من السور القرآنية العظيمة التي تحمل مداليل جليلة وعميقة تتّصل بحال الناس، وبما ينبغي أن يسلكوه من طرق: "سورة الناس"، وهي إحدى المعوذتين، والمعوذة الأخرى هي سورة الفلق.
وسورة الناس عند بعض المفسرين، من السور المكية، وآياتها ست: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
وفي تفسيرها، يقول سماحة المفسّر المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض): "{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الذي يربيهم ويدير أمورهم. {مَلِكِ النَّاسِ}، الذي يملكهم من موقع خلقه لهم. {إِلَهِ النَّاسِ} الذي يستعلي على الناس ويستولي عليهم. {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، وذلك في ما يثيره في النفس من أفكار شريرة، وخيالات معقّدة، وأحلام كاذبة، ومشاعر حادّة، بحيث تؤدي إلى إثارة الفتنة في حركة الناس في علاقاتهم العامة والخاصّة.
وفي الحديث الوارد عن أهل البيت(ع)، أن الوسواس الخنّاس يوسوس للإنسان، فيوقعه في الذنب، ثم يوسوس له، فينسيه التوبة {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
وقد يكون الوسواس الخناس من الجنّ، الذين قد يزيّنون للإنسان الكفر والمعصية والضلال. وقد يكون هذا الوسواس الخناس من الإنس، الذين يعيشون مع الإنسان ويملكون بعض التأثير فيه، من خلال علاقات المزاج، أو القرابة، أو الصداقة، أو المصلحة، أو الشهوة، أو السلطان، ونحو ذلك".
ويشير سماحته(رض) إلى دعوة السورة إلى الاستعاذة من العوامل الداخلية التي تتحرك في النفس في منطقة الفكر أو الشعور، من خلال الوسواس الذي قد يكون بشراً، وقد يكون جناً، بطريقة طبيعية أو غير طبيعية، بحيث ترهق حياته النفسية التي قد تترك تأثيراتها السلبية في حياته العملية.
ومن الإيحاءات التربوية للسورة، بحسب قول سماحته(رض)، أنها دعوة إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخناس، الذي يشكّل خطراً على التزامه الفكري والعملي، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة.
ويختم بأن هذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد الإسلام أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن، ليؤكد قوة الموقف لديه، وثبات الإيمان في نفسه، واستقامة الطريق في حياته.[1]
والشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره القيّم "الكاشف"، يقول: "{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ}. الخطاب للنبي(ص)، والمراد به الناس، لأن النبي لا يلجأ ولن يلجأ إلا إلى الله وحده، وتسأل: أليس الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، فلماذا خصّ الناس بالذكر؟ الجواب: لأن الناس هم الذين ارتابوا بخالقهم، وكفروا بأنعمه، واستعانوا بغيره، أو كانوا أكثر طغياناً من سائر المخلوقات على وجه العموم، فخصهم سبحانه بالذكر لعلهم يهتدون.
{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} فإنّ المراد بالوسوسة ، ما يُحاك في النفس من الأفكار السوداءالّتي تصد عن الحق و سبيله ... ، قال الرسول الأعظم (ص): «لكل قلب وسواس، فإذا فتق الوسواس حجاب القلب، و نطق به اللسان أخذ به العبد، و إذا لم يفتق الحجاب و لم ينطق به اللسان، فلا حرج.
{الْخَنَّاسِ} من خَنَس إذا تأخر وتنحّى، {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. وظاهر الآية يدل بوضوح على أن الموسوس إليه نوع واحد، وهم الناس فقط، أما الذي يوحي بالوسوسة، فنوعان: أحدهما من الجن والآخر من الإنس، ووسوسة إنسي لإنسي مثله، أن يزيّن له الجريمة ويغريه بها، وهذا واضح وكثير... أما كيف يوسوس جنيّ لإنسي فالله أعلم. وقد يكون المراد بوسوسة الجنّ للإنس، حديث النفس الذي ينبع من داخلها، لا من أقوال الآخرين. وأياً كان مصدر الوسوسة، فإن على العبد أن يلجأ إلى ربّه ويعتصم به وحده من كل شر، سواء كان من نفسه أو من الآخرين"[2].
والطبري في تفسيره للسورة المباركة، يقول: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد(ص): قل يا محمّد {بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ}، وهو ملك جميع الخلق، إنسهم وجنّهم، وغير ذلك... وقوله {إِلَهِ النَّاسِ} معبود الناس، الذي له العبادة دون كل شيء سواه.
وقوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} يعني من شرّ الشيطان (الخناس)، الذي يخنس مرّة ويوسوس أخرى، وإنما يخنس فيما ذكر عند ذكر العبد ربّه.
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، يعني بذلك الشيطان الوسواس، الذي يوسوس في صدور الناس، جنّهم وإنسهم.
فإن قال قائل: فالجن ناس، فيقال: الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، قيل: قد سمّاهم الله في هذا الموضع ناساً، كما سماهم في موضع آخر رجالاً، فقال: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ، فجعل الجنّ رجالاً، وكذلك جعل منهم ناساً "[3].
والخلاصة، أن على الناس أن تعي خطورة الوسوسة، وما يمكن أن تجلبه من دمارٍ وخراب على المستوى الخاص والعام، وأن يلجأوا في كل أوضاعهم إلى الاستهداء بنور الله وتعاليمه، والسعي إلى العمل في سبيل مرضاته، وعدم تجاوز حدوده في كل المواقف والعلاقات.
[1] تفسير من وحي القرآن، ج24، ص: 499 وما يليها.
[2] الشيخ مغنية، تفسير الكاشف، الجزء السابع، ص:627.
[3] التفسير الكبير للطبري ، الانترنت
DIV>
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .