لكلّ فقيه ومجتهد منهج ورؤية لجهة استنباط الحكم الشّرعيّ، فعمليّة الاستنباط ليست مسألة ميكانيكيّة جامدة، بل تتطلّب منهجاً اجتهاديّاً عالياً يكتشف روح الأحكام والفتاوى الّتي تتحرّك مع حركة العصر وحاجات النّاس.
ولكلّ مرجع من المراجع بصمته الخاصَّة في كلّ ذلك، ومن هؤلاء الفقهاء المجتهدين، المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، الّذي أدخل القرآن الكريم كأساسٍ في استنباط الفتاوى، وأخذ الأحاديث الشَّريفة كمجموعةٍ تمثّل هيكليّةً واحدة، ومنها جميعاً خلص إلى نتائج متعدِّدة، فمن يتعاطَ مع القرآن الكريم ككتاب حياة ودعوة وحركة في الواقع، يجد أنّه خرج من المنهج التّقليديّ الشَّائع، واستطاع بانفتاح عقله وقلبه أن يحصل على ثمرات علميَّة متنوّعة.
ويجيب سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض) على سؤالٍ حول منهجه الاستنباطيّ، فيوضح ذلك، ويلفت إلى أنَّ فتاواه مستنبطة من أدلَّتها الشرعيَّة.. وهناك من العلماء من يوافقه الرّأي، وهي ليست كما يخال البعض بأنها سهلة عليهم أو ما شاكل ذلك، فالنّاس ـ بحسب سماحته(رض) ـ في موقفهم من الفتاوى على قسمين: إمّا علماء وإمّا غير علماء.
وما يهمّنا هو عرض كلام سماحته(رض) حول منهجه الاستنباطيّ، لما فيه من منافع وتوجيه لكلّ من يخوض في هذا الشّأن ويحبّ أن يطّلع على ما قاله. سُئِل سماحته(رض): يُقال بأنَّ لديكم رؤية جديدة في منهج الاستنباط، هل يمكن أن تحدِّثونا عن ذلك؟
فأجاب: "الواقع أنا لا أدَّعي ذلك لنفسي، ولكنّني عندما درست القرآن، وفَّقني الله سبحانه وتعالى لكتابة التّفسير الكامل للقرآن، وهداني إلى دراسات قرآنيّة مثل "أسلوب الدعوة في القرآن"، و"الحوار في القرآن"، وكثير من الأبحاث القرآنيّة، فحاولت أن أدخل القرآن كأساسٍ لاستنباطي للفتاوى، لأعتبر القرآن هو الّذي يشعّ ضوءاً على الأحاسيس ويعطيها إشراقة، علماً أنَّ أئمّة أهل البيت(ع) أمرونا أن نعرض كلّ ما عندنا من الأحاديث على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فعلينا أن نأخذه، وما خالف كتاب الله فعلينا أن نطرحه خلف الجدار.
لذلك، حاولت أن أفهم القرآن في كثيرٍ من الحالات فهماً فقهيّاً بطريقةٍ وبأخرى، كما أنّني في إطار الاعتماد على الحديث، حاولت الاستنباط في مسألةٍ فيها الكثير من الأحاديث بنحوٍ لا أنظر إلى الحديث كحديثٍ مستقلّ، بل أعتبر الأحاديث بمجموعها تمثِّل هيكليّةً واحدة، ومن خلال فهم الجميع يمكن أن أستنبط..
ومن بين الأمور الّتي أحبّ أن أسوقها من خلال هذا المنهج، هناك مثلاً خلاف حول التَّدخين، هل هو حلال أم حرام، فالفقهاء (للسَّبب أعلاه)، يقولون إنَّ التَّدخين حلال فيما لا يوجد هناك نصّ... وحتى فقهاؤنا عندما أرادوا أن يفتوا بحرمة هذا الإدمان، هل إنَّه بنفسه محرَّم أم لا، لم يثبت لديهم إلا في الحالات الّتي يتحوَّل الإدمان إلى مشكلة صحّيّة غالبة فوق العادة، وعندما لاحظنا مثلاً الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}[البقرة: 219]، تساءلنا عن الأساس في الحرمة؟ فوجدنا أنّ الجواب هو أن الإنسان يحصل على نشوة من الخمر يهرب فيها من مشاكله، ويحصل على ربح من خلال القمار إذا لم يجد عملاً، ولكنّ المفسدة أكبر من ذلك، ولا بدّ من تقديم المفسدة الكبيرة على المصلحة الصّغيرة، ومن خلال ذلك حاولنا استيحاء الآية: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}.. وكلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام، وكلّ ما كان نفعه أكثر كان حلالاً".
ويتابع سماحته(رض) عارضاً المسألة: "ونسأل الأطبّاء؛ هل إنَّ ضرر التّدخين أكثر أو إنّ نفعه أكثر؟ ولن يجيبنا طبيب بأنّ نفعه وضرره متساويان، وإنما الجواب الطبيعيّ في العالم كلّه أنّ الضّرر أكبر.. وإذاً، نستطيع أن نأخذ حكم التّدخين من هذه الآية.. ونحن نأخذ القاعدة من أهل الخبرة إذا قالوا إنّ الضّرر أكثر من النفع، فحكمه الحرمة، وهذا ما نفهمه من القرآن"...
ويشير سماحته إلى إمكانيّة الإفادة كثيراً من القرآن في مجال الفتاوى، ويوضح للبعض ما يتعلّق بفتاويه بالقول: "يمكن أن نستفيد ونستوحي من القرآن الكريم كثيراً من الفتاوى الجديدة الّتي لا يلتفت إليها من يتعاطى مع القرآن الكريم في إطار المنهج التقليديّ الشّائع، وأودّ أن أقول لكلّ أخواني الذين ربما استظرفوا الفتاوى المماثلة الّتي صدرت عني، على أساس أن بعض الناس، والشباب خصوصاً، يميلون إلى من يسهِّل عليهم، لكنني أقول إن هذه الفتاوى بأجمعها مستنبطة من أدلّتها، وما من فتوى إلا وهناك من العلماء من يوافقني فيها الرّأي.. فمثلاً حليّة "اللّعب بأدوات القمار"، يقول بها كثير من العلماء المعاصرين، كالسيّد أحمد الخونساري (جامع المدارك)، والّذي استشهد به الإمام الخميني عندما ثارت الحملة ضدّه بأنه حلّل الشطرنج، وهو ثقة عند الجميع، وحتى السيد السيستاني، لا يفتي بحرمة اللّعب بآلات القمار، وإنما يحتاط احتياطاً وجوبيّاً.
فالمسألة عنده ليس مقطوعة بالتَّحريم، والناس في موقفهم من الفتاوى على قسمين، إمّا علماء، فيقال لهم: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 111]، وإمّا غير علماء، فيقال لهم: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}[آل عمران: 66]؟!". [كتاب النّدوة، ج 1، ص 508 ـ 511].
نرى بعد هذا العرض، أنَّ سماحته(رض) اعتمد على استنطاق مفاهيم القرآن الحركيّة، وعلى قواعده التي تحكم الكثير من الوقائع، كما نظر إلى الحديث الشّريف على أنّه جزء لا يتجزّأ، وأنّه مرتبط في أهدافه وغاياته ومراميه، إضافةً إلى امتلاك سماحته الذّوق الأدبيّ والبلاغيّ الرّفيع الّذي يجعله أكثر قرباً ونهلاً من معين النّصوص الشّرعيَّة.
علينا أن نتعرَّف إلى كلّ تجارب فقهائنا وعلمائنا، حسب المستطاع، لنرى ما فيها من أفقٍ معرفيٍّ وثقافيّ يوسّع من آفاقنا وقراءاتنا لهذه التَّجارب والتفاعل معها والإفادة منها.