إنَّ تلاوة كتاب الله تعالى بوعي وانفتاح ومسؤولية، تعبّر تعبيراً صادقاً وحيّاً عن الشَّخصية الإسلاميَّة المؤمنة، الَّتي تعمل على استيعاب معاني القرآن الكريم في فكرها وحركتها، انطلاقاً من ارتباطها الفاعل بهويتها الأصيلة، ومن وعيها بضرورة تحمّل مسؤولياتها تجاه ذاتها والمحيط من حولها، لتؤدي وظيفتها بالشكل الصحيح والمتوازن، فكلَّما كان المرء منفتحاً أكثر، ومتدبراً لكتاب الله، كان قريباً من مواقع الفوز برضا الله تعالى ومحبته ورحمته.
وقد شبّه القرآن ذلك بالتَّجارة الرابحة التي لا تبور {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر: 29، 30].
وفي تفسيره للآية المباركة، يقول سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض): "{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} ليستوعبوا معانيه في عقولهم وقلوبهم، ويبنوا شخصياتهم على قاعدة مفاهيمه، ويحركوا حياتهم في خط آياته، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}، ليعيشوا الحضور القلبي الدائم مع الله، وليعبّروا بحركات أجسادهم عن خشوعهم له وانقيادهم إليه وانسحاقهم بين يديه.
{وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً}، ليكون ذلك هو المعنى العميق لشكر الله على نعمه، والالتزام بالوظيفة الإلهية التي جعلها الله للمال الذي رزقهم إياه، في إنفاقه على أنفسهم وعلى المحرومين من عباده.
{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} ولن تخسر، لأنها التجارة التي يحصل الإنسان من خلالها على رضوان الله، الذي يتجسد في نعيمه في الدار الآخرة، وهي التجارة الباقية الخالدة، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} على ما عملوا من الصالحات، {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} الذي يضاعف به الحسنات ويرفع به الدرجات، {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} يغفر للمؤمنين الخاطئين ذنوبهم، ويشكر لهم التزامهم الإيماني والعملي". [تفسير من وحي القرآن، ج 19، ص 108].
وكثيرة هي الأمراض النفسية والروحية التي تصيب روح الإنسان وقلبه، من حقد وكراهية ونفاق وغلّ وغير ذلك. وقد اهتمّ القرآن بعلاجها عبر توجيه الناس ومخاطبتهم وإرشادهم لما فيه صلاحهم، وبيَّن لهم مساوئ هذه الأمراض على حياتهم ومسيرتهم، وانعكاسها على مصيرهم في الدنيا والآخرة، داعياً إلى الانفتاح عليه تعالى وتوحيده، والتركيز على صفاء الفطرة، والعمل على استقامة الفكر وتهذيب الروح ومسؤولية الحركة والخط والموقف تجاه الحياة.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}[الإسراء: 82].
وفي تفسير القرطبي، يقول {مَا هُوَ شِفَاء} أي شفاء في الفرائض والأحكام، لما في القرآن من البيان. واختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما؛ أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل، لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى. والثاني؛ شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوّذ ونحوه.
وفي تفسيره، يقول سماحة المرجع السيد فضل الله(رض): "{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} لمن قرأه وتدبره ووعاه وعمل به، وحمله دعوة مفتوحة للحياة كلها وللناس كلهم، بروح مليئة بالجدية والاهتمام والمسؤولية، وبذلك يعرف كيف تكون سعادة الروح، ونظافة الضمير، وسلامة الوجدان، وصفاء الفطرة، واستقامة الحياة، ويلتقي بالصحة النفسية من أقرب طريق.
{وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} في ما يفتح قلوبهم على النور الذي يتغايض بالعلم واليقين والإيمان، ويدفع مواقفهم إلى التكامل أو الوحدة أو اللقاء، ويهذب نفوسهم بالطهر والعفّة والصفاء، ويحقّق لهم الكثير من النتائج الإيجابية على صعيد التخطيط الدقيق للفكر والشريعة والحياة.. وبذلك، تتحول الرحمة من عاطفة في القلب، وإحساس في الشعور، إلى حركة واعية مليئة بكل ما يغني التجربة ويعمّق الوجود. إنها رحمة الفعل لا رحمة الانفعال. [تفسير من وحي القرآن، ج 14، ص 211].
إنَّ تلاوة كتاب الله في عمقها وجوهرها، هي انفتاح حيّ وعملي على مفاهيمه وقيمه، واستلهامها في حياتنا خطاً وسلوكاً، تجعلنا بحق من التالين لكتاب الله حقّ تلاوته والعاملين به، فلا تبقى تكراراً للحروف، بل تخرج من فضاء الفم لتلامس هموم الواقع والحياة.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .