شهادة محمد بن أبي بكر

شهادة محمد بن أبي بكر

اجتمع المجلس في رحبة الكوفة، ضمّ عدداً ممن صهرتهم الأيّام بشدّتها، وأرهقتهم بآلامها، وهم يترقبون أخبار مصر وواليها، وخيم عليهم صمت، وغاب كل منهم في فكر، شيء غير طبيعي، الوجوم، والارتباك، والوحشة.

إن معاوية أخذ يعلنها حرباً شعواء على الإمام علي (عليه السلام)، ويطارد أصحابه ويفعل الأفاعيل، والقوم لم يحركهم قول، ولم يدفعهم ثأر.

لم يكن علي بالثائر اليوم اعتباطاً، عندما خطب فيهم، بعدما بلغه التكالب الأموي على محمد بن أبي بكر؛ واليه على مصر، وقال فيما قال: "أما بعد، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النابغة، عدو الله، وعدو من والاه، ووليّ من عادى الله، فلا يكون أهل الضلال إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت أشدّ اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقّكم...".

ومع هذا، فقد انشدت الكوفة إلى أخبار مصر، والجيش الزاحف عليها من قبل معاوية بقيادة عمرو بن العاص، وما سيكون مصير واليها محمد بن أبي بكر.

مصر كانت حلم ابن العاص أن يستولي عليها الجيش الأموي، فإنه يطمع بها، وليس له إلا عن طريق معاوية، فكل منهما متمم للآخر، ولم يكن هذا بالجديد، فقد ورد عن الرسول الأعظم عن طريق زيد بن أرقم، وعبادة بن الصامت، مرفوعاً: "إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين، ففرقوا بينهما، فإنهما لن يجتمعا على خير ."

فكر معاوية كثيراً في مصر؛ لأن فيها خراجاً مهماً، ومنفعة بالغة، وعرف أن فيها استعداداً لإعلان العصيان على الإمام علي(عليه السلام)، فقد كان قوم فيها ساءهم قتل عثمان، وحمّلوا علياً تلك المسؤولية، ولم تكن تلك إلا من تأثيرات معاوية، فجمع عدداً من أصحابه من أمثال عمرو بن العاص، وبسر بن أرطأة، وغيرهما، ممن جمعتهم ـ من معاوية ـ وحدة الطلب.

وعندما تكامل العدد، قال معاوية: أتدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا: لا. قال: فإني دعوتكم لأمر، هو لي مهمّ، وأرجو أن يكون الله عزّ وجلّ قد أعان عليه. فقال له القوم: إنّ الله لم يطلع على غيبه أحداً، ولسنا ندري ما تريد! فقال عمرو بن العاص: أرى والله، أن أمر هذه البلاد المصرية لكثرة خراجها، وعدد أهلها؛ قد أهمّك، فدعوتنا تسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فأعزم وأصرم، ونعم الرأي ما رأيت! إن في افتتاحها عزّك، وعزّ أصحابك، وذلّ عدوّك، وكبت أهل الخلاف عليك..

قال معاوية: "أهمَّك ما أهمَّك يا بن العاص!".. وذلك أنّ عمراً كان قد بايع معاوية على قتال علي، تكن مصر له طعمة ما بقي.

فأقبل معاوية على أصحابه، وقال إنّ هذا ـ ويعني ابن العاص ـ قد ظنّ، وحقّق ظنه، قالوا: ولكنا لا ندري أبا عبد الله قد أصاب.

فقال عمرو: وأنا أبو عبد الله، إنّ أفضل الظنون ما شابه اليقين.. وبعد صمت خيّم على المجلس، قطعه معاوية قائلاً: رأيت أن أحاول حرب مصر، فماذا ترون؟ فقال عمرو بن العاص: قد أخبرتك عمّا سألت، وأشرت عليك بما سمعت.

فقال معاوية لبقيّة الصحب: ما ترون؟ قالوا: نرى ما رأى عمرو بن العاص. فقال معاوية: إنّ عمراً قد عزم وصرم بما قال، ولم يفسّر بكيف ينبغي أن نصنع !وتمّ الاتفاق بين القوم على غزو مصر، وجهّز لها جيشاً بقيادة ابن العاص، وخرج معاوية يودعه، وقلبه يركض معه ليبلغ مصر، وهو يقول: أنظره، فإن تاب وأناب قبلت منه، وإن أبى، فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجّة وأحسن في العاقبة.

كانت الأخبار من مصر تصل للإمام علي سريعة، فيقف منها على بيّنة، وكان أمر محمد يهمّ علياً كثيراً، فقد كان يثني عليه ويفضّله، لأنه كانت له عبادة واجتهاد.

ولقد قيل للإمام علي (عليه السلام): لقد جزعت على محمد بن أبي بكر يا أمير المؤمنين.

فقال: "ما يمنعني؟ إنّه كان لي ربيباً، وكان لبنيّ أخاً، وكنت له والداً، أعدّه ولدا" .

محمد ذلك الرجل الذي قضى شبابه في مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، ينتهل من نميرها، وحتى أصبح له ساعداً شامخاً، وصاحباً بصيراً، لا يحيد عنه في أحلك الظروف، وقف إلى جانبه في كلّ أدوار حياته، ولو كان محمد لا يحمل في جنبيه نفسية الرجل المؤمن المجاهد، الذي أخلص لدينه وعقيدته، لكان من الممكن لمعاوية أن يتسلّل إلى روحية ابن أبي بكر، ويتسلّط عليها بأيّ لون كان من الإغراء، كما فعل مع الكثير من الصحابة والتابعين، ممن هم أقدم صلة بالرسول، وأكبر سنّاً من هذا الفتى المؤمن...

وهكذا كان في صفين يجول في وسط الميدان إلى جانب عليّ، وهو لا يبغي من دنياه إلا رضا الله ورضا رسوله، ورضا إمامه عليّ.

ووصل ابن العاص إلى مصر يخبّ السير بجيشه الجبار، واستعدّ له ابن أبي بكر استعداد البطل الصامد، وخطب في قومه: أما بعد، يا معاشر المسلمين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضّلالة، ويشبون نار الفتنة، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود، فمن أراد الجنّة والمغفرة، فليخرج إلى هؤلاء القوم، فليجاهدهم في الله..

وتقدّم كنانة بن بشر، قائداً على جيش محمد بن أبي بكر، وتقدّم قائد الجيش الأموي معاوية بن خديج السكوني. وتصاول الجيشان برهةً من الزمن، ولكن القوات الشامية برئاسة ابن العاص، كانت اكثر عدّة وعدداً.

ولما رأى كنانة بن بشر أنّ الجيش الأموي قد طوّقه من كلّ جانب، نزل عن فرسه ونزل أصحابه، أخذوا يحاربون رجاله وهو يقول: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 145] ، فلم يزل يضاربهم بسيفه، حتى استشهد رحمه الله.

ووصلت الأخبار إلى محمد بن أبي بكر ـ وهو في جانب من الميدان يدير المعركة ـ تفيد عن مقتل كنانة، وتفرّق القوم من حوله، ولم تمرّ عليه برهة، حتى بقي وحيداً؛ مما اضطرّ أن ينتهي إلى خربة، فآوى إليها، ودخل ابن العاص الفسطاط، وأكّد على معاوية بن حديج أن يقبض على محمد، وفعلاً عثر عليه وهو يكاد يموت من العطش، فقاتلهم قتال الأبطال، ولكنهم تمكّنوا من القبض عليه، وانتزعوا منه سيفه، وأقبلوا به إلى الفسطاط، حيث استقرّ فيها ابن العاص.

ووقف الأسير في وسط المجلس، ولكن بقوّة وصبر وثبات، رغم ما أصابه من العطش، فطلب قليلاً من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، والله لأقتلنّك يا بن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الجحيم والغسلين.

وانتفض محمد، وهو البطل، صارخاً في وجهه: يا بن اليهودية النساجة، ليس ذلك اليوم إليك، إنّما ذلك الله يسقي أولياءه ويظمي أعداءه، وهم أنت وقرناؤك، ومن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي، ما بلغتم مني ما بلغتم.

فقال معاوية: أتدري ما نصنع بك؟ ندخلك في جوف حمار ميت، ثم نحرقه عليك بالنار.

قال محمد: إن فعلتم ذاك بي، فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله، إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها ـ يا معاوية ـ برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية بن أبي سفيان، وهذا ـ وأشار إلى عمرو بن العاص ـ بنار تلظى، كلّما خبت زادها الله عليكم سعيراً.

فغضب معاوية، والتفت إلى ابن العاص، يطلب منه الإذن، فأشار إليه بذلك، ثم سبّ عليّاً، وقدّم الصابر المجاهد فضرب عنقه، وقطع رأسه، وأدخل جثّته ـ هو وابن العاص ـ في جوف حمار وأحرقوه بالنّار.

وأرسل ابن العاص رأسه إلى الشام لمعاوية، فطيف بدمشق بعد أن زين المدينة، وجلل مجالس السمر بالكوفة شبه ذهول، فقد بلغها قتل محمد، وحزن عليه عليّ (عليه السلام) حزناً عميقاً، ثم رثى محمداً وابنه وقلبه يتفطّر أسى ولوعة، وقال فيما قال: "ألا وإنَّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظّلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجاً، ألا وإنَّ محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت، ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحبّ سمت المؤمن"....

ولملم عليّ (عليه السلام) جراحه، وأضاف إليها جرحاً جديداً، فقد اصطدم بعزيز من أصحابه، حيث يقول فيه: "فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحرب جزعي عليه، كان لي ربيباً وكنت أعدّه ولداً، وكان بي براً، فعلى مثل هذا نحزن، وعند الله نحتسبه" .

وأطلّ النبأ الحزين على المدينة، وفي طيّاته أكثر من ذكرى، وماج فيها مصاب، ولوّعها ما قدر، وروعت عائشة زوج الرسول الأعظم وأخته، وجزعت عليه جزعاً شديداً، وكانت في دبر كلّ صلاة تدعو على معاوية وابن العاص. ثم حلفت أن لا تأكل شواءً أبداً بعد قتل محمد، حتى لحقت بالله، وما عثرت قطّ إلا قالت: تعس معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج!

وإنّ أمّه أسماء بنت عميس، لما نعي إليها ولدها، وما صنع به، قامت إلى مسجدها، وكظمت غيظها، حتى تشخّبت دماً..

أسرع المبشّرون إلى معاوية يحملون له كتاب ابن العاص يخبره فيه عن مقتل ابن أبي بكر، وكنانة بن بشر، فأذن معاوية بقتله على المنبر، وسر سروراً عظيماً.

يقول الراوي للإمام عليّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، ما رأيت يوماً قطّ سروراً مثل سرور رأيته بالشّام، حين قتل محمد بن أبي بكر.

قال الإمام: "إنّ حزننا على قتله، على قدر سرورهم به، لا، بل يزيد أضعافاً".

وكما يقول المثل: "والفضل ما شهدت به الأعداء". فقد استولى ابن العاص على كتاب الإمام عليّ، الذي وجّهه إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر، وبعث به إلى معاوية، فكان ينظر إليه ويتعجّب، فقال له الوليد بن عقبة، وهو عند معاوية، وقد رأى إعجابه به: مرْ بهذه الأحاديث أن تحرق.

فقال معاوية: مه، لا رأي لك فقال الوليد: أفمن الرأي أن يعلم النّاس أنّ أحاديث أبي تراب عندك تتعلّم منها؟

قال معاوية: ويحك! أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم هو أجمع منه، ولا أحكم...

*من كتاب "من مدرسة الامام عليّ(ع).

اجتمع المجلس في رحبة الكوفة، ضمّ عدداً ممن صهرتهم الأيّام بشدّتها، وأرهقتهم بآلامها، وهم يترقبون أخبار مصر وواليها، وخيم عليهم صمت، وغاب كل منهم في فكر، شيء غير طبيعي، الوجوم، والارتباك، والوحشة.

إن معاوية أخذ يعلنها حرباً شعواء على الإمام علي (عليه السلام)، ويطارد أصحابه ويفعل الأفاعيل، والقوم لم يحركهم قول، ولم يدفعهم ثأر.

لم يكن علي بالثائر اليوم اعتباطاً، عندما خطب فيهم، بعدما بلغه التكالب الأموي على محمد بن أبي بكر؛ واليه على مصر، وقال فيما قال: "أما بعد، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النابغة، عدو الله، وعدو من والاه، ووليّ من عادى الله، فلا يكون أهل الضلال إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت أشدّ اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقّكم...".

ومع هذا، فقد انشدت الكوفة إلى أخبار مصر، والجيش الزاحف عليها من قبل معاوية بقيادة عمرو بن العاص، وما سيكون مصير واليها محمد بن أبي بكر.

مصر كانت حلم ابن العاص أن يستولي عليها الجيش الأموي، فإنه يطمع بها، وليس له إلا عن طريق معاوية، فكل منهما متمم للآخر، ولم يكن هذا بالجديد، فقد ورد عن الرسول الأعظم عن طريق زيد بن أرقم، وعبادة بن الصامت، مرفوعاً: "إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين، ففرقوا بينهما، فإنهما لن يجتمعا على خير ."

فكر معاوية كثيراً في مصر؛ لأن فيها خراجاً مهماً، ومنفعة بالغة، وعرف أن فيها استعداداً لإعلان العصيان على الإمام علي(عليه السلام)، فقد كان قوم فيها ساءهم قتل عثمان، وحمّلوا علياً تلك المسؤولية، ولم تكن تلك إلا من تأثيرات معاوية، فجمع عدداً من أصحابه من أمثال عمرو بن العاص، وبسر بن أرطأة، وغيرهما، ممن جمعتهم ـ من معاوية ـ وحدة الطلب.

وعندما تكامل العدد، قال معاوية: أتدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا: لا. قال: فإني دعوتكم لأمر، هو لي مهمّ، وأرجو أن يكون الله عزّ وجلّ قد أعان عليه. فقال له القوم: إنّ الله لم يطلع على غيبه أحداً، ولسنا ندري ما تريد! فقال عمرو بن العاص: أرى والله، أن أمر هذه البلاد المصرية لكثرة خراجها، وعدد أهلها؛ قد أهمّك، فدعوتنا تسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فأعزم وأصرم، ونعم الرأي ما رأيت! إن في افتتاحها عزّك، وعزّ أصحابك، وذلّ عدوّك، وكبت أهل الخلاف عليك..

قال معاوية: "أهمَّك ما أهمَّك يا بن العاص!".. وذلك أنّ عمراً كان قد بايع معاوية على قتال علي، تكن مصر له طعمة ما بقي.

فأقبل معاوية على أصحابه، وقال إنّ هذا ـ ويعني ابن العاص ـ قد ظنّ، وحقّق ظنه، قالوا: ولكنا لا ندري أبا عبد الله قد أصاب.

فقال عمرو: وأنا أبو عبد الله، إنّ أفضل الظنون ما شابه اليقين.. وبعد صمت خيّم على المجلس، قطعه معاوية قائلاً: رأيت أن أحاول حرب مصر، فماذا ترون؟ فقال عمرو بن العاص: قد أخبرتك عمّا سألت، وأشرت عليك بما سمعت.

فقال معاوية لبقيّة الصحب: ما ترون؟ قالوا: نرى ما رأى عمرو بن العاص. فقال معاوية: إنّ عمراً قد عزم وصرم بما قال، ولم يفسّر بكيف ينبغي أن نصنع !وتمّ الاتفاق بين القوم على غزو مصر، وجهّز لها جيشاً بقيادة ابن العاص، وخرج معاوية يودعه، وقلبه يركض معه ليبلغ مصر، وهو يقول: أنظره، فإن تاب وأناب قبلت منه، وإن أبى، فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجّة وأحسن في العاقبة.

كانت الأخبار من مصر تصل للإمام علي سريعة، فيقف منها على بيّنة، وكان أمر محمد يهمّ علياً كثيراً، فقد كان يثني عليه ويفضّله، لأنه كانت له عبادة واجتهاد.

ولقد قيل للإمام علي (عليه السلام): لقد جزعت على محمد بن أبي بكر يا أمير المؤمنين.

فقال: "ما يمنعني؟ إنّه كان لي ربيباً، وكان لبنيّ أخاً، وكنت له والداً، أعدّه ولدا" .

محمد ذلك الرجل الذي قضى شبابه في مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، ينتهل من نميرها، وحتى أصبح له ساعداً شامخاً، وصاحباً بصيراً، لا يحيد عنه في أحلك الظروف، وقف إلى جانبه في كلّ أدوار حياته، ولو كان محمد لا يحمل في جنبيه نفسية الرجل المؤمن المجاهد، الذي أخلص لدينه وعقيدته، لكان من الممكن لمعاوية أن يتسلّل إلى روحية ابن أبي بكر، ويتسلّط عليها بأيّ لون كان من الإغراء، كما فعل مع الكثير من الصحابة والتابعين، ممن هم أقدم صلة بالرسول، وأكبر سنّاً من هذا الفتى المؤمن...

وهكذا كان في صفين يجول في وسط الميدان إلى جانب عليّ، وهو لا يبغي من دنياه إلا رضا الله ورضا رسوله، ورضا إمامه عليّ.

ووصل ابن العاص إلى مصر يخبّ السير بجيشه الجبار، واستعدّ له ابن أبي بكر استعداد البطل الصامد، وخطب في قومه: أما بعد، يا معاشر المسلمين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضّلالة، ويشبون نار الفتنة، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود، فمن أراد الجنّة والمغفرة، فليخرج إلى هؤلاء القوم، فليجاهدهم في الله..

وتقدّم كنانة بن بشر، قائداً على جيش محمد بن أبي بكر، وتقدّم قائد الجيش الأموي معاوية بن خديج السكوني. وتصاول الجيشان برهةً من الزمن، ولكن القوات الشامية برئاسة ابن العاص، كانت اكثر عدّة وعدداً.

ولما رأى كنانة بن بشر أنّ الجيش الأموي قد طوّقه من كلّ جانب، نزل عن فرسه ونزل أصحابه، أخذوا يحاربون رجاله وهو يقول: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 145] ، فلم يزل يضاربهم بسيفه، حتى استشهد رحمه الله.

ووصلت الأخبار إلى محمد بن أبي بكر ـ وهو في جانب من الميدان يدير المعركة ـ تفيد عن مقتل كنانة، وتفرّق القوم من حوله، ولم تمرّ عليه برهة، حتى بقي وحيداً؛ مما اضطرّ أن ينتهي إلى خربة، فآوى إليها، ودخل ابن العاص الفسطاط، وأكّد على معاوية بن حديج أن يقبض على محمد، وفعلاً عثر عليه وهو يكاد يموت من العطش، فقاتلهم قتال الأبطال، ولكنهم تمكّنوا من القبض عليه، وانتزعوا منه سيفه، وأقبلوا به إلى الفسطاط، حيث استقرّ فيها ابن العاص.

ووقف الأسير في وسط المجلس، ولكن بقوّة وصبر وثبات، رغم ما أصابه من العطش، فطلب قليلاً من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، والله لأقتلنّك يا بن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الجحيم والغسلين.

وانتفض محمد، وهو البطل، صارخاً في وجهه: يا بن اليهودية النساجة، ليس ذلك اليوم إليك، إنّما ذلك الله يسقي أولياءه ويظمي أعداءه، وهم أنت وقرناؤك، ومن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي، ما بلغتم مني ما بلغتم.

فقال معاوية: أتدري ما نصنع بك؟ ندخلك في جوف حمار ميت، ثم نحرقه عليك بالنار.

قال محمد: إن فعلتم ذاك بي، فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله، إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها ـ يا معاوية ـ برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية بن أبي سفيان، وهذا ـ وأشار إلى عمرو بن العاص ـ بنار تلظى، كلّما خبت زادها الله عليكم سعيراً.

فغضب معاوية، والتفت إلى ابن العاص، يطلب منه الإذن، فأشار إليه بذلك، ثم سبّ عليّاً، وقدّم الصابر المجاهد فضرب عنقه، وقطع رأسه، وأدخل جثّته ـ هو وابن العاص ـ في جوف حمار وأحرقوه بالنّار.

وأرسل ابن العاص رأسه إلى الشام لمعاوية، فطيف بدمشق بعد أن زين المدينة، وجلل مجالس السمر بالكوفة شبه ذهول، فقد بلغها قتل محمد، وحزن عليه عليّ (عليه السلام) حزناً عميقاً، ثم رثى محمداً وابنه وقلبه يتفطّر أسى ولوعة، وقال فيما قال: "ألا وإنَّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظّلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجاً، ألا وإنَّ محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت، ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحبّ سمت المؤمن"....

ولملم عليّ (عليه السلام) جراحه، وأضاف إليها جرحاً جديداً، فقد اصطدم بعزيز من أصحابه، حيث يقول فيه: "فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحرب جزعي عليه، كان لي ربيباً وكنت أعدّه ولداً، وكان بي براً، فعلى مثل هذا نحزن، وعند الله نحتسبه" .

وأطلّ النبأ الحزين على المدينة، وفي طيّاته أكثر من ذكرى، وماج فيها مصاب، ولوّعها ما قدر، وروعت عائشة زوج الرسول الأعظم وأخته، وجزعت عليه جزعاً شديداً، وكانت في دبر كلّ صلاة تدعو على معاوية وابن العاص. ثم حلفت أن لا تأكل شواءً أبداً بعد قتل محمد، حتى لحقت بالله، وما عثرت قطّ إلا قالت: تعس معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج!

وإنّ أمّه أسماء بنت عميس، لما نعي إليها ولدها، وما صنع به، قامت إلى مسجدها، وكظمت غيظها، حتى تشخّبت دماً..

أسرع المبشّرون إلى معاوية يحملون له كتاب ابن العاص يخبره فيه عن مقتل ابن أبي بكر، وكنانة بن بشر، فأذن معاوية بقتله على المنبر، وسر سروراً عظيماً.

يقول الراوي للإمام عليّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، ما رأيت يوماً قطّ سروراً مثل سرور رأيته بالشّام، حين قتل محمد بن أبي بكر.

قال الإمام: "إنّ حزننا على قتله، على قدر سرورهم به، لا، بل يزيد أضعافاً".

وكما يقول المثل: "والفضل ما شهدت به الأعداء". فقد استولى ابن العاص على كتاب الإمام عليّ، الذي وجّهه إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر، وبعث به إلى معاوية، فكان ينظر إليه ويتعجّب، فقال له الوليد بن عقبة، وهو عند معاوية، وقد رأى إعجابه به: مرْ بهذه الأحاديث أن تحرق.

فقال معاوية: مه، لا رأي لك فقال الوليد: أفمن الرأي أن يعلم النّاس أنّ أحاديث أبي تراب عندك تتعلّم منها؟

قال معاوية: ويحك! أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم هو أجمع منه، ولا أحكم...

*من كتاب "من مدرسة الامام عليّ(ع).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية