يبدو لكلّ متتبّع للتاريخ، ما كانت عليه الأمم قبل الإسلام من الجهل، وما وصلت إليه من الانحطاط في معارفهم وأخلاقهم. فكانت الهمجية سائدة عليهم، والغارات متواصلة فيما بينهم، والقلوب متجهة إلى النهب والغنيمة، والخطى مسرعة إلى إصلاء نيران الحروب والمعارك. وكان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة، ووحشية السلوك، فلا دين يجمعهم، ولا نظام يربطهم، وعادات الآباء تذهب بهم يميناً وشمالاً، وكان الوثنيون في بلاد العرب هم السّواد الأعظم، فكانت لهم ـ باختلاف قبائلهم وأسرهم ـ آلهة يعبدونها ويتخذونها شفعاء إلى الله، وشاع بينهم الاستقسام بالأنصاب والأزلام، واللعب بالميسر، حتى كان الميسر من مفاخرهم، وكان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء، ولهم عادة أخرى هي أفظع منها، وهي وأد البنات ـ دفنهنّ في حال الحياة ـ.
هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم. وحين بزغ نور محمد(ص)، وأشرقت شمس الإسلام في مكة، تنوروا بالمعارف، وتخلقوا بمكارم الأخلاق، فاستبدلوا الوثنية بالتوحيد، والجهل بالعلم، والرذائل بالفضائل، والشقاق والتخالف بالإخاء والتآلف، فأصبحوا أمّة وثيقة العرى، مدّت جناح ملكها على العالم، ورفعت أعلام الحضارة في أقطار الأرض وأرجائها. قال ألدوري (أحد وزراء فرنسا السابقين):
"وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أمّة واحدة، تقصد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أمّة كبيرة، مدت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض، أيام كانت أوروبا مظلمةً بجهالات أهلها في القرون المتوسّطة. ثم قال : إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصّين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربريّة التي امتدَّت على أوروبّا، حين اختلّ نظامها بفتوحات المتوحّشين".
نعم، إنّ جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب الله الكريم، الّذي فاق جميع الصحف السماوية. فإنّ للقرآن في أنظمته وتعاليمه مسلكاً يتمشّى مع البراهين الواضحة، وحكم العقل السّليم، فقد سلك سبيل العدل، وتجنّب عن طرفي الإفراط والتفريط. فتراه في فاتحة الكتاب يطلب عن لسان البشر من الله الهداية إلى الصّراط المستقيم، بقوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}.
وهذه الجملة على وجازتها واختصار ألفاظها، واسعة المعنى بعيدة المدى. وسنتعرّض لما يتيسّر من بيان ذلك عند تفسيرنا للآية المباركة إن شاء الله تعالى.
وقد أمر القرآن بالعدل وسلوك الجادة الوسطى في كثير من آياته. فقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}. {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
نعم، قد أمر القرآن بالعدل، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة، فنهى عن الشّحّ في عدّة مواضع، وعرّف الناس مفاسده وعواقبه:
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
بينما قد نهى عن الإسراف والتبذير، ودلّ الناس على مفاسدهما:
{وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}. {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.
وأمر بالصّبر على المصائب وبتحمّل الأذى، ومدح الصّابر على صبره، ووعده الثّواب العظيم:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}. {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
وإلى جانب هذا، لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه، بل أباح له أن ينتقم من الظالم بمثل ما اعتدى عليه، حسماً لمادة الفساد، وتحقيقاً لشريعة العدل:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
وجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل العامد :
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ}.
والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال، وأمره بالعدل والاستقامة، قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة، وتكفّل بما يصلح الأولى، وبما يضمن السعادة في الأخرى، فهو الناموس الأكبر جاء به النبي الأعظم ليفوز به البشر بكلتا السّعادتين، وليس تشريعه دنيوياً محضاً لا نظر فيه إلى الآخرة، كما تجده في التّوراة الرائجة، فإنها مع كبر حجمها، لا تجد فيها مورداً تعرّضت فيه لوجود القيامة، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الأعمال الحسنة والقبيحة. نعم، صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدّنيا، والتسلط على الناس باستعبادهم، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الربّ، هو الموت وسلب الأموال والسلطة. كما أنّ تشريع القرآن ليس أخروياً محضاً لا تعرض له بتنظيم أمور الدّنيا كما في شريعة الإنجيل. فشريعة القرآن شريعة كاملة، تنظر إلى صلاح الدنيا مرّة، وإلى صلاح الآخرة مرّة أخرى. فيقول في تعليماته:
{وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
ويحثّ الناس ـ في كثير من آياته ـ على تحصيل العلم، وملازمة التقوى، بينما يبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيّبات:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
ويدعو كثيراً إلى عبادة الله، وإلى التفكّر في آياته التشريعيّة والتكوينيّة، وإلى التأمل والتدبر في الآفاق وفي الأنفس، ومع ذلك، لم يقتصر على هذه الناحية الّتي توصل الإنسان بربّه، بل تعرض للنّاحية الأخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه.
وأحلّ له البيع: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
وأمره بالوفاء بالعقود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.
وأمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النّوع الإنساني: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}.
وأمر الإنسان بالإحسان إلى زوجتة، والقيام بشؤونها، وإلى الوالدين والأقربين، وإلى عامّة المسلمين، بل وإلى البشر كافة. فقال:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.. {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}. {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال، وقد أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الأمّة، ولم يخصّه بطائفة خاصّة، ولا بأفراد مخصوصين، وهو بهذا التّشريع، قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار، ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار. فقد جعل كلّ واحد من أفراد العائلة والبيئة مرشداً لهم، ورقيباً عليهم، بل جعل كلّ مسلم دليلاً وعيناً على سائر المسلمين، يهديهم إلى الرّشاد، ويزجرهم عن البغي والفساد، فالمسلمون بأجمعهم مكلّفون بتبليغ الأحكام، وبتنفيذها. أفهل تعلم جنوداً هي أقوى وأعظم تأثيراً من هذه الجنود، ونحن نرى السلاطين ينفّذون إرادتهم على الرعيّة بقوّة جنودهم؟ ومن الواضح أنهم لا يلازمون الرعيّة في جميع الأمكنة والأزمان، فكم فرق بين جند الإسلام، وجند السّلاطين!
ومن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين، وتوحّد بين صفوفهم: المؤاخاة بين طبقات المسلمين، ونبذ الميزات إلّا من حيث العلم والتقوى، حيث يقول:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
قال النبيّ: "إن الله عزّ وجلّ أعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها. فالناس اليوم كلّهم؛ أبيضهم وأسودهم، وقرشيّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم. وإنّ آدم خلقه الله من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم"... وقال: "فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم".
فالإسلام قدّم سلمان الفارسي لكمال إيمانه، حتى جعله من أهل البيت، وأخّر أبا لهب عمّ رسول الله(ص) لكفره.
إنك ترى أنّ نبيّ الإسلام لم يفتخر على قومه بنسب ولا حسب، ولا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعاً في عصره، بل دعاهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، وإلى كلمة التّوحيد، وتوحيد الكلمة، وبذلك قد تمكّن أن يسيطر على أمّة كانت تتفاخر بالأنساب بقلوب ملؤها الشّقاق والنفاق، فأثّر في طباعها حتى أزال الكبر والنّخوة منها، فأصبح الغني الشّريف يزوّج ابنته من المسلم الفقير، وإن كان أدنى منه في النسب.
هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه، تتفقّد مصالح الفرد، ومصالح المجتمع، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك، ما يعود منها إلى الدّنيا وما يرجع إلى الآخرة. فهل يشكّ عاقل بعد هذا في نبوّة من جاء بهذا الشّرع العظيم، ولا سيّما إذا لاحظ أنّ نبيّ الإسلام قد نشأ بين أمّة وحشيّة، لا معرفة لها بشيء من هذه التعليمات؟!
*من كتاب "البيان في تفسير القرآن"،ص 59-66.