تشعر في رحابه وكأنّك تحيا في زمن الكبار من المفكّرين والأدباء والشّعراء، مع
عدم خوف على المستقبل، إذ هو بحقّ رجل الغد الّذي يأخذك عن طيب خاطرٍ إلى ما ينبغي
أن يكون، لا الاستغراق في صيغة ما كان. فدائماً يعلّمك صلابة الموقف والإرادة في
المواجهة والثّبات، في وجه السطحيّة والهامشيّة من الأمور.
مثّل بسيرته ومواقفه الرّجل الثّائر الذي أفاد من تجارب الحياة، فأعاد صوغها
ليستولد أسلوباً رائداً في التّعامل مع ما تفرضه الحياة من تحدّيات في شتّى
المجالات، ليخرج منها الإنسان قويّاً راسخ الإيمان ثابت الخطى.
كان الحالم الّذي يمسك بريشة الإبداع ليرسم الخطى حثيثةً في سبيل بعث الرّوح
المؤمنة والواعية في النّفوس. صاحب الفكر والرّؤية الاجتهاديّة الّتي تخطّت حدود
عالمها وزمانها، لتقدِّم خلاصة وعصارة ما أجاد به الفكر الإسلاميّ من قضايا وطروحاتٍ
أرادت أن ترتفع بمستوى البشر، من ضيق الأفق والحسابات، ومن لغة التّنازع والعصبيّات،
إلى فضاءات التّعاون والانفتاح، وإلى التّأسيس لعملٍ جهاديّ وثقافيّ مقاوم ومتحرِّر.
ولا ننساه داعيةً ومبلّغاً على مدى عقود، مثل ما عليه أن يكون الدّعاة والعلماء من
أهليّة وقدوة لحسن توجيه مسار الأمَّة، بحيث التقى عنده القريب والبعيد، والصّديق
والعدوّ، فوجدوا فيه العالم الموسوعيّ والرّساليّ والمرجع الإسلاميّ حين تضيق
المذهبيّة بأهلها.
لم يكن السيّد فضل الله مرجعاً يحاول استنهاض حركة الإسلام بما فيها من أفكار ورؤى
وطروحات مواكبة لروح العصر، بل أسّس لحركيّة نهوضٍ إسلاميّ مسيحيّ في الدائرة
الإنسانية الكبيرة التي تحاكي الهواجس والتطلّعات عبر إثارة الأفكار وتوليدها
بدبلوماسيّة فريدة.
فالحوار ليس مجاملةً لديه أو شعاراً، إنّه تخطيط وعمل ومسؤوليّة وهمّ ووعي، وعبر
مسيرته الغنيّة، لا ترى سوى طريق الإصلاح والتّجديد الّذي لا يكون بالكلام والشّعار،
بل بإحياء ما تهدّم من الأخلاقيّات الّتي تعيد إلى النفوس عنفوانها وأصالتها، وإلى
الإنسان فعله وحضوره في السّاحات بقوّة.
قد يبدو للبعض أنَّ فعل الإصلاح والتّغيير مجرّد خطابٍ أو شعارٍ وينتهي، ولكنّ
السيّد فضل الله كانت لديه الجرأة والشّجاعة والعقليّة الّتي تعبِّر عن حسّ
المسؤوليّة ووعي الدّور والمسؤوليّات في تفاعل الإنسان مع موروثه الدّينيّ والفكريّ،
بغية ربطه بالحياة العمليّة ومشاكلها وتحدّياتها.
مشروع إحياء الإنسان وبعث روحه وعقله، وإحياء الاجتهاد الدّيني المواكب للتطلعات
والطموحات، والدّور المرجعيّ الّذي يعيد إلى العقل كرامته المسلوبة من الجهل
والتخلّف، من أبرز ما ناضل من أجله وسعى إليه، فلن يكون العقل متحرِّراً وكريماً
منطلقاً من رحابة الكون، ما لم يكن متنوّراً ومواجهاً ونقديّاً لروحيّة قهر النّصوص
الضيّقة والجامدة.
فالعقل هو الّذي يغني لحظته التّاريخيّة بما يضبطها ويعقلنها ويمهِّد السَّبيل أمام
أن تكون حافلةً بما يرفع من شأنها. هذا العقل الّذي مثَّله السيِّد في محاولته لصدم
العقل الجمعيّ، وتنبيهه إلى وضعه ومسؤوليَّاته، ليس بغريبٍ على وظيفة المصلح
الحقيقيّ، فهو تعبير أعلى عن كرامة إنسانية تبحث عمن يحميها ويصونها من كلّ من ما
يؤذيها ويتآمر عليها ويسلبها قيمتها وعزّتها من قبل من يمتهنون تدجين الدّين
والسياسة إرضاءً لنزواتهم ومصالحهم التّافهة .
السيّد فضل الله، المرجع، الإنسان، الحاضر في كلّ لحظاتنا، ما أحوجنا إلى صوته
اليوم! الصّوت الّذي لطالما واجه ونبّه من خطورة التزمّت والتّكفير والعصبيّة
والإرهاب، وضرورة اجتثاث جذوره بالوحدة والانفتاح والتّسامح والتعقّل، وتأكيد
الهويّة الإسلاميّة الجامعة والمبدعة الّتي لا تعرف حقداً أو تحاملاً وتخلّفاً،
ولطالما ملأ لحظاتنا السّابقة، ولطالما ستظلّ لحظاتنا الحاضرة والمستقبليّة بحاجة
إلى خطابه الّذي امتلك الماضي من اللّحظة والرّاهن منها والمستقبل، فخطابه مرجع
لزمانه ولغيره من الأزمان.
كم نشعر بالحاجة إلى فكره ومنهجه، لعلّهما يضيئان لنا ظلام الطّريق في هذا الزّمن
العربّي والإسلامي الصّعب.
* المقال منشور على موقع الملفّ الاستراتيجي الإلكتروني، بتاريخ: 9 تمّوز 2021م.