أمَّا وقد مرّت الذكرى السنويّة الثانية عشرة لرحيل السيّد فضل الله، كما سابقاتها، فتجلّت عاطفةُ المحبّين والمريدين الجياشة، والمحبّة الصّادقة تُجاه رجل غير عاديٍّ، عايشوه وخبروه عن قرب، نقلهم معه إلى عصر الفكر والتَّنوير، حيث كان صانعَ عصرِ النّور. معه عاشوا الفقه الحركي، فقه الحياة، فهو المرجع العالِم بأهل زمانه، وشؤونهم وشجونهم، لم تفصله عنهم لا جدرانُ غرفة ولا أبوابُ منازل ولا حواجز، ولا حتى بروتوكولات مصطنعة، بل كان بابُه مفتوحًا لهم على الدوام، كما كان قلبُه وعقلُه أيضًا. ومنهم من عرفه بعد وفاته، بعقله وفكره، ووجد فيه ضالّته التي بحث عنها، فكان السيّد حيًّا فيهم ومعهم، كأنّ الموت لم يغيّبه، كيف لا، والفكر عصيٌّ على الموت، وبخاصَّة إذا كان لله.
عبّر هؤلاء المحبّون عمّا يختلج في صدورهم، وما يدور في أفكارهم، وما أفاضت به نفوسُهم من عبارات واسترجاع لذكريات، وكلمات أطلقها السيّد للحياة، كلّ الحياة. وهذا حال المحبّين والمريدين لأيّ شخصيّة أثّرت فيهم، ولا تزال، فلا شيء مطلوب أكثر من هذا، فالعواطف عفويّة ولا يمكن تصنّعها، وسيكرّرونها على مدار السنة، لتعود بغزارة أكثر في الذكرى اللاحقة...
أمّا نحن، فنحسب أنفسنا كحال هؤلاء المريدين، وكأنّ المطلوب منّا إعادة تشغيل الأسطوانة نفسها، وتكرار كلمات السيّد وحركته، من دون أن تجتاز مسامعنا أو حدقات أعيننا، كفيلمٍ سينمائيٍّ يُعاد تشغيله فقط، أو أن نقوم بتنميق عباراتنا، ونختار المسجَّع منها ونحمِّلها من المعاني ما شاء الله، ونكثِّف من الصّور الفنيَّة ما يفوق الخيال. أمَّا الشخصنة، أو ما يسمَّى بعبادة الشخصيّة، فحدِّث ولا حرج، من كاتب هذه السطور وسواه، فكأنّنا لم نسمع كلام السيّد ولم نَعِه، أو أنّنا منزّهون عن الشخصنة، ويحقّ لنا ما لا يحقّ لغيرنا. فحالنا ليست ما أراده السيّد لنا، أراد أن يصنع منّا عقولًا متحرِّرة من التبعيّة، تصنع المواقف، وتقوم على النقد وتقبّله، ولكن هيهات هيهات لما نحن عليه! نرفع الشّعار دون العمل به، ونقول ما لا نفعل...
أين نحن من شعار أسلمة العالم الَّذي أطلقه السيّد ونظّر له، وبذل في سبيله الغالي والنفيس؟ فهو الَّذي أطلق فكره للعالم كلّه، فكان كما شبّه نفسه، "كسيزيف، ولكنَّه لم يحمل صخرة، فقال: أنا لا أحمل صخرة، بل أحمل رؤية، والرؤية لا تتدحرج، إنّها تدخل الى قلوب الناس". هل حاولنا أن نعيد حمل هذه الفكرة، أو تجرأنا أن نحمل بعض المواقف، والتي قد تكلّفنا في بعض الأحيان؟! وهل نحن الَّذين نرفع شعار نشر هذا الفكر قادرون على تحمّل هذه المسؤوليَّة مهما كلّفتنا، معنويًّا وماديًّا؟ وهل هي أولويّة لدينا أصلًا؟! ثمّ كيف ننشر هذا الفكر، وهو طيّ الكتب النافدة، أو خزين الرفوف والمستودعات؟! ثمّ كيف نقدِّم الفكر ونطلب المردود، أو نجعل الفكر الرسالي حكرًا على من يمتلك ثمنه؟! كان السيِّد فضل الله يقول أخرِجوا أهل البيت من القمقم وأطلقوهم للعالم، ونحن بدورنا نقول يجب إطلاق فكر السيِّد للعالم، بالفعل لا بالشِّعارات.
ثمّ، أين نحن من إطلاق هذا الفكر للشباب الجامعي الباحث عن الكثير من الحقائق المغيَّبة أو التي اشتبهت عليهم، والَّتي وضع السيِّد لها الإجابات الشافية، والتي تحاكي عقولهم وتُطمئِن نفوسَهم؟! ويمكن أن تكون لهم أسلوبًا وطريقًا ومساعدًا في دراساتهم وأبحاثهم العلميّة والمنهجيّة الأكاديميّة. فلعلّنا نعتقد أنّنا كما يرى بعض المراجع أنفسهم كالبحر، يُزارون ولا يزورون! فالجامعات ميدان فكر السيّد فضل الله بالأمس واليوم وغدًا، فالحياة لا تنتظر أحدًا، والساحات الفارغة إن لم نملأها بما ينفع، فسيملأها غيرنا ربما بما لا ينفع، فيما نحن نعيش على أمجاد الماضي وقبسات كلامٍ من هنا أو هناك، فالتجريد يبقى معلّقًا في الهواء، دون أن يجد له تجسيدًا على أرض الواقع.
وما يؤسف له، أنَّ هذا الفكر بات يُطرح بعد تبنّيه من قبل الكثيرين، ويُنسب إليهم على أنّه صنيع عقولهم وثمرة تفكيرهم، في حين أنَّ السيِّد قد دفع من حياته ثمن مواقفه ورؤاه، وتعرّض لأنواع الحروب الشَّرسة جراءه، فلم يستسلم حتى نهاية حياته الشريفة. وهناك من يأتي، وفي ظلّ غياب الاحتضان الكامل، وغياب خطّة متكاملة للتعامل مع الفكر والتراث بما يتناسب مع العصر، لا باستعمال الأدوات السّابقة نفسها، فلا يمكن تكرار التجارب الفاشلة بالأدوات نفسها وانتظار نتائج مغايرة! فعلينا أن نأخذ بأسباب النهوض، وهذه الأسباب موجودة في طيَّات كتب السيّد وأفكاره، فقد أعطانا خريطة العمل والبضاعة، فما علينا سوى العمل الجادّ، ولو من باب الوفاء فقط وبعض الرساليَّة الإسلاميّة، لكي نصل إلى الأهداف المبتغاة، وإلا فإنّنا نتحمّل المسؤولية الشّرعية والأخلاقيّة تُجاه هذا الرجل أمام الله.
أمّا السؤال الجوهري الذي يحتاج إلى تفكّر طويل قبل الإجابة عنه، فهو: هل يمثل هذا الفكر الركيزة الأساس الذي ننطلق منه، ويجب إبرازه قبل أي شيء آخر، وأنّنا نعمل على أرض الواقع على هذا الأساس، دون شعارات وعناوين عريضة معلّقة في الهواء؟ وهل نحن على استعداد لتحمّل تبعات تبنّي هذا الفكر كليًّا، وأن ندفع الضريبة الإصلاحية في نشر الوعي ومواجهة التيارات المناوئة الَّتي لن تجعل هذه المهمة سهلة؟! فإلى الآن، لا نزال نرفع الشّعارات على البرّ، ولم نخض في البحر اللّجيّ الذي أضاء لنا السيّد طريقه، وصنع لنا فُلْك نجاتنا بعقله وقلبه وفكره وبعين الله، فقد سلَّمَنا الفقهَ والفكرَ الذي يُنجي ويخلّصنا من الطوفان، سلّمنا فقه الحياة، وفقه الإنسان، وأعطانا ما يفتح عقل هذا الإنسان وقلبه. فإذا لم نأخذ بزمام هذا الفكر، فسيأخذ به غيرنا، ويقود به الحياة إلى حيث يشاء.
إنَّ المطلوب منّا اليوم إجراء عمليّة تغيير جوهريّة في طريقة التعاطي مع هذا الفكر، وطريقة تقديمه بأسلوب جديد يتناسب مع المرحلة التي نعيشها، والإقدام بشجاعة على طرحه بقوَّة لا بطريقة المجاملات، فكما يقول السيِّد (رض): في الفكر كن عنيفًا، لأنَّ الأفكار تختزن عنفها في معانيها. ليس المطلوب الاستغراق في أدبيات التسامح والتنازل عن حقّنا في الصراع والتقدّم، ولا أن نقف متحسّرين على ما فرّطنا سابقًا، أو أن ندّعي أنّ غيرنا استولى على أفكار السيّد ومنهجه، فالسيّد أطلق فكره للعالم، ولم يجعله حكرًا لفئة دون أخرى، فنحن نمتلك مادّته وطُرُقه ومناهجه، ويمكننا أن نستثمره في غير اتّجاه في خدمة الرّسالة والخطّ.. فعاجلًا أو آجلًا، سوف تتفلّت هذه المادة والطرق والمناهج من بين أيدينا، ويأخذ بها آخرون نذروا أنفسهم للرسالة وللإنسان، ولا يهمّهم من قال بل ما قيل...
لا نريد أن نكون على الهامش، فالسيّد (رض) أرادنا في قلب الأحداث، وأن نكون النمرقة الوسطى، نريد أن تحرّك دومًا ولا نريد السكون، فالحركة حياة والسكون موت، لقد حرّك السيّد السكون من حولنا، وجعل حركتنا الأنشط من خلال ما تركه لنا. نحن ندّعي أنّنا أصحاب طاقات، وهذه الطاقات لنا وللناس، وأصحاب فكر، وفكرنا لنا وللناس، نريد أن نشاركهم كل شيء، ولا نريد أن نبخسهم حقّهم فيما أعطانا اللهُ إياه، وتركه السيّدُ أمانة بين أيدينا وفي أعناقنا...
نتوكَّل على الله وهو حسبُنا، ونجعل عملَنا لله وحده، وهو كفيل به، ونتاجر مع الله، ولن يبخسَنا حقّنا، ولن تبورَ تجارتُنا... اللَّهمَّ اجعل عملنا خالصًا لك، ونقِّه من الشِّرك والعُجْب، وأنِر أبصار قلوبنا، وأزِل عنها حُجُبَ الظُّلمة، ولا تجعلنا نخاف فيك لومة لائم، ولا توهن قوّتنا عن الاستمرار في سبيلك، ولا تستبدل بنا غيرنا أبدًا، فارحمنا واعصمنا من أمرك إذا جاء الطّوفان...
*د. محمّد طرّاف: المدير التنفيذي للمركز الإسلامي الثقافي.