قصَّة أخرى من القصص القرآنيّ تنقلنا إلى أحداثٍ حصلت كي نستعبر منها ونتعلَّم، ونأخذ ما يفيدنا، وحتّى نستذكر الله تعالى وحكمته.
يقول المولى عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. [الأعراف: 175ـ 176].
إنها قصَّة رجلٍ من بني إسرائيل، جاء في الروايات أنّه يُدعى "بلعم بن باعورا"، أنعم الله عليه بالهداية، وآتاه شيئاً من العلم، ولكنّه لم يثبت على إيمانه، ولم تنفعه علاقته بالله، وبدل أن يتمسَّك بها، انحرف واتّبع الشّيطان، وغرّته الحياة الدّنيا، فهوى إليها وسقط في الامتحان، فضلَّ وغوى، وأنصت إلى صوت هواه ونفسه الأمّارة بالسوء، ونسي ربّه، واتخذ إلهه هواه، فكان مصيره الخروج من رحمة الله تعالى ونعيمه وفضله.
يقول المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض) في تعليقه على هذه الآيات المباركة: "{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}، في ما رزقناه من وسائل المعرفة، في ما يهدي إليه العقل أو الوحي، {فَانسَلَخَ مِنْهَا}، وابتعد عنها في عمليّة رفض وانحراف، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، لأنَّ الفكر الّذي تمثِّله هو فكر الذّرى الشمّاء الّذي ينظر إلى أعالي الأمور، ولا يتطلَّع إلى أسافلها، حيث الرّوحيّة المنفتحة على الله في آفاق المطلق.
{وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}، والتصق بها، وأقبل عليها في عبادة وخضوع.. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، فجعله القاعدة الّتي ينطلق منها في كلّ أقواله وأعماله وعلاقاته وانتماءاته، وإذا كان الهوى هو القاعدة، فمعنى ذلك أنَّ الضّياع هو الأفق..
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}، لأنَّ هذا اللّهاث الَّذي يتصاعد منه، ليس وليد موقف دفاعيّ، أو نتيجة حركة عقلانيَّة، بل هو حالة جسديّة تخضع لحاجات الجسد، وتلتقي بجانب الغريزة... {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، وانحرفوا عنها، وساروا ـ من خلال ذلك ـ في طريق الضّلال..
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} على هؤلاء الّذين تدعوهم إلى الحقّ، ليعيشوا تجارب الآخرين من خلال القصَّة، لا ليستهلكوها لتكون مجرّد كلماتٍ لاهيةٍ تملأ لديهم أوقات الفراغ.
{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فيقارنون بين حياتهم وحياة أولئك الَّذين عاشوا في أحداث تلك القصص.. ويعرفون النّتائج السلبيّة في حياتهم المستقبليّة إذا ساروا على النّهج الذي سار عليه أولئك، من خلال دراستهم للعاقبة السيّئة التي انتهى إليها أمرهم في الماضي".[تفسير من وحي القرآن، ج:10، ص:286-287].
ويشير الفخر الرّازي في تفسير ما تقدَّم، إلى أنَّ هذه الآيات نزلت حسب رواية ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، في بلعم بن باعورا، في زمن النبيّ موسى(ع). وبحسب رواية عبدالله بن عمرو، وسعيد بن المسيَّب، وزيد بن أسلم، وأبو روق، نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلب، وكان قد قرأ الكتب، وعلم أنَّ الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلمّا أرسل الله محمَّداً(ص) حسده، ثم مات كافراً. وقيل نزلت في حقِّ أبي عامر الراهب في الجاهليّة، وسماه النبيّ(ص) "الفاسق".
"فإن قال قائل: فهل يصحّ أن يُقال إنَّ المذكور في الآية كان نبيّاً ثم صار كافراً؟ قلنا: هذا بعيد، لأنَّه تعالى قال: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام: 124]، أمّا قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا}، ففيه قولان:
القول الأوّل: يعني علَّمناه حجج التّوحيد، وفهّمناه أدلّته حتى صار عالماً بها، {فَانسَلَخَ مِنْهَا}، أي خرج من محبّة الله إلى معصيته، ومن رحمته إلى سخطه...
والقول الثّاني: ما ذكره أبو مسلم، فقال قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}، أي بيّناها، فلم يقبل وعَرِيَ منها، وسواء قولك: انسلخ، وعرِي، وتباعد، وهذا يقع على كلّ كافر لم يؤمن بالأدلّة وأقام على الكفر.. واعلم أنَّ حاصل الفرق بين القولين، هو أنَّ هذا الرّجل في القول الأوّل، كان عالماً بدين الله وتوحيده، ثم خرج منه، وعلى القول الثّاني، لمّا أتاه الله الدّلائل والبيّنات امتنع من قبولها، والقول الأوّل أولى، لأنّ قوله انسلخ منها يدلّ على أنّه كان فيها ثم خرج منها.. أمّا قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}، ففيه وجوه:
الأوّل: أتبعه كفّار الإنس وغواتهم، أي الشّيطان جعل كفّار الإنس أتباعاً له.
والثّاني: قال عبدالله بن مسلم: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}، أي أدركه، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، قال أصحابنا: معناه ولو شئنا رفعناه للعمل بها، فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصّالحة منزلته، ثم قال تعالى: {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}، قال أصحاب العربيّة: أصل الإخلاد اللّزوم على الدّوام، وكأنّه قيل: لزم الميل إلى الأرض.
قال ابن عباس: {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}، يريد مالَ إلى الدّنيا... وقال الزجّاج: سكن إلى الدّنيا، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، معناه: أنّه أعرض عن التمسّك بما آتاه الله من الآيات واتّبع الهوى.. ثم قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}. قال اللّيث: اللّهث هو أنَّ الكلب إذا ناله الإعياء عند شدَّة العدو، وعند شدَّة الحرّ، فإنّه يدلع لسانه من العطش، واعلم أنّ هذا التمثيل ما وقع لجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخسّ الحيوانات هو الكلب، وأخسّ الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدّين، فمال إلى الدّنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبَّهاً بأخسّ الحيوانات.. {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، فعمّ بهذا التمثيل جميع المكذّبين بآيات الله.. {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ}، يريد قصص الّذين كفروا وكذّبوا أنبياءهم، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، يريد يتّعظون".[التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي].
نتعلّم من هذه القصّة القرآنيَّة أن ننتبه إلى سوء عاقبتنا، ونحافظ على توازننا وأنفسنا في سبيل ضمان سلام خاتمتنا، فالمهمّ أن تكون خاتمة الأعمال بخير، وأن ننال رضا الله تعالى، إذ إنَّ الإنسان بطبعه تجذبه مغريات الدّنيا، وإذا كان ضعيف الإيمان والبصيرة، ستعميه الدّنيا وتضرّه وتفقده صوابه.
فكم نسمع عن أناسٍ انحرفوا عن الصِّراط القويم، وخانوا الله ورسوله، وخانوا أمانة الله في النّاس، واتّبعوا أهواءهم!
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.