الدّعاء صلة وصل بين العبد وربّه، بحيث يؤكّد فيه ارتباطه بالله، وانتماءه إليه انتماءً واعياً، يركّز مشاعر الإيمان في وجدانه ومشاعره، بحيث يتحرّك العبد وفق إرادة الله فيما يقول ويفعل. هذا الدعاء الذي يعكس روح إيمان العبد بما جاء في رسالات الله من دعوات متتالية على لسان رسله، كي ينفتح الناس على توحيد الله، وليتوجّهوا في مشاعرهم وحاجاتهم إلى الله تعالى، بما يمنحهم السّلامة في كلّ خطواتهم وكدحهم إليه تعالى.
العبد هو من يحتاج إلى فعل الإيمان والدّعاء، بغية التّعبير عن عمق عقيدته والتزامه الإيماني الذي ينعكس مزيداً من الوعي والحكمة في تصرّفاته وأوضاعه، والله تعالى هو الغنيّ عن عباده، ويريد لهم كلّ خير ينفعهم في دنياهم وآخرتهم. لذا، أرسل رسله ليهدوا النّاس ويتعرفوا إلى خالقهم، ولكي يدعوه دعوة فيها كلّ الإخلاص والانفتاح على آفاق ألوهيّته وعظمته.
يقول تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ مَا يَعْبأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}. وحول تفسير هذه الآية، يقول العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض):
"{قُلْ مَا يَعْبأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}، أي أنَّ الله لا يبالي بكم ولا يعتني بشأنكم، ولا يجعل لكم منزلةً عنده لولا دعاؤكم. وهذا المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير. ولكن ما هو المراد من كلمة "دُعَآؤُكُمْ"؟ هل المراد بها الدّعاء إلى الله فيما يدعو الإنسان إليه من الإيمان به وعبادته والعودة إليه من الضّياع الّذي يلفّ الإنسان في أجواء الضّلال، فيكون المعنى أنّ الله لا يعبأ بكم في أيّ وضع من الأوضاع، لولا دعاؤه لكم لتهتدوا، ولتعبدوه وحده لا شريك له؟ أو أنّ المراد بها دعاء العبد لله في ما يهمّه من أمور الحياة، أو فيما يحسّه من مشاعر الإيمان به، والخشوع له، والخضوع إليه، ليعبّر عن توحيده، بالكلمة والحركة والابتهال، فيكون المعنى أنّ الله لا يعبأ بكم لولا دعاؤكم إيّاه، فيما يمثّله ذلك من التّصديق بوجوده، والإِذعان بوحدانيّته، والإخلاص لعبادته؟
هناك من يختار الوجه الأوّل، لأن الفقرة التالية لا تتناسب مع الوجه الثّاني، وهي قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، لأنّ تفريع ذلك على ما قبله، من تفريع السبب على المسبّب، بمعنى انكشافه بمسبّبه، أي أنّ السبب في عدم اعتناء الله بكم هو تكذيبكم به، فلا خير يرجى منكم، فسوف يكون هذا التّكذيب ملازماً لكم أشدّ الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجّة عليكم، أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم.
أما المعنى الثاني، فإنه لا يلائم تفرّع قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} عليه، وكان عليه من حقّ الكلام أن يقال: وقد كذبتم، على أنَّ المصدر المضاف إلى فاعله، يدلّ على تحقق الفعل منه وتلبّسه به، وهم غير متلبّسين بدعائه وعبادته تعالى، فكان من حقّ الكلام على هذا التقدير أن يقال: لولا أن تدعوه.
ولكنّنا نلاحظ على هذا الاختيار التفسيريّ، أنّ المعنى الثاني أقرب، لأنّ الظاهر من الآية هو التركيز على العنصر الذي ينال به النّاس اعتناء الله بهم ورعايته لهم، مما يصدر عنهم، لا مما يصدر عنه، تماماً كما تقول: لا قدر لك عندي لولا فعلك الكذائي، أو لولا قرابتك، أو ما أشبه ذلك، ما يوحي بأنّ مدخول «لولا»، هو الشيء الذي يستحقّ بلحاظه القرب إليه والاعتناء به، ليكون المعنى أنّ الدّعاء هو الذي يمنحكم رعاية الله وعنايته بكم، باعتبار ما يمثله من الدّلالة على إيمانكم به وخضوعكم له.. ولكنكم لم تفعلوا ذلك، لأنكم لم تلتزموا خط الإيمان، فقد كذّبتم به وبرسله، وتمرّدتم عليه، وخضعتم لغيره، ودعوتم سواه، فسوف يكون إبعاده لكم لزاماً، لأنّكم لم تأخذوا بسبب القرب إليه".[تفسير من وحي القرآن، ج 17، ص 83].
وحول هذه الآية، يقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنيّة(رض): {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}: "لستم عند الله وفي الواقع بشيء يستحقّ الذّكر والعناية، لولا شيء واحد، وهو دعاء الرّسول لكم إلى الإيمان، كي تلزمكم الحجّة عند الحساب والجزاء إذا لم تسمعوا وتطيعوا. والدليل على إرادة هذا المعنى، قوله تعالى بلا فاصل مخاطباً المجرمين المعاندين: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} دعوة الرّسول وأعرضتم عنها {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}: أصبح عقابكم لازماً لا مفرّ منه، ومن يعمل سوءًا يجز به.[التّفسير المبين، الشيخ مغنيّة].
جاء في تفسير الطّبري: "... حَدَّثَنِي يُونُس قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ: قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله: {قُلْ مَا يَعْبَأ بِكُمْ رَبِّي} يَصْنَع {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}.. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِم قَالَ: ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِث قَالَ: ثنا الْحَسَن قَالَ: ثنا وَرْقَاء جَمِيعاً، عَنِ ابْن أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِد، قَوْله: {قُلْ مَا يَعْبَأ بِكُمْ رَبِّي}، قَالَ: يَعْبَأ: يَفْعَل. وَقَوْله: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}، يَقُول: لَوْلَا عِبَادَة مَنْ يَعْبُدهُ مِنْكُمْ، وَطَاعَة مَنْ يُطِيعهُ مِنْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْل التَّأْوِيل".[تفسير الطبري].
فالله تعالى يتودّد إلينا بالقبول والتلطف والرّحمة إذا ما بادرنا إلى تركيز روح الإيمان به في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا، وأخلصنا له الطّاعة والدّعاء بما ينفعنا نحن.
من هنا، أهمية التربية على التوجّه إلى الله، والطّلب منه بإخلاص ونوايا صادقة، وأن ننمّي الإيمان في نفوسنا، كي تكون نفوساً صافية تعكس إيمانها في كلّ سلوكيّاتها وواقعها.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.