في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تدلّ على القيم والمفاهيم التي تركز شخصية المؤمن وتبنيها على أسس قويّة وثابتة. فالقرآن الكريم يريد للشخصيّة أن لا تكون ضعيفة هشّة تسقطها الضغوطات والمغريات والتحديات. والتوكل على الله تعالى من المفاهيم التي تمنح الإنسان قوّة البصيرة، وثبات المشاعر، فيتصرّف بوعي وثقة وطمأنينة، فلا تطغى عليه المشاعر السلبيّة، ولا تسقط إرادته مخطّطات المبطلين والفاسدين.
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}[الفرقان: 58].
إنّ التوكّل على الله تعالى بكلّ يقين وخشوع وتسليم، يعني الانفتاح على ذكر الله واستحضاره في كلّ اللّحظات، بحيث يشعر بمراقبة الله تعالى له، ويحاسب نفسه، ويعيش التوكّل قناعةً وطاعةً وفهماً للتَّسليم والانقياد للّذي لا حدّ لملكه ولسلطته وجبروته وعزّته وفضله وقدرته وعلمه، فهو يرتكز إلى قوّة لا حدّ لها، تمنحه الاندفاعة الرّاسخة والواضحة في كلّ خطواته وحركته في الحياة، فلا يركن إلى الظّالمين والمنحرفين والمفسدين، وإلى جاه ومركز وسلطة زائلة.
التوكّل هو أن يقوى العبد بإيمانه بربّه وتوكله عليه، فلا ييأس ولا يبطر ولا يتجبّر. فالتوكل هو قيمة تنعكس على أخلاق الإنسان فتهذّبها وتسمو بها وتثبّتها في الشخصيّة، بحيث تصبح ملكات نفسانيّة تكرس التّقوى والعفو والورع.
التوكّل هو الاعتماد على خالق مقتدر لا يخيّب ثقة من يتوكّل عليه، بل يهيّئ له كل سبل النجاح والتوفيق في حال أخلص العبد في طاعته، وسعى في الحياة بالعمل الصالح الذي ينفع.
في المقابل، فإن الذين لا يرتكزون إلى قوّة مستمدّة من التوكّل على الله، يعيشون وهماً كبيراً، وفي ضياع، عندما يركنون إلى زعيم أو نفوذ أو فتنة مال، لذا هم في خسران وتشتّت.
ومن الشَّواهد القرآنيّة التي دعت إلى التوكّل على الإله المطلق الّذي لا حدّ له، قوله تعالى: "{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ}، واعتمد عليه في كلّ أمورك، وتابع سيرك في رعايته، ولا تلتفت إلى كلِّ المعوّقات التي تواجهك في الطّريق، وإلى كلّ الأشخاص الذين يتمرّدون عليك أو يسخرون منك، فهو الّذي يكفيك الأمر كلّه، لأنّه خالق الجميع ورازقهم، وهو الحيّ الّذي لا يموت، وهو الباقي الّذي يشرف على الجميع، ولا يفوته أحد منهم في أيِّ زمان ومكان. وذلك هو سبيل اختزان القوّة في عمق شخصيّتك، لأنّ الإنسان الذي يتوكل على الحيّ الذي لا يموت، لا يمكن أن يخشى أو يخاف من الذي يعيش المدّة المحدّدة التي تنتهي بالموت.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}، واذكره بالتعظيم في موقف الثّناء عليه، لتتعرف دلائل عظمته وآفاق حمده، من خلال صفاته في كماله وجلاله وجماله، مما يملأ روحك وعقلك وضميرك بالخشوع بين يديه، والخضوع لقدرته الّتي لا نهاية لها؛ وتطلّع إليه في علمه الذي لا حدَّ له في إحاطته بشؤون عباده إن أحسنوا أو أساؤوا.
{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}، فهو المطَّلع على سرّهم وعلانيتهم، فلا يفوته شيء مما يضمرونه أو يخفونه أو يظهرونه، ما يفرض عليهم أن يراقبوه في كلّ أعمالهم، فإن غفر لهم، فبرحمته، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته، من غير حاجةٍ إلى من يعينه أو يعرِّفه أيّ شيء".[تفسير من وحي القرآن، ج 17، ص 68].
وورد في تفسير فخر الدين الرازي:
"أمّا قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ}، فالمعنى أنه سبحانه لما بيَّن أن الكفار متظاهرون على إيذائه، فأمره بأن لا يطلب منهم أجراً البتّة، أمره بأن يتوكّل عليه في دفع جميع المضار، وفي جلب جميع المنافع، وإنما قال: {عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ}، لأن من توكل على الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكَل عليه، صار المتوكل ضائعاً، أمّا هو سبحانه وتعالى، فإنّه حيّ لا يموت، فلا يضيع المتوكَّل عليه البتّة.
أمّا قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}، فمنهم من حمله على نفس التّسبيح بالقول، ومنهم من حمله على الصّلاة، ومنهم من حمله على التّنزيه لله تعالى عمّا لا يليق به في توحيده وعدله، وهذا هو الظّاهر، ثم قال: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}، وهذه كلمة يراد بها المبالغة. يقال: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهو بمعنى حسبك، أي: لا تحتاج معه إلى غيره؛ لأنّه خبير بأحوالهم، قادر على مكافأتهم، وذلك وعيد شديد، كأنّه قال: إن أقدمتم على مخالفة أمره، كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقّون من العقوبة". [التفسير الكبير، فخر الدّين الرازي].
فلنربِّ أنفسنا على التوكّل على الحيّ القيّوم الّذي لا حدود لقيمومته، كي نستمدّ منه العزيمة والقوّة ورسوخ اليقين، في مواجهة كلّ المصاعب التي تعترض طريقنا في الحياة.