إنَّ دراسة حياة أئمة أهل البيت(ع)، من الأمور التي نحسّ ويحسّ كثير من المسلمين
بضرورة العمل على تحقيقها بدقة ووضوح، لأن لها صلة كبيرة بالجانب العقائدي من
حياتنا، وبالجوانب الفكرية والروحية من ثقافتنا وديننا وتاريخنا.
ونستطيع أن ندرس جيداً مدى ضرورة هذه الدراسة، ومدى صلتها بحياتنا، إذا لاحظنا أنّ
الأئمة من أهل البيت(ع) في ما نراه، يمثّلون الامتداد الرسالي للدعوة الإسلامية.
فقد كانت مهمّتهم بعد إقصائهم عن موقعهم القيادي الذي وضعهم الله تعالى فيه، توضيح
القضايا الإسلاميّة التي اعتراها الغموض والإبهام بعد النبيّ(ص)، بسبب الظروف
والملابسات الكثيرة التي رافقت الإسلام في تلك الفترات، والقيام بدور الحارس الأمين
للقيم والمفاهيم الإسلامية، حذراً من أن تُشوَّه أو تحرَّف وفقاً لمقتضيات الظروف
السياسيّة للحاكمين، الذين تحيط بهم فئة من المرتزقة، تتملَّق للحكم في كلِّ نزوة
من نزواته، وشهوة من شهواته، فتعدّ لها تفسيراً يتلاءم معها، ومبرّراً يستر فضائحها،
على حساب المفاهيم العامّة التي تشوّه وتحرّف كما يشاء الحكم، وكما يريد الحاكم.
وهنا، نشعر بثقل المهمة الملقاة على عواتقهم، وهم يتحدّثون عن كل هذه المؤثرات، وكل
هذه العقبات، ليوجّهوا وليوضحوا وليحدّدوا تلك المفاهيم، فلا يبقى هناك مجال
للتشويه وللتحريف.
كلّ ذلك بأساليب عديدة كانت الثورة منها، كما شاهدناه في نهضة الحسين العظيمة، وكان
الدعاء الموجَّه من بعضها، كما رأيناه في حياة زين العابدين(ع).
وكان التوجيه والتثقيف والبحث والمناظرة من جملتها، كما نقرأه في حياة الإمام
الباقر وولده الصّادق وبقيّة الأئمة(ع)، حسب الظروف الزمنيّة التي قد تسمح لبعضهم
بأكثر مما تسمح به للبعض الآخر.
وقد اجتمع لدينا من ذلك كلّه ثروة علميّة دينيّة، حصلنا منها على الشيء الكثير في
مختلف مجالات الحياة، بفضل الدّراسة الموضوعيّة الحرّة.
وكان الخلفاء من بني أميّة ومن بني العبّاس، يتحيّنون الفرص للوقوف أمام الأئمة في
تأدية رسالتهم، ويتفنّنون في اختراع أساليب الاضطهاد والتعذيب للأئمّة وأصحابهم،
حتّى كان أهون على الإنسان في بعض تلك الفترات أن يقال له يهوديّ من أن يقال عنه
إنه يتشيَّع لأهل البيت(ع).
لماذا كان هذا؟ مع أنّ الأئمّة(ع) لم يعلنوا الثورة ضدّ أيّ شخص من هؤلاء، منذ ثورة
الحسين(ع)؟
ولو دققنا النظر، لعرفنا أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الثورة التي حمل الحسين(ع)
لواءها، تحوّلت نتيجة الظروف إلى ثورةٍ فكرية وروحية يقودها الأئمة(ع) ضد الظلم
والطغيان والتفسخ الخلقي الذي كان يمثّله الكثيرون من هؤلاء.
وتتمثّل هذه الثورة في الرسالة التي يحملها الأئمة من أهل البيت(ع)، وهي قيامهم
بعرض الإسلام للناس بحقيقته وواقعه، بعيداً من تحريف المحرّفين وتشويه المشوّهين.
الإسلام: الذي يلعن الظلم والظالمين، ويصرخ بهم مهدّداً ومتوعّداً، ويدعو إلى
محاربتهم ومقاطعتهم، ويلعن من يتعاون معهم.
الإسلام: الذي يعتبر الأمّة مسؤولةً عن تولي الظالمين للحكم، لأنها تقدّم لهم
الطاعة والمعونة على إدارة شؤون الدولة، ما يسهِّل لهم مهمة التحكُّم برقاب العباد
ومقدّراتهم. وإلا، فما عسى أن يفعل فرد أو جماعة أمام إرادة الملايين من أبناء
الأمّة، الذين لو قاموا بمقاطعته فقط، فلا يلبث حكمه أن ينهار ويتلاشى، ليُفِسح في
المجال أمام حكمٍ عادلٍ يعمل للمصلحة الإسلاميّة العليا، قبل كلّ شيء؟!
الإسلام: الذي يقدِّم العدالة الاجتماعية بأروع صورها للناس، متمثلةً بمساواة
الحاكم للمحكوم أمام القانون العادل.
ومن الطبيعي أنّ عرض الإسلام بهذه الصورة المضيئة، يتعارض والمصالح الشخصيّة،
لأولئك الذين كانت أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم معلّقة بكلمة تصدر عنهم، أو شهوة
تعرض لهم، من دون أن يحاذروا رقيباً أو حسيباً بسبب الضّغط والإرهاب، إضافةً إلى ما
دفعوا إليه المجتمع الإسلامي من الانحدار الخلقي الرّوحي والفكري.
لذلك، كنا نجد كلَّ فردٍ منهم، لا يكاد يتولّى الحكم، حتّى يكون موقفه من الإمام
الذي يعاصره أوَّل ما يفكِّر فيه، وفي الطريقة التي تمكّنه من أن يقضي على الأصوات
الخيّرة التي تنطلق من الدعوة الإسلامية الصريحة، وعلى التفكير الثّوري الذي كانت
تعاليم الأئمة تركّزه في أعماق الأمّة... فكان القتل بالسمِّ وبغيره، وكان الاضطهاد،
وكان التّعذيب، وكان السجن، وغير ذلك من الأساليب التي تعرّض لها الأئمّة(ع) من
جبابرة زمانهم.
ولكن... متى كانت هذه الأساليب تقتل فكرة أو تخنق ثورة، ومتى كان الظلم يستطيع أن
يحجب الشعاع الخيّر المنطلق من نفوس المصلحين وعقولهم مهما أثار من الغبار، ومهما
حشد من الضباب؟!
نحن بحاجة ماسَّةٍ إلى دراسةِ حياةِ الأئمّة من أهل البيت(ع)، لأنّ مثل هذه الدراسة
تلتقي بآفاق جديدة في العلم والدين والأخلاق، والسلوك والنفس والمجتمع، كما إنها
تستطيع أن تعطينا حلولاً كثيرة لما نجابه من مشاكل فكريّة وروحية، وتبعدنا عن جوِّ
السطحية والسذاجة اللّتين لانزال نعالج مشاكلنا على أساسهما.
علينا أن نضع أيدينا على المعين الصافي الذي انطلق منه الإسلام وعاش فيه، ولن نجد
إلا الريّ لظمأ المعرفة، الذي يملأ أرواحنا وأفكارنا، ولن نحصل إلا على الراحة
والطمأنينة، والتخلّص من القلق النفسي الذي يعصف بحياتنا ويبعثر خطواتنا في دربنا
الطويل.
ونجد أنّ من الإخلاص لحديثنا، أن نرجع قليلاً إلى حديث النبيّ(ص)، والملابسات التي
تعرَّض لها، ولا سيما أنَّ حديث الأئمة(ع) يعتبر امتداداً لحديث النبيّ(ص)، ومتفرعاً
عنه ومستمدّاً منه، فإنهم أمناؤه على شريعته، وخلفاؤه في أمّته، يوضحون للناس دينهم،
ويقرّبونه إليهم بأساليب متعدّدة، ومهما اختلفت، فإنها لن تنفصل عن الينبوع الصافي
الذي يتفجّر من حديث النبيّ(ص) وكلامه، ولهم من عصمة الله في ما يقولون وفي ما
يفعلون، ما يرفع عنهم الخطأ في القول، أو الغفلة في الحكم.
وقد صرّحوا بذلك في ما روي عن الإمام الصّادق(ع)، حيث قال: "حديثي حديث أبي، وحديث
حديث أبي جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث
أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(ص)، وحديث رسول الله قول الله
تعالى".
وكان أحمد بن حنبل إذا روى عن الإمام موسى بن جعفر(ع)، قال: حدثني موسى بن جعفر،
قال: حدّثني جعفر، قال: حدّثني أبي أبو جعفر، حدّثني أبي محمد بن علي، حدّثني علي
بن الحسين، حدّثني أبي الحسين بن علي، حدّثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال رسول
الله (ص).
ثم قال أحمد: وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق.
وإذا عرفنا ارتباط حديثهم بالسنّة النبوية المطهّرة، عرفنا سرّ التّشابه بين ظروف
السنّة وظروفه، في ما تعرّض له كلّ منهما من وضع وتحريف وتشويه.
*كتاب في رحاب أهل البيت(ع)، ج 1.