فقد جاء في كتب السّيرة والتّاريخ: إنّ عهد الحديبية قد أعطى الحقّ لكلّ من أراد
من العرب أن يدخل في عهد محمد أن يدخل في عهده، كما يحق لمن أراد أن يدخل في عهد
قريش أن يدخل فيه، وكانت بين بني بكر وخزاعة أحقاد قديمة وحروب متواصلة، فلما تم
صلح الحديبية، دخلت خزاعة في عهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما كانت حليفة
لجدّه عبد المطلب من قبل، ودخل بنو بكر في عهد قريش، ومضى النّاس على ذلك، وهم
يحسبون أنهم قد أصبحوا آمنين على دمائهم وأموالهم، وانحاز كلّ من القبيلتين إلى
فريق من المتصالحين.
فلما كانت معركة مؤتة، تخيل بنو الديل (أو الدؤل) من بني بكر بن عبد مناة أحلاف
قريش، أن الفرصة قد سنحت لهم ليقتصوا من خزاعة حليفة المسلمين لثاراتهم القديمة،
وظنوا أنّ المسلمين بعد تلك النكسة التي أصيبوا بها لم يعد في مقدورهم أن يناصروا
من دخل في عهدهم كخزاعة وغيرها، وحرضهم على ذلك عكرمة ابن أبي جهل، وصفوان بن أميّة،
وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص، وغيرهم من وجوه قريش، ودسّوا إليهم الرّجال
والسلاح، وبيتوا خزاعة وهم على ماء لهم يدعى الوتير، فقتلوا منهم عشرين رجلاً، وذلك
في شعبان من السنة الثامنة للهجرة، فالتجأت خزاعة إلى الحرم، ثم إلى دار بديل بن
ورقاء في مكة، وشكوا إليه نقض قريش وبني بكر عهدهم لرسول الله. ويدّعي المؤلّفون في
السيرة: أن أبا سفيان كان كارهاً لهذا العدوان، لأنه يشكّل نقضاً لعهد الصلح بينهم
وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم).
وكان مما لا بدّ منه، أن تستنجد خزاعة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذهب
جماعة منهم إلى المدينة، فلما دخلوا على الرّسول، أنشد عمرو بن سالم الخزاعي قوله:
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّد
هــــم بيتونا بالهجير هجّداً نتلوا القرآن ركّعاً سجّد
ولما انتهى من أبياته، جلس يقص على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما حدث عليهم
من بني بكر وقريش، ويستنصره على قريش وبني بكر، كما قصّ عليه أعضاء الوفد ما جرى
عليهم من قريش وأحلافها. وجاء في رواية الواقدي: أنّه قال عند ذلك: لا نصرت إن لم
أنصر خزاعة في ما أنتصر منه لنفسي، وأيقن أنّ قريشاً قد نقضت العهد من جانبها، ولم
يعد العهد قائماً لأنه لا يقوم إلا بطرفين، وقام من ساعته وندب المسلمين في المدينة
وخارجها لأن يكونوا مستعدّين عندما يدعوهم إلى الخروج معه، من غير أن يعرفوا وجهته
التي يريدها.
وتوالت الوفود عليه، حتى اجتمع في المدينة خلال العشرة الأولى من شهر رمضان نحو
عشرة آلاف مقاتل، وندمت قريش على ما صنعت مع خزاعة، وأدركت أنّ ذلك نقض للعهد من
جانبها، فمشى الحرث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة ومعهما جماعة إلى أبي سفيان،
فقالوا له: إنّ هذا الأمر لا بدّ له أن يصلح، وأنه إن لم يصلح لا يردعكم إلا محمد
في أصحابه، وقال لهم أبو سفيان، إنّ هنداً قد رأت رؤيا كرهتها وأفظعتها وخافت من
شرها، لقد رأت كأنّ دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندق مليّاً، ثم كأن ذلك
الدم لم يكن، فكره القوم هذه الرؤيا، وقالوا: هذا هو الشرّ.
وتمّ الاتفاق بينهم على أن يشدّ أبو سفيان الرحال إلى محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) ويكلّمه في الأمر قبل أن تستنجد به خزاعة، لعلّه يجدّد العهد فيما بينهم
وبينه، ويزيد في أمد الهدنة، ولم يكونوا قد علموا بوفد خزاعة إلى النبيّ، وخرج أبو
سفيان من مكّة ومعه مولى له على راحلتين، وأسرعا في مسيرهما وهو يحسب أنّه أوّل
خارج من مكّة بعد ذلك الحدث الذي أطاح بعهد الصّلح بينهم وبين النبيّ (صلى الله
عليه وآله وسلم).
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال لأصحابه حينما جاءه وفد خزاعة: لكأنكم
بأبي سفيان قد جاءكم يطلب تجديد العهد وزيادة أمد الهدنة، وقال لبني خزاعة بعد أن
أخبروه بما جرى لهم: ارجعوا وتفرقوا في الأودية.
فلما أتوا الأبواء، تفرقوا كما أمرهم رسول الله، فذهب بعضهم باتجاه السّاحل على غير
الطريق العام، ولزم الطريق العام بين مكة والمدينة بديل بن أم أحرم ومعه نفر من
قومه، فالتقوا بأبي سفيان وهو في طريقه إلى المدينة، فلمّا رآهم، أيقن أنهم قد
سبقوه إلى محمد، فقال لهم: منذ كم عهدكم بيثرب؟ قالوا لا عهد لنا بها، فأيقن أنهم
كتموه.
عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على غزو مكّة، ولكنّه أخفى أمره إلا من
خلّص أصحابه، ومنع أحداً أن يخرج من المدينة مخافة أن يتسرب خبر استعداده لقريش،
وكان يحبّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدخل مكة فاتحاً بدون حرب ولا قتال، ودعا
الله سبحانه أن يمنع قريش العيون والأخبار.
ومع هذا التحفظ والتكتم الشديد عن سائر الناس، فقد تسرّب نبأ مسيره إلى حاطب بن
بلتعة، وكان من المسلمين، فكتب إلى قريش سراً يخبرهم بالذي عزم عليه رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة، وأعطاها مبلغاً من المال
في مقابل إيصال الكتاب إلى قريش، فضمت الكتاب في شعر رأسها، وخرجت باتجاه مكّة.
فنزل الوحي على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بما صنع حاطب، فأرسل النبيّ
(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً والزبير، وأمرهما أن يجدّا السير في طلب المرأة
قبل أن تفوتهما، فخرجا مسرعين حتى أدركاها بذي الحليفة على أميال من المدينة،
فاستنزلاها والتمسا الكتاب في رحلها، فلم يجدا شيئاً معها، ثم قالا لها: والله
لتخرجنّ الكتاب أو لنكشفنّك، ثم اخترط عليّ (عليه السلام) سيفه، وأقبل عليها وقال
لها: أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك ثم لأضربنّ عنقك. فلما رأت الجدّ منه
قالت: اعرض بوجهك عني، فلما أعرض عنها، كشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها
ودفعته إليه.
فجاء به إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجمع المسلمين حتى امتلأ بهم المسجد،
فوقف بينهم وقال: أيها الناس، لقد كنت سألت الله أن يخفي أخبارنا عن قريش، وإن رجلاً
منكم كتب إليهم كتاباً يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب قبل أن يفضحه الوحي، فلم
يقم أحد، ولما أعاد النبيّ مقالته، قدم حاطب بن بلتعة وهو يرتعد كالسّعفة في مهبّ
الرّيح العاصف، وقال: أنا صاحبه يا رسول الله. ومضى يعتذر إلى النبيّ ويقول: يا
رسول الله، والله إني لمسلم مؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت، ولكني كنت امرأً
ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وأصبح لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم.
فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجه من المسجد، فجعل النّاس يدفعونه في
ظهره حتى أخرجوه، وهو يلتفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يتكلّم، فرقّ
له وأرجعه إلى المسجد، وأوصاه أن لا يعود إلى مثلها. ولما تمّ تجهيز الجيش، خرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة في العشرة الأولى من شهر رمضان من
السنة الثامنة للهجرة الشريفة في عشر آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من
القبائل، كأسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، وغيرهم، ومعهم نحو من ألف
فرس، وعقد للمهاجرين ثلاثة ألوية: فأعطى عليّاً (عليه السلام) لواءً، وأعطى الزبير
بن العوام لواءً، ولسعد بن أبي وقاص لواء ثالثاً.
