يقول تعالى في سورة التَّحريم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:10-12].
نحن نقف أمام مثالٍ قرآنيّ حيّ يصف نموذجين من النّساء، فكانت المرأة الكافرة في مثليْن للّذين كفروا، والمؤمنة في مثليْن، فامرأتا نوح ولوط للكافرين، وامرأة فرعون ومريم بنت عمران للمؤمنين.
ومع أنّ امرأتي نوح ولوط هما زوجتان لنبيّين من أنبياء الله المرسلين، إلا أنّهما لم تعتبرا ولم تستفيدا من تجربتهما مع زوجيهما، ولم تنتفعا من البيئة الإيمانيّة الّتي كانتا فيها، بل انحرفتا انحرافاً عجيباً عن الصّراط المستقيم.
وفي تفسيره لآية: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ}، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): فكانتا زوجتين لنبيّيْن من أنبياء الله، هما نوح ولوط، {فَخَانَتَاهُمَا} في موقفهما المضادّ للرّسالة، حيث اتّبعتا قومهما في الكفر، ولم تنسجما مع طبيعة موقعهما الزّوجيّ الّذي يفرض عليهما أن تكونا من أوائل المؤمنين بالرّسالة..
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، ولم تنفعهما صلتهما الزّوجيّة بالنّبيّيْن في إنقاذهما من المصير المحتوم، لأنّ المسؤوليّة لدى الله تبقى في النّطاق الفرديّ الّذي يتحمّل فيه كلّ إنسان مسؤوليّة عمله...
{وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}، لأنّ القاعدة الّتي فرضت دخولهم في النّار هي الّتي تفرض دخولكما فيها.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} الّتي كانت في موقع السّلطة العليا التي يملكها زوجها، فكانت في مقام الملكة لشعبها، وكانت الدّنيا بكلّ زخارفها وزينتها وشهواتها ولذّاتها تحت قدميها، ولكنّها رفضت ذلك كلّه عندما اكتشفت الإيمان بالله، وعاشت في خطّ العبوديّة له، وذاقت طعم مناجاته في حالة الخشوع الرّوحيّ والخضوع الجسدي.
{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} لأنّه البيت الّذي أعيش فيه في جنّة رضوانك، وأحسّ فيه بسعادة الرّوح إلى جانب نعيم الجسد.
{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الّذين يمثّلون المجتمع الفرعوني الّذين يزيّنون له طغيانه وجبروته، ويضخّمون له شخصيّته، ويدعمون ظلمه واستكباره.
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} في تعبيرٍ كنائيّ عن طهارتها وعفّتها التي استطاعت أن تحافظ عليها من خلال قوّتها الروحية الإيمانية، وأن تواجه قومها الذين أرادوا أن يتّهموها في أخلاقها.
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} التي أوحى بها إلى رسله، كالتّوراة والإنجيل، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} الّذين خضعوا لله وأخلصوا له العمل، واستمرّوا عليه في الخطّ المستقيم... [تفسير من وحي القرآن، ج22، ص:328].
وفي تفسير الجلاليْن للسّيوطي: {فخانتاهما} في الدّين، إذ كفرتا، وكانت امرأة نوح واسمها "واهلة" تقول لقومه: إنّه مجنون، وامرأة لوط واسمها "واعلة"، تدلّ قومه على أضيافه إذا نزلوا به ليلاً بإيقاد النار، ونهاراً بالتدخين {فلم يغنيا} أي نوح ولوط {عنهما من الله} من عذابه {شيئاً وقيل} لهما {ادخُلا النّار مع الدّاخلين} من كفّار قوم نوح وقوم لوط.
وفي هذه القصّة دروس وعِبَر للنّاس، بأنّ صاحب الإرادة القويّة والإيمان الرّاسخ، لا يضعف ويسقط، ولو كان يعيش تحت ضغوطات البيئة الفاسدة، بل يثبت على إيمانه وإخلاصه، ويواجه كلّ الصّعوبات في سبيل مرضاة الله تعالى، بينما الّذي لا يملك نفسه ولا إرادته، ويخضع لرغباته وانحرافاته، لن يستقيم، بل يعيش السّقوط بكلّ أشكاله، حتّى لو كان يحيا في بيئة الإيمان، وبيت النبوّة، وهذا هو الخسران المبين.. فهل من يتّعظ؟!
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .