّه في سيرته، ليقول لنا كما قال: صلُّوا كما أُصلّي، وحجّوا كما أحجّ، وخذوا عنّي مناسككم، كذلك يقول انفتحوا على واقع الحياة كما انفتحت، وكونوا العالميّين في وعيكم، لا تكونوا المختنقين في الزوايا التي تتعفَّن فيها أفكاركم، وتتعفَّن فيها أرواحكم، وتختنق فيها انطلاقاتكم، كونوا الأُمّة التي تعيش في الهواء الطلق التي تنفتح على الإنسانيّة كلّها، لأنَّ الإسلام جاء للإنسانيّة كلّها، لم يأتِ لحارةٍ أو قريةٍ أو مدينة، إنَّما جاء للعالمين كافّة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[سبأ: 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

وفي هذا الضوء الّذي يشعّ علينا من خلال هذه الآفاق الرسالية لننطلق... محمّد (ص) معنا الآن، فقولوا لي ـ أيُّها الإخوة ـ ما هي الدعوة التي يطلقها بيننا؟ هل يحاول، كما نحاول نحن الذين بهرتنا حضارة الغرب، وعشنا في استغراق في ماديّاتها كلّها وفي لهوها كلّه وعبثها وفي فلسفاتها كلّها، هل يحاول أن يأتي ليوفّق بين الإسلام وبين هذا الفكر الذي جاء به هذا المفكِّر وذاك النهج الذي جاء به ذاك الفيلسوف، ليحاول أن يقول لنا إنَّ الإسلام يتّفق مع هذا الاتجاه ومع ذاك الاتجاه، ليقدّم لنا الإسلام لا من خلال أصالته، ولكن ليعطي الإسلام بعض الملامح من هنا وبعض الملامح من هناك، حتّى يرضى الناس عن الإسلام، لأنَّ الإسلام يتوافق مع أفكارهم؟!

هل يطرح لنا العناوين التي نطرحها الآن؟!

وهل يخشى من أن نطرح الإسلام كما نخشاه؟!

لن يكون كذلك، لأنّه رفض ذلك في حيات.. عندما جاءت قريش إليه، وقد اشتدّت ضغوطها عليه، وحاولت أن تحاصره، وحاولت أن تسيء إلى كرامته، وحاولت أن تعمل بالوسائل كلّها في سبيل أن تزرع الخوف في نفسه، وقالوا تعال، هناك اللّون الأبيض، وهناك اللّون الأسود، تعال إلى اللّون الرماديّ، فالأبيض لا يمكن أن يعيش في الحياة طويلاً، والأسود لا يمكن أن يعيش في الحياة طويلاً، الأسود يرهق، والأبيض يوحي بالخطر، فتعال إلى اللّون الرماديّ، وكيف هو اللون الرمادي؟! حركة التسويات، حركة اللاغالب واللامغلوب، "تعال يا محمَّد نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة"، وعند ذلك، يكون الصلح، فلسنا مغلوبين ولسنا غالبين، تعال (لنطريها) إذا شئت أنت أن (تطرّيها).

أليست هذه هي لغتنا الآن فيما نتحدَّث فيه أمام كثير من الطروحات الصعبة لنعطيها صفة التطرُّف؟! كونوا المعتدلين حتّى يمشي وضعكم، وكونوا الواقعيّين حتى يرضى الناس عنكم، أليست هذه لغتنا؟!

قالها الله لرسوله أن يقول لهم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3 ـ 4]. يقول له الله ما يريد أن يقوله، ليعرف الناس كلّهم أنّ الله يريد منهم أن يقولوه، لأنَّ الله لا ينزل قرآناً في مسألة شخصيّة يعيشها رسول الله في تجربته، ولكنَّ الله ينزل قرآناً ليقول للنبيّ أن يقول ذلك في هذه التجربة، وليقول للمسلمين بعد ذلك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، أن تقولوا كما يقول، وأن تفعلوا كما يفعل، لأنَّ قوله رسالة، ولأنَّ فعله رسالة:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ ...} إذا لم تشاؤوا أن تدخلوا وأن تعيشوا جوّ اللامبالاة {وَلِيَ دِينِ}[الكافرون: 1 ـ 6]. إنّي أملك القناعة المطلقة في أنّ هذا الدّين حقّ. ولذلك، فلا يمكن أن أنحرف قيد شعرة بعد أن عرَّفني الله أنّه لا شرعيّة لِمَا تعبدون، وأنّ الشرعيّة كلّها فيما أعبد، فكيف أعطي الشرعيّة لما لا شرعيّة له؟!

وهكذا صوَّر الله لنا هذا الموقف الحاسم، وصوَّر لنا بعد ذلك أنَّ الله كان يؤيّد رسوله، وكان يربّي فيه القوَّة. وكان يدعم موقفه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[الإسراء : 73 ـ 75].

إنَّ المسألة هي أنّهم كانوا يقولون له لن نمنحك صداقتنا، ولن نجعلك في موقع الوجاهة عندنا، إلاَّ إذا حاولت أن تعمل على أن تجعل منك شيئاً تتَّفق فيه معنا، زدْ شيئاً في القرآن!! أعطِ شيئاً من نفسك، إنَّ قومك لا يتحمّلون ذلك! ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول له، القدرة البشريّة لا تتحمَّل مثل هذا الضغط، ولكنَّ الله أعطاه شيئاً من قوّته، فثبَّته في مواقع الاهتزاز كلّها. وهكذا كان الله يثبّت فؤاد رسول الله (ص).

*من كتاب "آفاق إسلاميّة".

لم يحدّثنا الله عن مولد الرسول (ص)، وإنَّما حدَّثنا عن مبعثه، لأنّه يريدنا أن نتصوَّره وهو يتحرَّك في الرّسالة، ولا يريد لنا أن نكتفي بتصوّره وهو يدرج إلى الحياة.

ليست القصّة أن يولد، وأن ينمو، وأن يتحرّك في حياته كما يتحرّك الأحياء.. تلك قصّته كإنسان، ولكنّ المسألة أنّ قصّته بالنسبة إلينا هي قصّة صفته كرسول، لأنّنا عندما نستغرق في ذاته، فسوف يكون هذا الجوّ الذي نعيشه؛ ما هي صفة عينيه؟ وما هي صفة وجهه؟ وما هي صفة منكبيه؟ وما إلى ذلك من كلماتٍ ليست تهمّنا من قريبٍ ولا من بعيد.

لكن ما هي شخصيّته، ما هي أخلاقه؟ ما هو أسلوبه في الدّعوة؟ ما هي طريقته في الحركة؟ ما هو فعله في مواجهة قضايا الناس؟ ما هو ردّ فعله أمام التحدّيات؟ ما هي خطّته في بناء الحياة على أساس الرسالة؟ ما هو صبره؟ ما هو هدوء طبعه؟ ما هو انفتاح روحه على الله؟ ما هي سعة صدره للنّاس؟ ما هو قلبه عندما ينبض بالحبّ؟ ما هي كلماته عندما تتحرّك بالدّفء وبالحرارة وبالرّوح؟ تلك هي قصّته كرسول، فتعالوا بنا إلى محمّدٍ الرسول.

في ذكراه، هل نريد أن ننتقل إليه لنعيش في عام الفيل أو بعد عام الفيل أربعين سنة؟ هل نريد أن نعيش هناك في مكّة؟ لقد كانت مكّة أرض الرسالة التي عاشها الصحابة الأصفياء وأهل البيت (ع) العظماء، عاشوا بفكرهم كلّه وصبرهم كلّه، وتجربتهم كلّها وخطواتهم كلّها الّتي سارت مع خطّ الرّسول في حركة الرّسالة.. عاشوها في التجربة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

ذلك تاريخهم، جهدهم، جهادهم، وعيهم، دعوتهم، حركتهم، هل نريد أن ندخل في التّاريخ فنكتفي بأن نتذكَّر التّاريخ، لنعظِّم الذين كانوا في التاريخ، ولنختلف على الذين كانوا في التاريخ، ولنتقاتل باسم الذين عاشوا في التّاريخ، ثم نكون خارج التاريخ؟!

هل نريد ذلك؟ أن نأخذ التاريخ الماضي ونكفّ نحن عن صنع التاريخ، ليصنع التاريخ غيرنا، ليبنوا لنا تاريخنا، ليبنوا لنا تاريخاً غربياً حتّى نكون غربيّين، أو تاريخاً شرقياً حتّى نكون شرقيّين، أو تاريخاً مخلوطاً يتحرّك في قطعة من هنا وفي قطعةٍ من هناك، حتّى نكون صورةً مشوّهةً كما يراد لنا أن نكون صورة مشوّهةً، لا تعرف معنى الملامح الأصليّة لهذا الجانب أو ذاك؟!

هل نريد للآخرين أن يصنعوا لنا تاريخنا ونتذكَّر نحن فقط تاريخنا، ثمّ نجعل العواصف تتحرّك، ليكون جهدنا كلّه أن ننحني للعواصف، لا أن نواجه العواصف، ولتتحرَّك القوى كلّها في ساحاتنا لنكون الذين يباركون القويّ، ولنكون الذين يخضعون للقويّ، ولنكون الذين ينسحقون أمام القويّ، لا أن نصنع القوّة ونصنع التاريخ؟!

إذاً، نحن لا نريد أن نرجع إلى عام الفيل، ولكنّنا نريد أن نبدأ من حيث انتهت تلك الأجيال التي صنعت لنا الإسلام، والتي استطاعت أن تكمل المرحلة التي بدأها رسول الله  (ص)، فقد كان هو الهدى في رسالته، وقد كان هو خطّ الحياة في دعوته، لكن كان جهاده مرحلةً في الرّسالة، وقال لنا الله، إذا انتهت المرحلة، فعليكم أن تكملوها: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].

كان هو الرّسالة كلّها، ولكن كانت حركته في حياته هي المرحلة الأولى التي تشير للآخرين ممّن ولد وعاش بعده، وممَّن لم يولد، لتقول بأنّ المسألة أنّني فتحت لكم الدرب، وقد كلَّف فتح هذا الدرب جهاداً وجهداً ودماءً وتضحيات كثيرة.. أيُّها المسلمون، إذا كنتم المسلمين حقاً، فتحمَّلوا مسؤولية الرسالة في روحية الرسول. كونوا المجاهدين كما كان، وكونوا الدُّعاة كما كان، وكونوا المنفتحين على النّاس وعلى الحياة كما كان. أعطوا الرسالة من جهدكم كلّه، ولا تجعلوها على هامش حياتكم.

نحن نريد أن ندعوه إلينا، ولا نريد أن ننتقل إليه، لأنّه رسول الحياة، وإذا كان رسول الحياة، فإنّه يأتي إلينا في كلّ مرحلةٍ نحتاجه فيها، لن يأتي إلينا بجسده، ولكنّه يأتي إلينا يحمل كتاب الله، ويأتي إلينا يحمل ما أعطاه كلّه في سُنَّته، ويأتي إلينا يحمل ما جسَّده كلّه في سيرته، ليقول لنا كما قال: صلُّوا كما أُصلّي، وحجّوا كما أحجّ، وخذوا عنّي مناسككم، كذلك يقول انفتحوا على واقع الحياة كما انفتحت، وكونوا العالميّين في وعيكم، لا تكونوا المختنقين في الزوايا التي تتعفَّن فيها أفكاركم، وتتعفَّن فيها أرواحكم، وتختنق فيها انطلاقاتكم، كونوا الأُمّة التي تعيش في الهواء الطلق التي تنفتح على الإنسانيّة كلّها، لأنَّ الإسلام جاء للإنسانيّة كلّها، لم يأتِ لحارةٍ أو قريةٍ أو مدينة، إنَّما جاء للعالمين كافّة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[سبأ: 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

وفي هذا الضوء الّذي يشعّ علينا من خلال هذه الآفاق الرسالية لننطلق... محمّد (ص) معنا الآن، فقولوا لي ـ أيُّها الإخوة ـ ما هي الدعوة التي يطلقها بيننا؟ هل يحاول، كما نحاول نحن الذين بهرتنا حضارة الغرب، وعشنا في استغراق في ماديّاتها كلّها وفي لهوها كلّه وعبثها وفي فلسفاتها كلّها، هل يحاول أن يأتي ليوفّق بين الإسلام وبين هذا الفكر الذي جاء به هذا المفكِّر وذاك النهج الذي جاء به ذاك الفيلسوف، ليحاول أن يقول لنا إنَّ الإسلام يتّفق مع هذا الاتجاه ومع ذاك الاتجاه، ليقدّم لنا الإسلام لا من خلال أصالته، ولكن ليعطي الإسلام بعض الملامح من هنا وبعض الملامح من هناك، حتّى يرضى الناس عن الإسلام، لأنَّ الإسلام يتوافق مع أفكارهم؟!

هل يطرح لنا العناوين التي نطرحها الآن؟!

وهل يخشى من أن نطرح الإسلام كما نخشاه؟!

لن يكون كذلك، لأنّه رفض ذلك في حيات.. عندما جاءت قريش إليه، وقد اشتدّت ضغوطها عليه، وحاولت أن تحاصره، وحاولت أن تسيء إلى كرامته، وحاولت أن تعمل بالوسائل كلّها في سبيل أن تزرع الخوف في نفسه، وقالوا تعال، هناك اللّون الأبيض، وهناك اللّون الأسود، تعال إلى اللّون الرماديّ، فالأبيض لا يمكن أن يعيش في الحياة طويلاً، والأسود لا يمكن أن يعيش في الحياة طويلاً، الأسود يرهق، والأبيض يوحي بالخطر، فتعال إلى اللّون الرماديّ، وكيف هو اللون الرمادي؟! حركة التسويات، حركة اللاغالب واللامغلوب، "تعال يا محمَّد نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة"، وعند ذلك، يكون الصلح، فلسنا مغلوبين ولسنا غالبين، تعال (لنطريها) إذا شئت أنت أن (تطرّيها).

أليست هذه هي لغتنا الآن فيما نتحدَّث فيه أمام كثير من الطروحات الصعبة لنعطيها صفة التطرُّف؟! كونوا المعتدلين حتّى يمشي وضعكم، وكونوا الواقعيّين حتى يرضى الناس عنكم، أليست هذه لغتنا؟!

قالها الله لرسوله أن يقول لهم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3 ـ 4]. يقول له الله ما يريد أن يقوله، ليعرف الناس كلّهم أنّ الله يريد منهم أن يقولوه، لأنَّ الله لا ينزل قرآناً في مسألة شخصيّة يعيشها رسول الله في تجربته، ولكنَّ الله ينزل قرآناً ليقول للنبيّ أن يقول ذلك في هذه التجربة، وليقول للمسلمين بعد ذلك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، أن تقولوا كما يقول، وأن تفعلوا كما يفعل، لأنَّ قوله رسالة، ولأنَّ فعله رسالة:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ ...} إذا لم تشاؤوا أن تدخلوا وأن تعيشوا جوّ اللامبالاة {وَلِيَ دِينِ}[الكافرون: 1 ـ 6]. إنّي أملك القناعة المطلقة في أنّ هذا الدّين حقّ. ولذلك، فلا يمكن أن أنحرف قيد شعرة بعد أن عرَّفني الله أنّه لا شرعيّة لِمَا تعبدون، وأنّ الشرعيّة كلّها فيما أعبد، فكيف أعطي الشرعيّة لما لا شرعيّة له؟!

وهكذا صوَّر الله لنا هذا الموقف الحاسم، وصوَّر لنا بعد ذلك أنَّ الله كان يؤيّد رسوله، وكان يربّي فيه القوَّة. وكان يدعم موقفه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[الإسراء : 73 ـ 75].

إنَّ المسألة هي أنّهم كانوا يقولون له لن نمنحك صداقتنا، ولن نجعلك في موقع الوجاهة عندنا، إلاَّ إذا حاولت أن تعمل على أن تجعل منك شيئاً تتَّفق فيه معنا، زدْ شيئاً في القرآن!! أعطِ شيئاً من نفسك، إنَّ قومك لا يتحمّلون ذلك! ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول له، القدرة البشريّة لا تتحمَّل مثل هذا الضغط، ولكنَّ الله أعطاه شيئاً من قوّته، فثبَّته في مواقع الاهتزاز كلّها. وهكذا كان الله يثبّت فؤاد رسول الله (ص).

*من كتاب "آفاق إسلاميّة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية