إنّها قصّة أخرى من قصص القرآن الكريم، حيث الإشارة إلى الماكرين والمخادعين الّذين يختبرهم الله تعالى ويبلوهم بأعمالهم، ليميز الخبيث منهم من الطيِّب، فمكر الله فوق مكر الماكرين وتمرّد الخائنين على دعوته، وفي ذلك عِبرة لنا كي نتعلّم أنَّ الله لا مجال لخداعه والتمرّد على أوامره، فهو العالم بالسرّ والعلن والظّاهر والباطن، وهو معنا أينما كُنّا، وهو الكاشف لأعمالنا الخفيَّة، مهما خطَّطنا وابتعدنا عن أعين النّاس.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف: 163].
وفي تفسيرها، يقول العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض): "{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، الضّمير يعود إلى اليهود الذين كانوا في المدينة، فقد أراد الله من نبيِّه أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية الّتي كانت على ساحل البحر، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، أي يتجاوزون أمر الله في الامتناع عن الصَّيد في يوم السّبت، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً}، أي ظاهرة على وجه الماء، فلا يملكون أنفسهم من الإقبال على صيدها طمعاً في الحصول عليها، {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ}، أي عندما لا يكون يوم السّبت، ويكون الصّيد مباحاً لهم، فإنَّ الحيتان لا تأتيهم، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم}، ونختبرهم بهذا التّكليف الصَّعب عقوبةً لهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فقد أراد الله أن يظهر حالهم وتمرّدهم عليه، فأرسل إليهم السّمك في اليوم الّذي حرّم عليهم فيه الصّيد، وأمسكه عنهم في اليوم الذي أباحه لهم".
وفي تعليقه على الآية، يثير المرجع السيّد فضل الله(رض) نقطتين:
"الأولى: إنَّ هذه الحادثة من الحوادث الخارقة للعادة الّتي حدثت بقدرة الله على خلاف الواقع المألوف في حركة السَّمك في البحر أو النّهر... لحكمةٍ يراها، فإنَّ قدرته في الإيجاد هي قدرته في الخرق والتّغيير المحدود أو المطلق، وهذا هو الأفق الإيمانيّ الذي يتحرّك فيه الغيب، ويخضع له الإيمان الّذي يؤمن من خلاله الإنسان بالقدرة الإلهيّة القاهرة للواقع كلّه وللمخلوقات كلّها.
الثّانية: جاء في مجمع البيان للطّبرسي: "اختلف في أنَّهم كيف اصطادوا؟ فقيل: إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السّبت، حتى كان يقع فيها السَّمك، ثم كانوا لا يُخرجون الشّبكة من الماء إلى يوم الأحد، وهذا تسبّبٌ محظور.. ونلاحظ أنَّهم استخدموا الحيلة في تجاوز النّصّ الذي جاء بتحريم الصّيد يوم السّبت بالتركيز على الجانب الحرفيّ منه، دون الجانب العميق لمعناه وهدفه، فإنَّ الظّاهر أنَّ الله أراد لهم أن لا يصيدوا السَّمك يوم السّبت بطريقة مباشرة في مستوى الواقع الزمني أو بطريقة غير مباشرة؛ ولكنّهم واجهوا الحكم من خلال حركة الصّيد في يوم السبت على أساس الخصوصيّة الزّمنيّة للفعل، وهذا ما يُسمّى بالحيلة الشرعيّة التي يحتال فيها الناس على القانون ليتجاوزوا روحه إلى شكله...".
وينطلق السيّد فضل الله(رض) من أجواء القصَّة، ليشير إلى عنوان الحيل الشّرعيّة في الفقه، والّتي يتجاوز فيها الفقيه العناوين المحرَّمة إلى العناوين المحلَّلة، مع وحدة الموضوع من حيث طبيعته الواقعيّة، واختلافه من الناحية العنوانيّة، على أساس اختلاف الشَّكل.. وقد نحتاج إلى المزيد من التأمّل في هذه المسائل التي تبتعد عن روح الحكم الشّرعي، لأنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فإذا كان الموضوع واحداً في الواقع، فكيف يكون الحكم مختلفاً مع تبدّل الشَّكل الّذي لا يبدِّل الموضوع في العمق؟ كما يحذّر السيّد(رض) من هذا الاتجاه الذي يترك تأثيراً سلبيّاً في صورة الدّين أمام الآخرين... [من وحي القرآن، ج 7، ص 257 ـ 260].
وهذا الطَّبري يقول في تفسيره للقصَّة: "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل يا محمد هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك، عن أمر "القرية الّتي كانت حاضرة البحر"، يقول كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه، واختلف أهل التّأويل فيها، فقال بعضهم: هي "أيلة" بين مَدْيَن والطّور، وقال بعضهم: هي "مَقْنا" بين مدْين وعينوني.
وكان اعتداؤهم في السَّبت أنَّ الله حرّم عليهم السَّبت (الصّيد فيه)، فكانوا يصطادون فيه السَّمك، حيث كانت الأسماك والحيتان ظاهرةً بوفرة على الماء يوم السّبت، فالله أظهر السّمك لهم في اليوم المحرَّم صيده، وأخفاه عنهم في اليوم المحلَّل صيده، كي يختبرهم "بما كانوا يفسقون"، بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها".[التّفسير الجامع للطبري].
وعلى المعتبِر من القصَّة أن يفتح عقله ومشاعره على الحكمة في كلِّ ذلك، كي يزداد إيماناً بالغيب وبمعجزة الله تعالى وقدرته وعلمه المطلق.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

إنّها قصّة أخرى من قصص القرآن الكريم، حيث الإشارة إلى الماكرين والمخادعين الّذين يختبرهم الله تعالى ويبلوهم بأعمالهم، ليميز الخبيث منهم من الطيِّب، فمكر الله فوق مكر الماكرين وتمرّد الخائنين على دعوته، وفي ذلك عِبرة لنا كي نتعلّم أنَّ الله لا مجال لخداعه والتمرّد على أوامره، فهو العالم بالسرّ والعلن والظّاهر والباطن، وهو معنا أينما كُنّا، وهو الكاشف لأعمالنا الخفيَّة، مهما خطَّطنا وابتعدنا عن أعين النّاس.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف: 163].
وفي تفسيرها، يقول العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض): "{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، الضّمير يعود إلى اليهود الذين كانوا في المدينة، فقد أراد الله من نبيِّه أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية الّتي كانت على ساحل البحر، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، أي يتجاوزون أمر الله في الامتناع عن الصَّيد في يوم السّبت، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً}، أي ظاهرة على وجه الماء، فلا يملكون أنفسهم من الإقبال على صيدها طمعاً في الحصول عليها، {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ}، أي عندما لا يكون يوم السّبت، ويكون الصّيد مباحاً لهم، فإنَّ الحيتان لا تأتيهم، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم}، ونختبرهم بهذا التّكليف الصَّعب عقوبةً لهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فقد أراد الله أن يظهر حالهم وتمرّدهم عليه، فأرسل إليهم السّمك في اليوم الّذي حرّم عليهم فيه الصّيد، وأمسكه عنهم في اليوم الذي أباحه لهم".
وفي تعليقه على الآية، يثير المرجع السيّد فضل الله(رض) نقطتين:
"الأولى: إنَّ هذه الحادثة من الحوادث الخارقة للعادة الّتي حدثت بقدرة الله على خلاف الواقع المألوف في حركة السَّمك في البحر أو النّهر... لحكمةٍ يراها، فإنَّ قدرته في الإيجاد هي قدرته في الخرق والتّغيير المحدود أو المطلق، وهذا هو الأفق الإيمانيّ الذي يتحرّك فيه الغيب، ويخضع له الإيمان الّذي يؤمن من خلاله الإنسان بالقدرة الإلهيّة القاهرة للواقع كلّه وللمخلوقات كلّها.
الثّانية: جاء في مجمع البيان للطّبرسي: "اختلف في أنَّهم كيف اصطادوا؟ فقيل: إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السّبت، حتى كان يقع فيها السَّمك، ثم كانوا لا يُخرجون الشّبكة من الماء إلى يوم الأحد، وهذا تسبّبٌ محظور.. ونلاحظ أنَّهم استخدموا الحيلة في تجاوز النّصّ الذي جاء بتحريم الصّيد يوم السّبت بالتركيز على الجانب الحرفيّ منه، دون الجانب العميق لمعناه وهدفه، فإنَّ الظّاهر أنَّ الله أراد لهم أن لا يصيدوا السَّمك يوم السّبت بطريقة مباشرة في مستوى الواقع الزمني أو بطريقة غير مباشرة؛ ولكنّهم واجهوا الحكم من خلال حركة الصّيد في يوم السبت على أساس الخصوصيّة الزّمنيّة للفعل، وهذا ما يُسمّى بالحيلة الشرعيّة التي يحتال فيها الناس على القانون ليتجاوزوا روحه إلى شكله...".
وينطلق السيّد فضل الله(رض) من أجواء القصَّة، ليشير إلى عنوان الحيل الشّرعيّة في الفقه، والّتي يتجاوز فيها الفقيه العناوين المحرَّمة إلى العناوين المحلَّلة، مع وحدة الموضوع من حيث طبيعته الواقعيّة، واختلافه من الناحية العنوانيّة، على أساس اختلاف الشَّكل.. وقد نحتاج إلى المزيد من التأمّل في هذه المسائل التي تبتعد عن روح الحكم الشّرعي، لأنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فإذا كان الموضوع واحداً في الواقع، فكيف يكون الحكم مختلفاً مع تبدّل الشَّكل الّذي لا يبدِّل الموضوع في العمق؟ كما يحذّر السيّد(رض) من هذا الاتجاه الذي يترك تأثيراً سلبيّاً في صورة الدّين أمام الآخرين... [من وحي القرآن، ج 7، ص 257 ـ 260].
وهذا الطَّبري يقول في تفسيره للقصَّة: "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل يا محمد هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك، عن أمر "القرية الّتي كانت حاضرة البحر"، يقول كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه، واختلف أهل التّأويل فيها، فقال بعضهم: هي "أيلة" بين مَدْيَن والطّور، وقال بعضهم: هي "مَقْنا" بين مدْين وعينوني.
وكان اعتداؤهم في السَّبت أنَّ الله حرّم عليهم السَّبت (الصّيد فيه)، فكانوا يصطادون فيه السَّمك، حيث كانت الأسماك والحيتان ظاهرةً بوفرة على الماء يوم السّبت، فالله أظهر السّمك لهم في اليوم المحرَّم صيده، وأخفاه عنهم في اليوم المحلَّل صيده، كي يختبرهم "بما كانوا يفسقون"، بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها".[التّفسير الجامع للطبري].
وعلى المعتبِر من القصَّة أن يفتح عقله ومشاعره على الحكمة في كلِّ ذلك، كي يزداد إيماناً بالغيب وبمعجزة الله تعالى وقدرته وعلمه المطلق.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.