هي قصّة أخرى من القصص القرآني الّذي يصوّر لنا أقواماً مرّوا على هذه الأرض، وكانت لهم سيرتهم ومواقفهم، والّتي أضحت مع الزّمن عبرةً لمن اعتبر، ومن هذه القصص، قصّة النبي هود(ع)، الّذي كان أيّام قوم عاد الّذين نسوا وصيّة نوح(ع) بالحفاظ على توحيدهم لله تعالى، والسّير في خطّ مرضاته.. فانحرفوا عن هذا الخطّ، وعادوا إلى عبادة الأصنام والتّماثيل، فأرسل الله تعالى إليهم هوداً(ع)، وهو ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح(ع).
وكانت عاد تسكن في منطقة اسمها (الأحقاف) جمع حقف: الجبل من الرّمل، وهي منطقة تُعرف اليوم باسم الرّبع الخالي في أرض الجزيرة العربيّة ما بين عُمان وحضرموت، وكانت هذه المنطقة قبل آلاف السّنين خصبة وخضراء، والّتي عاشت فيها قبائل عاد ذات السّطوة والقوّة.
قام هود(ع) بمواجهة قومه الأشدّاء بكلّ قوّة وإيمان وعزيمة، ولم ترهبه سطوتهم، ودعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، والابتعاد عن كلّ أشكال التلوّث الفكري والعقيدي والرّوحي، وذكّرهم بقوم نوح(ع) وما حلّ بهم من عذاب الله، ورغم كلّ النّداءات والتّحذيرات للعودة إلى الهدى والصّواب، وتوظيف إمكاناتهم وطاقاتهم في مواقع رضا الله بإعمار الحياة والإنسان، وأن يؤدّوا شكر النّعم، ولن يكون ذلك إلا بالإخلاص للربّ الواحد، مانح القوّة والوجود، أمعن قوم عاد في ضلالهم، وبنوا معابد الأوثان والتّماثيل فوق الجبال والتّلال، وكانوا يقولون هذا إله الخصب، وهذا إله البحر، وهذا إله الحرب وغير ذلك...
وكلّما انغمسوا في وثنيّتهم، ازداد بطشهم بالّذين يرفضون عقائدهم، وراحوا يؤذون هوداً ومن معه من قلّة المؤمنين، واتهموه بالجنون، وأنّ الآلهة قد لعنته، وكما كان النبيّ هود(ع) يتوعّدهم بعذاب الله تعالى، كانوا هم في المقابل يخوّفونه ومن معه من سوء العواقب نتيجة غضب الآلهة.
مع ذلك، كان يقول لهم ارجعوا إلى ربِّكم، وبادروا بالتَّوبة النَّصوح، ليشملكم بعطفه ولطفه، ويزيد من منعتكم وقوّتكم الماديّة والمعنويّة، يقول تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}[هود:52].. ولكنّهم لم يستمعوا إلى مواعظه ونصائحه، بل أصرّوا على كفرهم وعنادهم، ومضوا في تهديدهم، وانصرفوا إلى ذبح القرابين وتقديمها إلى الآلهة.
وقد ورد ذكر قصّة هود وقومه في القرآن الكريم، بقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ* يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ* وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ* قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ* وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ* وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:50-60].
ينقل لنا القرآن الكريم صورة قوم عادٍ وعقليّتهم ومنطقهم الخرافيّ القائم على الأوهام، والزّعم بأنّ الآلهة لها تأثير في مفاصل حياة النّاس وأوضاعهم، وينبغي التوجّه إليها وعبادتها وإرضائها حفاظاً على هذه الأوضاع، وكي لا يتعرّض النّاس لأذاها، فقد تسبّب لهم الجنون وفقدان الصّواب وسلامة الفكر {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ}.
لكنّ النبيّ هوداً(ع) صمد أمام كلّ التحدّيات والدّعايات المغرضة، وحملات التّشويه والتّضليل، وقدّم النّموذج الإيماني الرّسالي المخلص، وأنّ المؤمن لا تنال من عزيمته الحرب النفسيّة والإعلاميّة، فهو متسلّح بالإيمان، ومنفتح على آفاقه الرّوحيّة والفكريّة الأصيلة { أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}، وجاء عذاب الله ونزل بهم.
ويقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في تفسيره: "... ونزل العذاب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}، إذ جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق، ثم يمتدّ في الفضاء المطلّ عليهم، ليستقبل الوديان الّتي كانت تنتظر المطر الّذي يملأ الينابيع ويروي الأرض، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، فاستقبلوه باستبشار كما يستقبل النّاس العطشى المطر القادم إليهم عبر السَّحاب، ولكنَّ المسألة ليست كذلك {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، فقد استعجلتم العذاب ظنّاً منكم أنّه لن يجيء، وها هو أمامكم، فكيف تواجهونه؟ وكيف تثبتون أمام التحدّي؟ {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، فقد هلك كلّ شيء فيها من النّاس والدّوابّ والأقوال، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف: 24- 25] الّذين يحرّكهم في الحياة منطق الجريمة في مواجهة الرّسالة، بالاستسلام لرخاء الحياة من حولهم، وللأمن في المستقبل في حركتهم، تماماً كما لو كانوا يملكون القوّة المطلقة في كلّ شيء"... [تفسير من وحي القرآن، ج21، ص:34].
هذا وقد جاء ذكر قصَّة هو في سور متعدِّدة من القرآن الكريم، تارةً بصورة مفصّلة، وتارةً أخرى بصورة موجزة. ومن هذه السّور: الأعراف، هود، المؤمنون، الشّعراء، الذّاريات، الأحقاف، فصّلت، القمر، الفجر، الحاقّة...
قال ابن كثير: "وقد ذكر الله قصّتهم في القرآن في غير موضع، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون".
ويبقى في هذه القصّة الكثير من الدّروس والعبر المستفادة، منها، أنّ التباهي والتفاخر بالقوّة والغرور، والانحراف عن خطّ الله عاقبته إلى سوء، وأنّ على الإنسان أن يداوم على ذكر الله، وأداء حقّه وشكره على نعمِه، وأنّ الدّاعي إلى الله عليه أن يتحلّى بالمسؤوليّة والصّبر، والتّسلّح بالإيمان، وأن يخلص في دعوته بكلّ ثبات وعزيمة، وأن يستعمل الأسلوب الّذي يؤدّي غاية الرّسالة في إبراز روحها وجوهرها.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .