أقبل الشيخ أبو معاذ في هذه الليلة، وهو يحمل لأصحابه حديث (بدر)، وبدأ حديثه
بصوته الهادئ الرّزين، وأسلوبه الجميل الجذّاب، يشدّ المستمعين إليه، قال: أيها
المسلمون: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله ينفلكموها .
وبهذه الفقرة القصيرة، استنفر رسول الله الناس على أبي سفيان - زعيم المشركين - وهو
عائد بتجارته من الشّام.
فقد كفى ما عاناه المسلمون من قريش وعنتها وبغيها وظلمها، ولماذا يبقى المسلمون في
تلكؤ، وقد أصبحت من القوة بما يمكنها من مقابلة المشركين، بعد أن ذاقوا منهم
الويلات، واضطروا إلى هجر مكة، والإقامة بالمدينة.
والرسول الأعظم لم يقم بعمل سلبي تجاه قريش وأحقادها - طيلة هذه المدة - إلا لأنه
لم يلمس في أصحابه العدة والعدد لمقابلة القوم، فكان موقفه الدفاع.
أما وقد رأى فيهم بعض الإمكانيّة، فلماذا لا يحرك النفوس، ويمرنهم للهجوم، وكانت
خير مناسبة هي اعتراض قافلة أبي سفيان، وهي بتجارة قريش تؤوب من الشّام، اشترك فيها
أهل مكّة جميعهم، بحيث لم يبق رجل ولا امرأة استطاعوا أن يسهموا في هذه القافلة إلا
فعلوا، حتى قدّرت بخمسين ألف دينار. ولهذا، فقد خفّ الكثير من المسلمين عند أمر
النبيّ لهم بنهب القافلة، كما تثاقل جماعة عن الخروج تحسّباً للمشاكل التي تستتبعها.
- يا أبا الحارث: أسمعت نداء الرّسول، وهل أنت ملبّيه؟.
- نعم يا أبا معبد.
- جزاك الله خيراً يا أبا الحارث.
وكان المقداد بن عمرو البهراني، والمقداد بن الأسود أبو عبد الله، يهمّه كثيراً أمر
صاحبه أبي الحارث عتبة غزوان، فقد كانا مسلمين يتكتّمان بإسلامهما في مكّة، ولم
يتمكّنا من التّظاهر في الهجرة مع المهاجرين، وبقيا ينتظران الفرصة المناسبة.
وأعلن المشركون أنّ جيشاً بقيادة عكرمة بن أبي جهل يتوجّه لغزو محمد، وفي عشيّة
اليوم، يزحف القوم، وقصد عتبة صاحبه المقداد.
- يا أبا معبد، مناسبة رائعة لو نخرج معهم، وعندما نصل إلى جيش المسلمين ننحاز لهم.
- نعم، الرأي ما تقول. وانضما إلى الجيش الزاحف
وبلغ الرسول الأعظم نبأ هذا الزحف، فأرسل سريّة من المسلمين يتراوح عددها بين
الستين والثمانين نفراً، وكلّهم من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد، وأمر
عليهم عبيد بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف.
وسار المسلمون حتى بلغوا ماءً في أسفل ثنية المرّة، ولم تقع بينهما حرب، إذ انتهت
باتفاق، وانصرف المشركون عائدين إلى مكّة.
وكانت اللحظة الحاسمة بالنسبة للمقداد وعتبة، فلم يكد ينشغل جيش العدو بأمر عودته،
حتى فرَّ المقداد وصاحبه إلى المسلمين، واستقبلهما المسلمون بكلّ ترحاب، وعند
عودتهم إلى المدينة، رحّب الرسول بالمقداد، فقد كان من أصحابه الأوائل، واستمرّ
المقداد بصلته، فلم يكن جديد عهد بالإسلام، فهو سابع رجل آمن بالدّعوة، وكان يروي
الرسول أن الله أمر بحبّ أربعة: علي وسلمان وأبي ذرّ والمقداد، ولهذا عندما وصل إلى
المدينة، كان أحد المقرَّبين إلى رسول الله، والملازمين له، وكان المقداد متحمّساً
- بعد أن وصل إلى المدينة - لنهب قافلة قريش، وخاصة أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله)
يريد ذلك، ولم يخف على أبي سفيان، وهو في طريقه إلى مكّة، أنّ رسول الله استنصر
أصحابه على قافلته، فأرسل رسولاً عاجلاً إلى قريش يوقفهم على النبأ، وعلّمه كيف
يثيرهم.
ودخل الرّسول مكّة، وقد قطع أذني بعيره، وجدع أنفه وحوّل رحله، ووقف هو عليه، وقد
شقّ قميصه من قُبل ودُبر، وهو يصيح: يا معشر قريش! اللّطيمة اللّطيمة، أموالكم مع
أبي سفيان، وقد عرض لها محمّد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث... الغوث.
وهزّ هذا الصياح أرجاء مكّة، ووقف الناس كلّهم على أهبة الاستعداد، لا بغضاً بمحمّد،
ولا حبّاً لأبي سفيان، إنما لكلّ منهم نصيب في هذه العير، وهذا لم يمنع أبا جهل،
وعقبة بن أبي معيط، أن يأتيا إلى المسجد، وبيد عقبة مجمرة فيها بخور، وبيد أبي جهل
مكحلة ومرود، وهما يتنقلان بين المتقاعسين من الخروج لنصرة عير أبي سفيان، يقولان
له: استجمر فإنما أنت من النساء، أو اكتحل فإنما أنت امرأة.
وتحشدت قريش استعداداً للزّحف، ودار في كلّ بيت حديث لهم أنها المرة الأولى، فلو تم
لمحمد ما أراد، لم تبق لقريش مهابة بعدها.
إنّ قريشاً وغير قريش من الّذين ضاقوا ذرعاً بهذه الدّعوة الفتية، كانوا يخشون هذا
اليوم، الذي كانوا يحسبون له كلّ الحساب، فهذا محمد الذي تحدثوا عن دعوته، كلّما
جال على لسانهم من بذيء القول وخشن الكلام، وصبّوا على أتباعه وأصحابه كلّ ما في
طاقتهم من التعذيب والتعسف، وإذا بالأيّام تدور، وتصبح له القابلية على مقابلتها،
فيعتزم مهاجمة عيرها.
وتصل أخبار قريش إلى الرسول تباعاً، وهو بالمدينة يتأهّب للخروج، ويجمع أصحابه في
رحبة المسجد، ليخبرهم بتصميمه على الغزو، ويطلب رأي المهاجرين، وإذ ضعُفت نفوس
وتخوّفت أخرى بعد أن بلغهم أن قريشاً زحفت بصناديدها، وقف المقداد وسط الجمع بكلّ
جرأة يقول: يا رسول الله، اِمض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت
بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ}[المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي
بعثك بالحقّ، لو سرت بنا إلى برك الغماد (موضع بناحية اليمن، ويقال: هو أقصى هجر)،
لجالدنا معك، وقاتلنا من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً ودعا له، وأشرق وجهه وسرَّه وأعجبه.
قال ابن مسعود: تمنيت هذا الموقف من المقداد أن يكون لي، هو أحبّ إليَّ مما طلعت
عليه الشّمس.
ثم التفت النبيّ للأنصار، وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس.
قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله.
قال النبيّ: أجل.
قال: فقد آمنّا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك
عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو
الذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل
واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً، إنّا لصُبر في الحرب، صُدق في اللّقاء،
لعلّ الله يريك منا ما تقرَّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله.
وما إن أتمّ سعد كلامه، حتى هلهلت امرأة من الطرف الآخر وهي تقول: مرحباً بك يا
سيّدنا، لا فضَّ الله فاك.
والتفت القوم كلّهم إليها، وبدت عليهم الفرحة، هذه هي النّساء والرّجال تشدُّ أزر
رسولها في عزيمته، والبشرى تطفح على وجوههم، والإيمان يقوّي نفوسهم، ويدور همس بين
القوم من المستبشرة؟ إنها (أم عمارة) يا رسول الله، ومعها لمة من نساء الأنصار
يعرضن أنفسهن للنّصرة.
جزاهن الله خيراً، فليرجعن إلى أخبيتهن، ففي الرّجال الكفاية.
لقد اندفع أصحاب النبيّ إلى الاستعداد، فقد بلغ الأمر أن يتنازع الأب والابن على
الخروج، يقول القائلون: تنازع سعد بن خيثمة مع أبيه أيّهما يبقى مع النّساء.
فقال سعد لأبيه: إنّه لو كان غير الجنّة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا.
فقال خيثمة: آثرني وقرّ مع نسائك، فأبى سعد.
فقال خيثمة: إنّه لا بدّ لأحدنا من أن يقيم فاسهما، فخرج سهم سعد، فقتل ببدر.
ويتحدّث المتحدّثون: إنّ عمير بن أبي وقاص كان صغيراً، فأخذ يتوارى عندما استعرض
رسول الله أصحابه، فقيل له: لماذا تعمل هكذا يا عمير؟ فقال: أخاف أن يراني رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فيستصغرني، فيردّني، وأنا أحبّ الخروج، لعلّ الله يرزقني
الشهادة. فعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاستصغره، فقال له: ارجع، فبكى
عمير، فأجازه. وكان يقصر له حمائل سيفه لصغره، فقتل ببدر وهو ابن ستّ عشرة سنة.
وأعلن الرسول ساعة الرحيل في صباح لم تشرق فيه الشّمس بعد من أيّام رمضان في السنة
الثانية للهجرة، وعددهم لم يتجاوز الثّلاثمائة وخمسة أشخاص.
قد ملكوا من الإبل سبعين بعيراً، وكانوا يتعاقبونها، حتى رسول الله، فقد أردف خلفه
عليّ بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وذكر أنّ المقداد كان فارساً.
وكانت راية المهاجرين بيد عليّ بن أبي طالب، وراية الأنصار - من الأوس والخزرج - مع
سعد بن معّاذ.
وبعد قليل، صاح رسول الله بأعلى صوته: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى
الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم، وعلى جانبي الطّريق، وقفت نساء
المهاجرين والأنصار يودّعن الرّكب الرّاحل بقلوب مفعمة بالإيمان والإجلال، وزغردات
تبشّر بالنّصر والمجد.
لم تمضِ أيّام، حتى تقابل الطرفان يستقبلان الحرب، ورفع رسول الله يديه إلى السّماء
قائلاً: اللّهمّ إنّك أنزلت عليَّ الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين،
وأنت لا تخلف الميعاد، اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تخاذل وتكذب
رسولك. اللّهم نصرك الذي وعدتني به .
ودارت رحى الحرب سجالاً، يجول إمام المسلمين عليّ بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب،
وغيرهما من أبطال المسلمين الأشاوس، يكشفون الغبرة عن وجه المسلمين، ويجندلون
الأبطال من المشركين، وكانوا يكرّون على الأعداء وعليّ يصيح، وهو يضرب بطلاً من
أبطالهم، خذها وأنا ابن أبي طالب، فيجيبه حمزة، وهو يشدّ على الفارس منهم ويجندله،
ويصيح: خذها وأنا ابن عبد المطلب، وهكذا بقيّة المغاوير.
وما هي إلا فترة من الزّمن، حتى وضعت الحرب أوزارها، وانتصر المسلمون، ولاقى من
المشركين حتفه كلّ من أبي جهل وأميّة بن حلف، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وغيرهم
من قادة المشركين.
وانهزمت قريش شرّ هزيمة، حتى نقل عن عبد الله بن عمرو بن أميّة قال: أخبرني من
انكشف من قريش يومئذٍ منهزماً، وإنّه ليقول في نفسه: ما رأيت مثل هذا فرّ منه إلا
النّساء.
وقال آخر: شهدت مع المشركين بدراً، وإني لأنظر إلى قلّة أصحاب محمد في عيني، وكثرة
من معنا من الخيل والرّجل، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد رأيتني، وإني لأنظر إلى
المشركين في كلّ وجه، واني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الأمر فرّ منه إلا
النّساء.
وطوت المعركة أنفاس عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأبي جهل، وأميّة بن خلف، وأمثال
هؤلاء الطواغيت، ولكنّ أبا سفيان لم يخمد، وهو رأس الفتنة، وزعيمهم.
وجنَّ اللّيل، وقد هدأت الأنفاس المتعبة من ثقل الحرب، وهوَّمت العيون، التي أرهقت
من يوم عسير الحركة، دامي الوجه، فخرج رسول الله، ومن خلفه من أصحابه يحرسونه، منهم
علي، والمقداد، ووقف على البئر - الّذي أمر فطرح به جثث المشركين - .
وقال: يا أهل القليب، يا عُتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أميّة بن خلف، ويا
أبا جهل، - ثم أتى بأسماء بعض من كان منهم في القليب -: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً؟
فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقّاً.. يا أهل القليب، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم،
كذّبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني النّاس، هل
وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً .
فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوماً قد أجيفوا .
قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
وعاد المسلمون إلى المدينة، والنصر يرفرف عليهم، ولكنّ الأيام لم تدع المسلمين في
راحة. فقريش لم تنم على ضيم، وبقيت تلاحق النبيّ كلّما ساعدتها ظروفها، من غزوة إلى
أخرى، والمقداد الذي أخلص لنبيّه، وآمن بدعوته، كان لساناً صادقاً له، وسيفاً
مخلصاً في وجه أعدائه، لم تمنعه مانعة عن مصاحبة نبيّه في غزواته، ولا تقاعس عن
نصرته لحظةً ما.
وآخى الرسول (صلى الله عليه وآله) بين المقداد وبين عبد الله بن رواحة، وقيل بينه
وبين أبي ذرّ الغفاريّ.
وكان موقفه المشرّف يتجلّى مع عليّ بن أبي طالب بعد وفاة الرّسول، فقد وفى له، يخوض
غمار الموت دونه، ويدفع عنه الأخطار ما استطاع، وشهد فتح مصر، ولم يتخلّف عن واجبه
الدّيني، فهو جنديّ في ساحة الميدان، وموجّه في مضمار الدّعوة، وأمين على الدعوة
يوم تزعزع النّاس.
رحم الله المقداد، فقد كان من الفضلاء النّجباء، الكبار الأخيار من أصحاب النبيّ
(صلى الله عليه وآله) وممن رعاهم بعنايته، حتى روي عنه أنّه قال أكثر من مرّة:
أمرني ربي بحبّ أربعة، وأخبرني أنّه سبحانه يحبّهم، وهم: عليّ، وأبو ذرّ، والمقداد،
وسلمان .
وفي العام 33 هـ، لبّى نداء ربّه في أرضه بالجرف، وحمل إلى المدينة، فدفن بها، وكان
ابن سبعين.
وإذا مرَّت هذه السنين الطوال على وفاة المقداد، فله في أفكار المسلمين ذكرى عطرة،
وصفحة مشرقة تمتدّ مع الأيام وشروق الإسلام.
*من كتاب "بين يَدي الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)".