معركة بدر ونتائجها

معركة بدر ونتائجها

كان من أساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الحروب، جمع المعلومات حول استعدادات العدوّ، ومدى تهيّؤه ومكان تواجده وتمركزه، ومعنويات أفراده، وهي مسائل تحظى بالأهمية في المجال العسكري حتى اليوم.

وحيث إنّ المعلومات التي تجمّعت لدى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد أنّ قافلة كبرى لقريش شارك فيها كلّ أهل مكّة بأموالهم، ويحمل بضائعها ألف بعير، وتقيّم بخمسين ألف دينار، ويقودها أبو سفيان بن حرب، في أربعين رجلاً، وحيث إنَّ أموال المسلمين كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش، فإنّ الوقت كان مناسباً للمسلمين لاستعادة أموالهم، بالاحتفاظ بأموال قريش إلى أن يعيدوا إليهم أموالهم المصادرة، وإلّا فإنّهم يتصرّفون في هذا المال كغنائم حرب يقسمونها فيما بينهم.

ولذا، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في 313 رجلاً، كان منهم 82 من المهاجرين، و170 من الخزرج، و61 من الأوس، في يوم الإثنين الثامن من شهر رمضان، قاصداً تحقيق ذلك الهدف، وعقد رايتين، سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير، والأخرى، وهي العقاب، إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ، فوصل إلى «وادي ذفران».

ونظراً إلى تخوّف أبي سفيان من التعرّض لهجوم من جانب المسلمين، فقد أرسل أحد رجاله إلى مكّة يستغيث بهم لنصرته، ممّا دعا أهلها إلى الاستعداد والتجهّز للخروج بقيادة رؤسائهم وعظمائهم. وكان ذلك مفاجأة للنبيّ «صلى الله عليه وآله وسلم»، الذي لم يعدّ رجاله للحرب والمواجهة العسكرية، بل لهجومٍ يحصل منه على الأموال المصادرة. فعقد مجلساً للشورى، استطلع فيه آراء رجاله في الانسحاب من الموقع إلى المدينة، أو مجابهة العدوّ القائم عسكريّاً، فاتّفق الجميع على المواجهة بالسّير لملاقاة العدوّ رغم عددهم القليل، فتحرّكوا نحو بدر.

وبالأسلوب العسكري السليم، عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكان العدوّ وعددهم وزعماءهم، كما عرف موعد وصولهم إلى ماء بدر. فقال لأصحابه: «هذه مكّة قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها».

إلاّ أنَّ أبا سفيان علم بملاحقة المسلمين له ومطاردتهم لقافلته، فابتعد عن بدر عند رجوعه من الشّام، واتّخذ جهة ساحل البحر الأحمر، وبعث أحدهم يخبر قريشاً بإمكانيّة الإفلات من يد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، ولكنَّ "أبا جهل» أصرّ على مواصلة التقدّم نحو يثرب وعدم الرّجوع إلى مكّة، قائلاً: واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجُزُر ـ الأباعر ـ و نطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان والمغنيات، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلايزالون يهابوننا أبداً بعدها. وكان لكلماته أثرها في تشجيعهم على السير نحو المدينة، فنزلوا في بدر.

أمّا في الجانب الإسلاميّ، فقد تقدّم الحباب بن المنذر باقتراح على السّير إلى أدنى ماء من القوم، ودفن العين والآبار، وبناء حوض يُملأ بالماء يستخدمونه للشّرب، كما اقترح سعد بن معاذ بناء برج عسكريّ يقود منه النبيّ العمليات العسكرية، ويشرف على سيرها، فيكون مأمناً له من كيد الأعداء.

أمّا قريش، فقد تحركت باتجاه بدر صباح يوم 17 من شهر رمضان، فاستطلعوا أخبار المسلمين، فعرفوا عددهم وعدّتهم. إلاّ أنّه حدث انقسام في الرأي بينهم حول الموقع، حين دعا بعض زعمائهم إلى ترك الموقع والعودة إلى مكّة دون إجراء أيّ قتال أو إبداء أي عمل عدائي ضدّ المسلمين، كان من بينهم: عتبة بن ربيعة، الذي طلب منهم العودة إلى مكّة دون حرب، إلاّ أنّ أبا جهل تمكّن من تغيير الموقف لصالح الحرب، فحمَّسهم للقتال.

وكان التقليد المتَّبع عند العرب في الحروب، أن يُبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة، ثمّ تقع بعدها الحملات الجماعيّة، فدعا ثلاثة من صناديد قريش، المسلمين إلى المبارزة، وهم: عتبة، وشيبة، وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس، والوليد بن عتبة بن ربيعة، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، هم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة. إلّا أنّ َقريشاً رفضت منازلتهم، وطلبت أفراداً من مكّة، فأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبيدة بن الحارث وحمزة وعليّاً بالمبارزة. فبارز حمزة شيبة، وبارز عبيدة عتبة، وعليّ بارز الوليد، ثمّ اتّجه حمزة وعليّ بعد الفراغ من قتل خصميهما إلى عتبة وقتلاه. وبعد هذه المبارزة، بدأ الهجومُ العام وتزاحفوا، فعدّل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصفوف ورجع إلى العريش ـ برج القيادة ـ فكان ينزل بين الحين والآخر ويحرّضهم على القتال والمقاومة، فقد كان لكلماته أثرها العميق في النفس، والشوق إلى الجنّة بالشهادة.

أمّا خسائر الحرب، في الأرواح والأموال، فإنَّ المسلمين فقدوا 14 رجلاً، بينما قُتل من المشركين سبعون، وأُسر منهم سبعون، كان من أبرزهم: النّضر بن الحارث، عقبة بن أبي معيط، وسهيل بن عمرو، والعباس بن عبد المطلب، وأبو العاص بن الربيع ـ صهر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، ولاتزال قبورهم موجودة، أمّا قتلى المشركين، فأمر الرسول بإلقائهم في البئر، ووقف (ص) عليها، فخاطب القتلى قائلاً: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم، كذبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس»، ثمّ قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً».

ثمّ صلّى العصر بالنّاس، وغادر أرض المعركة ـ أرض بدر ـ قبل غروب الشّمس، وقسّم الغنائم بينهم أثناء الطريق على قدم المساواة، ومنح ذوي الشّهداء أسهماً منها، كما وزّع خمسها على المشاركين في المعركة، فربما لم تكن آية الخمس قد نزلت بعد آنذاك، أو فعل ذلك لمصلحة خاصّة.

كما قرّر أسهماً لأشخاص لم يحضروا المعركة، لأسباب خاصّة بهم منعتهم من الاشتراك فيها، أو لمهمّات خاصّة أُنيطوا بها في المدينة والطّرقات.

وبعث عبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، إلى المدينة يبشّرون أهلها بالانتصار، إلا أنّهما علما هناك بوفاة ابنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجة عثمان بن عفان، فامتزجت الأفراح بالأحزان، في الوقت الّذي تخوّف المشركون واليهود والمنافقون من الانتصار الكبير من جانب آخر.

أمّا بالنّسبة لاشتراك العباس بن عبدالمطلب في المعركة، فإنّ ذلك كان أمراً خاصاً، لأنّه كان قد أسلم وكتم إسلامه مخافة قومه، وكره خلافهم مثل أخيه أبي طالب، فكان يساعد النبيّ (ص)، ويخبره بمخطّطات العدوّ ونوايا وتحركاته واستعدادته، مثلما عمل في معركة أُحد.

وفي مكّة، تحولت بيوتها إلى مأتم كبير، وناحت قريش على قتلاها، إلاّ أنّ أبا سفيان منعهم من النّوح والبكاء على القتلى، وحثّهم على الاستعداد للثّأر والانتقام من محمد وأصحابه، فقال: الدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّداً.

وقد ساعدت عوامل كثيرة في انتصار المسلمين ببدر، كان أهمّها:

1.عدم معرفة المسلمين بما لدى المشركين من إمكانيّات بشريّة وقتالية، فواجهوا الأمر الواقع وتعاملوا من دون أن يثبطهم شيء.

2. تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين، وعدد المشركين في أعين المسلمين في أوّل القتال، وتكثير عدد المسلمين في أعين الكفّار أثناء الحرب.

نتائج معركة بدر وآثارها:

أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قراراً تاريخياً بعد المعركة خاصّاً بأُسلوب المعاملة مع الأسرى، وذلك بأنّ من علّم منهم عشرة من الصبيان الكتابة والقراءة، كان ذلك فداؤه، ويخلى سبيله دون أن يؤخذ منه مال، وأنّ من دفع فدية قدرها 4000 درهم إلى ألف، خلّى سبيله، ومن كان فقيراً لا مال له، أفرج عنه دون فداء، وأنّ الباب مفتوح أمامهم للدّخول في الإسلام لينعموا في كنفه مع المسلمين.

ولقد أحدث هذا القرار ردّ فعل كبيراً لدى عائلات مكّة، دفعهم إلى تقديم الفداء إلى المسلمين لإطلاق سراحهم. وكان «أبو العاص بن الرّبيع» من ضمن الأسرى، وهو زوج زينب ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) التي تزوّجها في الجاهليّة، وثبت على دينه بعد إيمان بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّهم، فبعثت زينب في فدائه بمال فيه قلادة كانت هديّة أُمّها السيدة خديجة «عليها السلام» لها ليلة زفافها، فلمّا رأى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة، تذكَّر زوجته الوفيّة وبكى بشدّة، ممّا أثر في المسلمين، فأطلقوا سراحه دون أخذ الفدية. وأخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي العاص الميثاق بأن يخلّي سبيل زينب ويبعثها إلى المدينة، ففعل، مع إعلانه الإسلام فيما بعد.

ويعتبر تعليم الأولاد من قبل الأسارى المتعلّمين، أوّل عملية تعليمية لمكافحة الأمّية، وهي أعظم خطوة حضارية وثقافية.

كما أنّه كان لانتصار المسلمين أثر كبير على المراكز السياسية المتناثرة في شبه الجزيرة العربيّة، فكما كان له أثره القويّ على قريش وأهلها، فإنّه هدّد مراكز أُخرى في المدينة وخارجها، كاليهود الذين أبدوا تخوّفهم من تطور قوّة المسلمين، وخاصّة يهود بني قينقاع، الذين بدأوا بتدبير المؤامرات، وممارسة الأعمال العدوانيّة ضدّ المسلمين، وإعلان الحرب الباردة، بنشر الأكاذيب، وبثّ المعلومات المزيفة، وإطلاق الشعارات القبيحة، لتحقيرهم وتخريب سمعتهم وإضعاف معنويّاتهم.

إلاّ أنّهم بذلك، كانوا قد أعلنوا نقضهم لمعاهدة التعايش السّلمي التي عقدها معهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إبان قدومه إلى المدينة. وبالرغم من ذلك، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاول النصيحة بأن يتعايشوا معهم دون إظهار أيّ عمل تخريبي أو سيّئ، وذلك لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يريد أن يرفع السّلاح ويحاربهم، حتى يحافظ على الأمن والاستقرار في يثرب، إذ لم يكن من المصلحة تفجير الموقف في هذه الفترة الحرجة، إلّا أنّهم أصرّوا على موقفهم العدائي، دون أن يقتنعوا بالتّغيير أو التخلّي عن مؤامراتهم، ما اضطرّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى استخدام السّلاح والقوّة في الفرصة المناسبة، وقد حدثت تلك المناسبة، عندما اعتدى يهوديّ على امرأة عربية في السوق، بإظهار عورتها والضّحك عليها، فقتله رجلٌ مسلمٌ، فاجتمع عليه عددٌ من اليهود فقتلوه، ما اعتبر الشّرارة الأولى في إعلان الحرب عليهم. فسارعوا إلى حصونهم وقلاعهم خوفاً من هجوم المسلمين، فحاصرهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس عشرة ليلة، قذف الله في قلوبهم الرّعب، ففقدوا القدرة على المقاومة، ونزلوا عند حكم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الجلاء عن المدينة، على أن يتركوا أسلحتهم وأموالهم ودروعهم، فخرجوا من المدينة إلى منطقة «أذرعات» في أطراف الشّام.

واضطرّت قريش في هذه السنة إلى أن تغيّر طريقها التجاري إلى الشّام، خوفاً من تعرض المسلمين لهم، فاتفقت على أن تتخذ طريق العراق، إلّا أنّ المسلمين علموا بذلك، فأرسل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن حارثة في مائة نفر، تمكّنوا من الاستيلاء على القافلة، وتقسيم الأموال على المسلمين، بعد فرار القوم.

ولأهمية معركة بدر التي هي من المعارك الكبرى للإسلام، اكتسب المشاركون فيها منزلة خاصّة بين المسلمين، فقد دعوا بالبدريّين.

*من كتاب "السيرة المحمديَّة".

كان من أساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الحروب، جمع المعلومات حول استعدادات العدوّ، ومدى تهيّؤه ومكان تواجده وتمركزه، ومعنويات أفراده، وهي مسائل تحظى بالأهمية في المجال العسكري حتى اليوم.

وحيث إنّ المعلومات التي تجمّعت لدى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد أنّ قافلة كبرى لقريش شارك فيها كلّ أهل مكّة بأموالهم، ويحمل بضائعها ألف بعير، وتقيّم بخمسين ألف دينار، ويقودها أبو سفيان بن حرب، في أربعين رجلاً، وحيث إنَّ أموال المسلمين كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش، فإنّ الوقت كان مناسباً للمسلمين لاستعادة أموالهم، بالاحتفاظ بأموال قريش إلى أن يعيدوا إليهم أموالهم المصادرة، وإلّا فإنّهم يتصرّفون في هذا المال كغنائم حرب يقسمونها فيما بينهم.

ولذا، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في 313 رجلاً، كان منهم 82 من المهاجرين، و170 من الخزرج، و61 من الأوس، في يوم الإثنين الثامن من شهر رمضان، قاصداً تحقيق ذلك الهدف، وعقد رايتين، سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير، والأخرى، وهي العقاب، إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ، فوصل إلى «وادي ذفران».

ونظراً إلى تخوّف أبي سفيان من التعرّض لهجوم من جانب المسلمين، فقد أرسل أحد رجاله إلى مكّة يستغيث بهم لنصرته، ممّا دعا أهلها إلى الاستعداد والتجهّز للخروج بقيادة رؤسائهم وعظمائهم. وكان ذلك مفاجأة للنبيّ «صلى الله عليه وآله وسلم»، الذي لم يعدّ رجاله للحرب والمواجهة العسكرية، بل لهجومٍ يحصل منه على الأموال المصادرة. فعقد مجلساً للشورى، استطلع فيه آراء رجاله في الانسحاب من الموقع إلى المدينة، أو مجابهة العدوّ القائم عسكريّاً، فاتّفق الجميع على المواجهة بالسّير لملاقاة العدوّ رغم عددهم القليل، فتحرّكوا نحو بدر.

وبالأسلوب العسكري السليم، عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكان العدوّ وعددهم وزعماءهم، كما عرف موعد وصولهم إلى ماء بدر. فقال لأصحابه: «هذه مكّة قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها».

إلاّ أنَّ أبا سفيان علم بملاحقة المسلمين له ومطاردتهم لقافلته، فابتعد عن بدر عند رجوعه من الشّام، واتّخذ جهة ساحل البحر الأحمر، وبعث أحدهم يخبر قريشاً بإمكانيّة الإفلات من يد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، ولكنَّ "أبا جهل» أصرّ على مواصلة التقدّم نحو يثرب وعدم الرّجوع إلى مكّة، قائلاً: واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجُزُر ـ الأباعر ـ و نطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان والمغنيات، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلايزالون يهابوننا أبداً بعدها. وكان لكلماته أثرها في تشجيعهم على السير نحو المدينة، فنزلوا في بدر.

أمّا في الجانب الإسلاميّ، فقد تقدّم الحباب بن المنذر باقتراح على السّير إلى أدنى ماء من القوم، ودفن العين والآبار، وبناء حوض يُملأ بالماء يستخدمونه للشّرب، كما اقترح سعد بن معاذ بناء برج عسكريّ يقود منه النبيّ العمليات العسكرية، ويشرف على سيرها، فيكون مأمناً له من كيد الأعداء.

أمّا قريش، فقد تحركت باتجاه بدر صباح يوم 17 من شهر رمضان، فاستطلعوا أخبار المسلمين، فعرفوا عددهم وعدّتهم. إلاّ أنّه حدث انقسام في الرأي بينهم حول الموقع، حين دعا بعض زعمائهم إلى ترك الموقع والعودة إلى مكّة دون إجراء أيّ قتال أو إبداء أي عمل عدائي ضدّ المسلمين، كان من بينهم: عتبة بن ربيعة، الذي طلب منهم العودة إلى مكّة دون حرب، إلاّ أنّ أبا جهل تمكّن من تغيير الموقف لصالح الحرب، فحمَّسهم للقتال.

وكان التقليد المتَّبع عند العرب في الحروب، أن يُبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة، ثمّ تقع بعدها الحملات الجماعيّة، فدعا ثلاثة من صناديد قريش، المسلمين إلى المبارزة، وهم: عتبة، وشيبة، وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس، والوليد بن عتبة بن ربيعة، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، هم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة. إلّا أنّ َقريشاً رفضت منازلتهم، وطلبت أفراداً من مكّة، فأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبيدة بن الحارث وحمزة وعليّاً بالمبارزة. فبارز حمزة شيبة، وبارز عبيدة عتبة، وعليّ بارز الوليد، ثمّ اتّجه حمزة وعليّ بعد الفراغ من قتل خصميهما إلى عتبة وقتلاه. وبعد هذه المبارزة، بدأ الهجومُ العام وتزاحفوا، فعدّل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصفوف ورجع إلى العريش ـ برج القيادة ـ فكان ينزل بين الحين والآخر ويحرّضهم على القتال والمقاومة، فقد كان لكلماته أثرها العميق في النفس، والشوق إلى الجنّة بالشهادة.

أمّا خسائر الحرب، في الأرواح والأموال، فإنَّ المسلمين فقدوا 14 رجلاً، بينما قُتل من المشركين سبعون، وأُسر منهم سبعون، كان من أبرزهم: النّضر بن الحارث، عقبة بن أبي معيط، وسهيل بن عمرو، والعباس بن عبد المطلب، وأبو العاص بن الربيع ـ صهر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، ولاتزال قبورهم موجودة، أمّا قتلى المشركين، فأمر الرسول بإلقائهم في البئر، ووقف (ص) عليها، فخاطب القتلى قائلاً: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم، كذبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس»، ثمّ قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً».

ثمّ صلّى العصر بالنّاس، وغادر أرض المعركة ـ أرض بدر ـ قبل غروب الشّمس، وقسّم الغنائم بينهم أثناء الطريق على قدم المساواة، ومنح ذوي الشّهداء أسهماً منها، كما وزّع خمسها على المشاركين في المعركة، فربما لم تكن آية الخمس قد نزلت بعد آنذاك، أو فعل ذلك لمصلحة خاصّة.

كما قرّر أسهماً لأشخاص لم يحضروا المعركة، لأسباب خاصّة بهم منعتهم من الاشتراك فيها، أو لمهمّات خاصّة أُنيطوا بها في المدينة والطّرقات.

وبعث عبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، إلى المدينة يبشّرون أهلها بالانتصار، إلا أنّهما علما هناك بوفاة ابنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجة عثمان بن عفان، فامتزجت الأفراح بالأحزان، في الوقت الّذي تخوّف المشركون واليهود والمنافقون من الانتصار الكبير من جانب آخر.

أمّا بالنّسبة لاشتراك العباس بن عبدالمطلب في المعركة، فإنّ ذلك كان أمراً خاصاً، لأنّه كان قد أسلم وكتم إسلامه مخافة قومه، وكره خلافهم مثل أخيه أبي طالب، فكان يساعد النبيّ (ص)، ويخبره بمخطّطات العدوّ ونوايا وتحركاته واستعدادته، مثلما عمل في معركة أُحد.

وفي مكّة، تحولت بيوتها إلى مأتم كبير، وناحت قريش على قتلاها، إلاّ أنّ أبا سفيان منعهم من النّوح والبكاء على القتلى، وحثّهم على الاستعداد للثّأر والانتقام من محمد وأصحابه، فقال: الدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّداً.

وقد ساعدت عوامل كثيرة في انتصار المسلمين ببدر، كان أهمّها:

1.عدم معرفة المسلمين بما لدى المشركين من إمكانيّات بشريّة وقتالية، فواجهوا الأمر الواقع وتعاملوا من دون أن يثبطهم شيء.

2. تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين، وعدد المشركين في أعين المسلمين في أوّل القتال، وتكثير عدد المسلمين في أعين الكفّار أثناء الحرب.

نتائج معركة بدر وآثارها:

أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قراراً تاريخياً بعد المعركة خاصّاً بأُسلوب المعاملة مع الأسرى، وذلك بأنّ من علّم منهم عشرة من الصبيان الكتابة والقراءة، كان ذلك فداؤه، ويخلى سبيله دون أن يؤخذ منه مال، وأنّ من دفع فدية قدرها 4000 درهم إلى ألف، خلّى سبيله، ومن كان فقيراً لا مال له، أفرج عنه دون فداء، وأنّ الباب مفتوح أمامهم للدّخول في الإسلام لينعموا في كنفه مع المسلمين.

ولقد أحدث هذا القرار ردّ فعل كبيراً لدى عائلات مكّة، دفعهم إلى تقديم الفداء إلى المسلمين لإطلاق سراحهم. وكان «أبو العاص بن الرّبيع» من ضمن الأسرى، وهو زوج زينب ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) التي تزوّجها في الجاهليّة، وثبت على دينه بعد إيمان بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّهم، فبعثت زينب في فدائه بمال فيه قلادة كانت هديّة أُمّها السيدة خديجة «عليها السلام» لها ليلة زفافها، فلمّا رأى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة، تذكَّر زوجته الوفيّة وبكى بشدّة، ممّا أثر في المسلمين، فأطلقوا سراحه دون أخذ الفدية. وأخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي العاص الميثاق بأن يخلّي سبيل زينب ويبعثها إلى المدينة، ففعل، مع إعلانه الإسلام فيما بعد.

ويعتبر تعليم الأولاد من قبل الأسارى المتعلّمين، أوّل عملية تعليمية لمكافحة الأمّية، وهي أعظم خطوة حضارية وثقافية.

كما أنّه كان لانتصار المسلمين أثر كبير على المراكز السياسية المتناثرة في شبه الجزيرة العربيّة، فكما كان له أثره القويّ على قريش وأهلها، فإنّه هدّد مراكز أُخرى في المدينة وخارجها، كاليهود الذين أبدوا تخوّفهم من تطور قوّة المسلمين، وخاصّة يهود بني قينقاع، الذين بدأوا بتدبير المؤامرات، وممارسة الأعمال العدوانيّة ضدّ المسلمين، وإعلان الحرب الباردة، بنشر الأكاذيب، وبثّ المعلومات المزيفة، وإطلاق الشعارات القبيحة، لتحقيرهم وتخريب سمعتهم وإضعاف معنويّاتهم.

إلاّ أنّهم بذلك، كانوا قد أعلنوا نقضهم لمعاهدة التعايش السّلمي التي عقدها معهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إبان قدومه إلى المدينة. وبالرغم من ذلك، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاول النصيحة بأن يتعايشوا معهم دون إظهار أيّ عمل تخريبي أو سيّئ، وذلك لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يريد أن يرفع السّلاح ويحاربهم، حتى يحافظ على الأمن والاستقرار في يثرب، إذ لم يكن من المصلحة تفجير الموقف في هذه الفترة الحرجة، إلّا أنّهم أصرّوا على موقفهم العدائي، دون أن يقتنعوا بالتّغيير أو التخلّي عن مؤامراتهم، ما اضطرّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى استخدام السّلاح والقوّة في الفرصة المناسبة، وقد حدثت تلك المناسبة، عندما اعتدى يهوديّ على امرأة عربية في السوق، بإظهار عورتها والضّحك عليها، فقتله رجلٌ مسلمٌ، فاجتمع عليه عددٌ من اليهود فقتلوه، ما اعتبر الشّرارة الأولى في إعلان الحرب عليهم. فسارعوا إلى حصونهم وقلاعهم خوفاً من هجوم المسلمين، فحاصرهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس عشرة ليلة، قذف الله في قلوبهم الرّعب، ففقدوا القدرة على المقاومة، ونزلوا عند حكم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الجلاء عن المدينة، على أن يتركوا أسلحتهم وأموالهم ودروعهم، فخرجوا من المدينة إلى منطقة «أذرعات» في أطراف الشّام.

واضطرّت قريش في هذه السنة إلى أن تغيّر طريقها التجاري إلى الشّام، خوفاً من تعرض المسلمين لهم، فاتفقت على أن تتخذ طريق العراق، إلّا أنّ المسلمين علموا بذلك، فأرسل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن حارثة في مائة نفر، تمكّنوا من الاستيلاء على القافلة، وتقسيم الأموال على المسلمين، بعد فرار القوم.

ولأهمية معركة بدر التي هي من المعارك الكبرى للإسلام، اكتسب المشاركون فيها منزلة خاصّة بين المسلمين، فقد دعوا بالبدريّين.

*من كتاب "السيرة المحمديَّة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية