قلّما تعثر على رجالات يدخلون استثناءات الوعي الجمعي ويتجذَّرون في الوجدان بلا إكراه، ينسلون من عوالم تصنعها التجارب مسعوفةً بالمواهب، فيتقنون لغة السَّماء ويحوّلونها بطراوة إلى لغة بشريَّة مطواعة، يفتحون فيها ما انغلق في دنيا الفقه والأدب والسياسة.
السيد محمد حسين فضل الله الَّذي توفي في 4 تموز (يوليو) 2010م، كان فقيهاً استثنائياً متمرّساً بما أتقنه من إمساك بمفاتح قراءة النصوص العصية، وكان مؤلِّفاً متميِّزاً بحجم ما تركه من آثار تنوَّعت بين التفسير والفقه والعقيدة والأدب والفكر والسياسة. عاد إلى لبنان من العراق بعد مسيرة طويلة العام 1966م، فساهم في تأسيس العمل الإسلامي والجهادي في خضمّ تحدّيات وطروحات تغلي على كثير من التقلّبات والتوترات والشّعارات من يمينية ويسارية.
كان رجلاً استثنائياً عندما قام بأدوار مختلفة على الساحة الإسلاميَّة والوطنيَّة، من رعايته للرعيل الأوَّل ممّن أسَّسوا للمقاومة، وساهم خطابه التعبوي في استنهاض الهمم وبلورة وعي نضالي آمن بقدرة الإنسان على التحرّر من مقيداته والغوص في الآفاق الرحبة، وإطلاق إمكاناته في سبيل الأهداف الكبرى التي تحقّق له كيانه وكرامته.
مواقفه كان لها بليغ الأثر في توجيه الحركات الإسلاميَّة واستنفار اتجاهاتها، لم تخبُ يوماً سالكةً في لجج جبهات: القضية اللبنانية، والقضية الفلسطينية، وقضية الحوار الإسلامي ـ المسيحي، ناهيك بطرق أبواب كل الملفات الإقليمية والدولية، حيث كان متابعاً من الدرجة الأولى، لم يترك تفصيلاً ولو بسيطاً وصغيراً، إلَّا وكان على دراية به. وكان محلِّلاً بارعاً وجريئاً، يبتعد عن انغلاقات التكتيكات المرحلية، ليرسم استراتيجيات تتصل بمسار الأمَّة ومصيرها ببراعة وعمق.
من المراجع النشطين حركةً واجتهاداً، إذ حاول بدقَّة وصراحة ومصالحة تطويع النصوص وفتح الطَّريق أمام قراءتها واستخلاص الأفكار منها بأناة وتدرّج في العرض، وتسلسل في التَّعبير، مشفوعاً بذوق أدبيّ رقيق وقدرة لغويّة عالية مكَّنته من أن يتعامل مع النصّ بعمق وإحاطة وأصالة وفهم أدقّ للنصوص الشرعية.
من بين ميزاته الاجتهاديّة، اتكاله الموفّق على الرؤية القرآنيَّة الأصيلة بوصفها الأساس التشريعي الأوَّل في سلّم مصادر التشريع. أضف إلى ذلك، استعانته بالفهم العرفي في تعامله مع النصّ في دلالته ومعطياته، بما خلق تناغماً توفيقياً بين النظرية الفقهية وتجلياتها التطبيقية ضمن رؤية متكاملة.
آمن بأنَّ الوعي المشترك قادر على أن يجمع كلّ الرؤى المخلصة من أجل صناعة قارئ متنوّر وإنسان ملتزم، على قدر مسؤوليَّة إنسان الله الّذي يقتحم زمن الخالد ويسجِّل حضوره بانسياب.
شدَّد على وجود النزعة الإنسانية ووحدة الهدف في الديانات، داعياً إلى الاعتراف بما تملكه من قواسم وتقاطعات تغني الحياة والإنسان، وتدفع نحو عقلانية تهدّئ من فورة الأنانيات والعصبيات الموحشة، وتعمل على غرس العدل ورفع الظلم كمكوّن أساس ومقصد نهائي للأديان والرسالات.
نبَّه إلى الفروقات التي يمكن أن تحدثها السياسة الخبيثة بالروحانيَّة التي أرادها الله مسحة جماليَّة ترتفع بالإنسان عن سوْرة الماديات، لتخلق منه أنموذجاً ربَّانياً جديراً بالحياة، عاملاً على التقارب والوحدة، متمايزاً بحسّ نقديّ بنّاء غير معلَّب ومؤطَّر، على قاعدة الأخوَّة الإنسانية التي تنبعث من حرارتها روح إيمانيَّة نشطة وعملانيّة تضفي على الواقع حيويَّة لا لوثة فيها.
لم يؤمن يوماً بعنف الأسلوب أو الفكرة التي تخلق إنساناً عنفياً، بل عمل حتى في دائرته الإسلاميّة على إعداد جيل يطمح إلى بناء ساحات من التصالح مع الذات والموروث، منطلقاً بثبات إلى واقع صاخب لا ينجرف تحت وطأة تحدياته.
حذَّر من الصهيونية والسياسة المتصهينة التي تشكِّل خطراً داهماً ودائماً على الجميع، منبّهاً من خدمات الطائفيين والمتمذهبين التي يقدِّمونها مجاناً للعدو ولأعداء الأمَّة. وبديهي أنه آمن برسالية لبنان القائمة على الصيغة التعايشية السلمية التعددية المنتجة والمتوحّدة الحضارية في مواجهة كلّ الأخطار.
بعد 12 سنة على رحيله، ماذا فعلنا من أجل نشر نتاجه وتعريف الأجيال بفكره وريادته؟ في وقتٍ تحشى الذاكرة الجمعية بكثير من محاولات البعض ممن يكتبون تاريخنا ويرسمون مسار ذاكرة أجيالنا كما يحلو لهم.
ولماذا هذا التَّغييب لدور هؤلاء الكبار عن الحضور الإعلامي والفكري والإنساني بوجه عام؟ في وقتٍ نحن بمسيس الحاجة إلى من يثبت لنا هويَّتنا وتراثنا الأصيل في وجه عواصف السطحيَّة وتفريغ الذات من فعلها الإيجابي المطلوب، وفي وقت تتعرَّض الطوائف كنعمة إلى سلخ نفحات الروحانية والتفكّر منها، ليس على مستوى الشيعة فحسب، بل على مستوى طوائف الشَّرق ككلّ، إسلاميّة ومسيحيّة.
*جريدة الأخباراللبنانية، الجمعة 1 تموز- يوليو 2022م.