وكان العباس بن عبد المطلب، ومخرمة بن نوفل قد خرجا من مكّة يريدان المدينة، وهما
يظنان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لايزال فيها، فلقياه في السقيا، فمضى
العباس ورفيقه مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأرسل العباس أهله وثقله إلى
المدينة. ولما بلغ (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهران، قال العباس: يا سوء صباح
قريش، والله لئن بغتها محمد في بلادها، ودخل مكّة عنوةً، إنه لهلاك قريش إلى آخر
الدّهر. ثم ركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيضاء، وسار عليها ليرى
أحداً متّجهاً إلى مكّة، فيخبرهم بمكان رسول الله، لعلّهم يأتونه ويطلبون منه
الأمان. وفيما هو يسير، وإذا به يسمع صوت أبي سفيان، وكانت قريش قد أرسلته يتجسّس
لهم أخبار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، ولما
سمع صوته العباس قال: يا أبا حنظلة، فعرفه أبو سفيان، وقال: لبّيك يا أبا الفضل،
فقال له: ويحك، هذا رسول الله في عشرة آلاف مقاتل وهو مصبحكم، فقال: بأبي وأمّي، هل
من حيلة؟ قال: نعم، تركب معي عجز هذه البغلة لكي أذهب بك إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنّك. فقال: والله إني أرى ذلك.
فأردفه خلفه، واتجه نحو معسكر المسلمين، وكانوا قد أوقدوا النّيران ليلاً، وكلّما
مرّ به على جماعة من المسلمين قالوا: عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
بغلة رسول الله، وهو يسير نحو خيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فلمّا
انتهى إليها، أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: يا رسول الله،
هذا أبو سفيان، وهمّ بعض المسلمين بضرب عنقه. ولكنّ العباس قال: يا رسول الله، إني
قد أجرته، ثم لزمه وقال: والله لا يناجيه اللّيلة غيري، ثم التفت إلى عمّه العباس،
وقال: اِذهب به فقد أجرناه، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. قال العبّاس:
فلما أصبح، غدوت به على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتفت إليه وقال:
ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمّي
ما أحلمك وأكرمك! قد كان يقع في نفسي أنّه لو كان مع الله إله لأغنى عنا.
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي
وأمّي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه، إن في النفس منها شيئاً حتى الآن، فقال
له العباس: ويحك، تشهّد وقل: لا إله إلا الله محمّد رسول الله قبل أن تقتل - كما
جاء في رواية الواقدي والطبري - فشهد على كره منه حينما أدرك أنّ الموت ينتظره لحظة
بعد لحظة، وفي نفسه الخبيثة من نبوّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أشياء وأشياء،
وظلت تلك الأشياء في نفسه إلى أن مات.
وكانت تبدو منه بين الحين والآخر فلتات تدلّ على كفره، وعلى أنّه من أخبث المشركين
وأشدهم حقداً على الإسلام ونبيّ الإسلام، كما يبدو ذلك لكلّ من تتبّع تأريخه الأسود
منذ أن ادّعى الإسلام كرهاً حتى النفس الأخير من حياته.
فلمّا أطلت كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسط سواد شديد وغبرة من
سنابك الخيل، وجعل الناس يمرّون، وأبو سفيان يقول للعباس: أما مرّ محمد بعد؟
والعباس يقول له: لا، وفيما هم كذلك، وأبو سفيان يهزّه الحقد والبغض، وإذا بركب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطلّ عليهما، وكان على ناقته القصواء. فقال له
العبّاس: هذا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أبا سفيان في كتيبته
الخضراء، فجعل أبو سفيان ينظر ويرتعد، وكان قد حشد في تلك الكتيبة وجوه الصحابة من
المهاجرين، والأنصار، والألوية والرايات، وكلّهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا
الحدق، وفي الكتيبة ألفا دارع، وراية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع سعد
بن عبادة الأنصاري وهو أمام الكتيبة، فقال أبو سفيان للعباس: ما رأيت مثل هذه
الكتيبة قطّ ولا أخبرنيه مخبر، سبحانه الله! ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان، ولقد
أصبح ملك ابن أخيك عظيماً يا أبا الفضل، فقال له العباس: ويحك، ليس بملك وإنما هي
النبوّة. ولما حاذاهما حامل اللّواء سعد، نادى: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة،
اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً، ولما حاذاهما الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله وسلم) ناداه أبو سفيان: لقد أمرت بقتل قومك يا رسول الله، إنّ سعداً يقول:
اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً، فأنت أبرّ وأرحم
الناس وأوصلهم. ثم قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض أصحابه من المهاجرين: يا
رسول الله، إنّا لا نأمن سعداً، ونخشى أن تكون له في قريش صولة، فوقف رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) وناداه: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله
قريشاً، وأرسل عليّاً إلى سعد بن عبادة ليأخذ اللّواء منه ويدخل به مكّة، وهو ينادي
كما أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان
الحرمة.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خطّط لدخول مكّة من جهاتها الأربع،
ودخل عليّ (عليه السلام) باللّواء من الجهة التي دخلها النبيّ (صلى الله عليه وآله
وسلم)، كما نص على ذلك جماعة من المؤرّخين في سيرهم. ودخل رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلّم) مكّة بتلك الحشود التي تنساب من خلفه إلى أكبر معقل من معاقل الشّرك،
والفيلق الدراع الذي يحفّ به ينتظر منه ولو إيماءة، حتى لا يدع بمكّة أحداً يمشي
على أرضها، وتمثّلت له في تلك اللّحظات وهو على أبواب مكّة فصول طوال مروّعة ذاق
فيها الأمرّين خلال ثلاثة عشر عاماً، خرج منها في نهايتها مطروداً يكمن في الكهوف
نهاراً، ويسير ليلاً، خوفاً من القتل والتعذيب.
ثم إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا براحلته، بعد أن اغتسل وصلّى، فأدنيت
إلى باب الخيمة التي ضربت له بالحجون، وخرج منها يريد الكعبة، ومحمد بن مسلمة آخذاً
بزمامها، فتقدّم على راحلته حتى انتهى إلى البيت، فاستلم الرّكن وكبّر، فكبّر
المسلمون لتكبيره، وعجوا بالتكبير حتى ارتجّت مكة، وأشار إليهم أن اسكتوا،
والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف بالبيت على راحلته، وكان حول الكعبة ثلاثمائة
وستون صنماً، مرصوصة بالرصاص، وكان هبل أعظمها، وهو باتجاه الكعبة من ناحية بابها،
وأسافة ونائلة منصوبان أحدهما على الصّفا والآخر على المروة، حيث ينحرون ويذبحون
الذّبائح، فجعل كلّما مرّ بصنم منها، يشير بقضيب في يده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء: 81] ،
فيقع الصّنم لوجهه.
ثم أمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، ثم جلس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ناحية من
نواحي المسجد، وأرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة، يطلب منه مفتاح الكعبة، وكان
المفتاح بيد أمّه، فامتنعت عن تسليمه إيّاه، فقال: والله ليأتينّك غيري فيأخذه منك،
فدفعته إليه، فجاء به، فتناوله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبسط العبّاس يده
ليأخذه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اجمع لنا بين السقاية والحجابة، فقال:
إني أعطيكم ما ترضون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه، وأمر أن تفتح الكعبة، ففتحت له
ودخلها، وكانت التماثيل والصّور قد ملأت جدرانها من الدّاخل، فأمر من كان معه أن لا
يدع صورة إلا محاها، ولا تمثالاً إلا كسره، وبعد تنظيف داخل الكعبة صلّى فيها.
ثم خرج منها، وأخذ بعضادتي الباب، وأشرف على الناس، وبيده مفتاح الكعبة وأهل مكّة
قيام تحته، وبعضهم جلوس على الأرض، فخطب وقال: الحمد لله الّذي صدق وعده، ونصر عبده،
وهزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كلَّ مأثرة أو دم أو ربا في الجاهليّة فهو تحت قدميّ
هاتين، إلا سدانة الكعبة، وسقاية (الحاج) الحجّ.
ثم التفت إلى قريش، وقال: يا معشر قريش، إنّ الله سبحانه قد أذهب نخوة الجاهليّة
وتعظمها بالآباء، النّاس لآدم وآدم من تراب، ثم تلا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات: 13].
ثم وجّه حديثه إلى أهل مكّة ثانية وسألهم: ماذا ترون أني فاعل بكم وما تظنّون؟
قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك. فقال: إني أقول لكم ما
قاله أخي يوسف لإخوته: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء.
واطمأنّ المكيون على مصيرهم بعد هذا الإعلام العام، وبعد أن أصبحوا في قبضته،
وحياتهم جميعاً رهن إشارة أو كلمة واحدة يوجّهها لتلك الألوف المدججة بالسّلاح
القادرة على إبادتهم جميعاً في لحظات معدودات.
ولكنه بعث رحمةً للعالمين، فعفا عنهم جميعاً، وضرب بذلك للعالم كلّه وللأجيال في كلّ
عصر وزمان، أروع الأمثلة في الرّحمة، والترفّع عن الحقد والانتقام.
وجاء في طبقات ابن سعد وغيرها من كتب السّيرة: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أقام بمكة خمسة عشر يوماً، ينظّم خلالها شؤون مكّة، ويفقّه أهلها في الدّين. ثم
استعمل عليها عتاب بن أسيد، وترك معاذ بن جبل يعلّمهم السّنن والفقه.
*من سيرة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله).