تحدَّث القرآن الكريم عن العبد الصّالح في سورة الكهف، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}[الكهف: 65]..
وتتحدّث الروايات أنّ الخضر كان في زمن النبيّ موسى(ع)، وهناك أحاديث تقول بأنّه حيّ ولم يمت بعد، وما نريد قوله إنّه من خلق الله تعالى، وفيه تجلّت آياته، إذ أعطاه الله تعالى علم تأويل الأمور، والإحاطة بخفايا الأمور، لا لشيءٍ إلا كي يظهر حكمة الله، ويدلّ على عظيم قدرته وإرادته، حيث يختار لأمره وفضله من يشاء من عباده الصّالحين.
البعض من العلماء قال بأنّه رسول، وآخرون بأنّه وليّ، واختلفوا هل هو نبيّ فقط أم أنّه نبيّ رسول؟ وقال النّووي في كتابه "بستان العارفين": "والذي عليه الأكثرون أنّه كان نبيّاً"، وقيل كان نبيّاً رسولاً، وذكر أبو إسحاق الثّعالبي أنّ الخضر "على جميع الأقوال نبيّ معمِّر محجوب عن الأنظار، فهو نبيّ على المشهور، وعند جماهير العلماء". وقيل: إنّه يموت في آخر الزّمان حين يرفَع القرآن.
وقال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط: "إنّ الخضر نبيّ من الأنبياء".. وأورد الإمام القرطبي قول ابن عطيّة: "كان علم الخضر علم معرفة البواطن".
وحول شخصيَّته، يقول سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض) موضحاً: "وفي حديث أئمَّة أهل البيت(ع) في ما رواه محمد بن عمارة عن الإمام جعفر الصّادق(ع)، أنّ الخضر كان نبيّاً مرسلاً، بعثه الله تعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسوله وكتبه.. وقد تذكر بعض الأحاديث أنّه حيّ لم يمت بعد، وليس هناك دليل قطعيّ يثبت ذلك، كما أنّه ليس هناك دليل عقليّ يمنع من ذلك من خلال قدرة الله المطلقة على ذلك وعلى أكثر منه.
ولا نجد هناك كبير فائدة في تحقيق الأمر في شخصيّته وفي خصوصيّته، لأنّ ذلك لا يتّصل بأيّ جانب في العقيدة والحياة.. {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا}، ربما كانت هي النبوّة، وربما كانت شيئاً آخر مما يرحم به عباده، وبما يختصّ به بعضهم من ميزة خاصّة في موقعه وفي ملكاته.. {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} مما لم يؤته الله لغيره من عمق الإحاطة بخفايا الأمور وتأويل الأشياء، وهذا ما كان الآخرون ـ ومنهم موسى(ع) ـ بحاجةٍ إلى الاطّلاع عليه، مما أراده الله أن يسعى إليه في اللّقاء بهذا العالم الصّالح".[تفسير من وحي القرآن، ج:14، ص:363].
البعض من العلماء، ومن خلال قصّة الخضر(ع) مع موسى(ع)، يعتبر أنّه لا بدّ للنبيّ من أن يعلم علم كلّ شيء، وفي كلّ العلوم والقضايا، وليس فقط ما يختصّ بتبليغ الرّسالة وما تحتاجه من معرفة التّفاصيل.
وحول هذه النّقطة، يشير سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض)، بأنّ هناك رأياً يقول بأنّ العقل لا يفرض، في مسألة القيادة والإمامة والطّاعة، إلا أن يكون الشّخص الذي يتحمل هذه المسؤوليات محيطاً بالجوانب المتّصلة بمسؤوليّاته، في ما لا يحيط به الناس إلا من خلاله، أمّا الجوانب الأخرى من جزئيات حياتهم العامّة، أو من مفردات علوم الحياة والإنسان، أو من خفايا الأمور البعيدة عن عالم المسؤوليّة، أمّا هذه الجوانب، فلا دليل على ضرورة إحاطته بها، ولا يمنع العقل أن يكون لشخصٍ حقّ الطّاعة ـ في بعض الأمور الّتي يحيط بها ـ على النّاس الّذين يملكون إحاطةً في أشياء أخرى لا يحيط بها ولا تتعلّق بحركة المسؤوليّة..
وربما كانت هذه القصّة دليلاً على صحّة هذا الرّأي الّذي نميل إليه، كما يميل إليه بعض العلماء القدامى، لأنّه يلتقي بالجوّ القرآنيّ الّذي يتحدَّث عن الأنبياء بطريقةٍ معيّنة بعيدة عمّا اعتاده الناس في نظرتهم إليهم من خلال الأسرار الخفيّة والكمال القريب من المطلق.[تفسير من وحي القرآن، ج:14، ص:364].
إنّنا نؤمن بكلّ الرّسل والأنبياء والصّالحين الّذين اختارهم الله تعالى ليكونوا مصداقاً حيّاً، ونوراً يتحرّك في دنيا البشر، كي ينفتحوا على علمهم وتجاربهم وكلّ مسيرتهم، بما يزوّدهم بالإيمان وتعميقه في نفوسم، وبما يغذّي أرواحهم ونفوسهم بالطّمأنينة والسّلامة والتّوحيد والإخلاص لله تعالى، المفضل والمنعم على عباده المؤمنين الصّابرين المحتسبين.
إنَّ الخضر(ع) حيٌّ في كلّ القلوب المؤمنة الطّاهرة والطيّبة التي تبحث عن الله تعالى دوماً في كلّ حركاتها وسكناتها، والخضر(ع) حيٌّ في كلّ العقول التي تنفتح على أجواء الإيمان والتّقوى والعمل الصّالح.