إنَّ عمّاراً وما تحمّله من مشاق وجهود في سبيل الدين وإرساء دعائم المجتمع
الإسلامي الفتي، لهي صفحة مشرقة تتألق في التأريخ الإسلامي؛ فكان ذا بصيرة ثاقبة،
ورؤية نافذة، وخطوات وطيدة، فقد كان يرى الشرك على حقيقته من بين ركام المكر
والخديعة والظواهر المموّهة بالإسلام والتوحيد، وكان يقف وقفة مهيبة أمام راية أهل
الشام ويقول:
"والذي نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث
مرات، وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفت
أنّ مصلحينا على الحقّ، وأنهم على الضلالة".
وهكذا، كان وجود عمار في صفين باعثاً على زهو البعض، ومولّداً الذعر في نفوس البعض
الآخر، ومثيراً للتأمل عند آخرين.
ولما علم الزبير بحضوره في معركة الجمل، طفق يتضعضع. وأراب وجوده في صفين كثيراً من
أصحاب معاوية، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قد قال له: "تقتلك الفئة
الباغية"، وقال: "يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وعمار في أهل الحقّ، تقتله الفئة
الباغية"، وقال: "ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحقّ، ولن تأكل النار منه شيئاً"، وقال:
"إذا اختلف الناس، كان ابن سمية مع الحقّ...".
وحاول الكثيرون أن يروا عماراً، ويسمعوا كلامه؛ كي يستزيدوا من التعرف على حقانية
أمير المؤمنين (عليه السلام) من خلال كلام هذا الشيخ الجليل الفتي القلب ...الذي
ينبع حديثه من أعماق قلبه، من أجل أن يتثبتوا من مواضع أقدامهم.
ولما تجندل ذلك الشيخ، وتضمّخ بدمه... كبر ذلك على كلا الجيشين. ورأى مثيرو الفتنة
ومسعّرو الحرب ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمّ أعينهم، وإذ شقّ
عليهم وصمة "الفئة الباغية"، فلا بدّ أن يحتالوا بتنميق فتنة أخرى وخديعة ثانية؛
ليحولوا دون تضعضع جندهم، وهذا ما فعله معاوية.
فقد إمامنا العظيم صلوات الله عليه أخلص أصحابه وأفضلهم، وقطع عضده المقتدر، واغتمت
نفسه المقدَّسة وضاق صدره، فقال: "رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم
قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث حيّاً".
قال معاوية لما قتل عمار - واضطرب أهل الشّام لرواية عمرو بن العاص كانت لهم: "تقتله
الفئة الباغية" -: "إنما قتله من أخرجه إلى الحرب وعرّضه للقتل!". فقال أمير
المؤمنين (عليه السلام): "فرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذاً قاتل حمزة؟!".
عن أبي عبد الرّحمن السلمي: قال عبد الله لأبيه [عمرو بن العاص]: يا أبه، قتلتم هذا
الرجل في يومكم هذا، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال!
قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون، والناس ينقلون في بناء مسجد النبي (صلى الله
عليه وآله) لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فغشي عليه، فأتاه رسول الله (صلى الله
عليه وآله)، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية! الناس ينقلون لبنة
لبنة، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبةً في الأجر! وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية.
فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره. فقال معاوية:
أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به.
فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عماراً من جاء به.
*موسوعة الإمام علي بن أبي طالب(ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، ج6.