قصّة هابيل وقابيل هي قصّة قرآنيَّة تثير فينا العبرة، علَّنا نعتبر ونلتفت إلى نوازع الشّرور في نفوسنا، ونحذر منها كي لا نقع في نتائجها المدمِّرة للذّات والحياة، إنها قصَّة تبرز قضيَّة صراعٍ بين الحقّ والباطل على مدى الزّمن، وتكشف صورة الإنسان الفطري السَّاذج الضَّعيف أمام جوانبه الغريزيّة، وهو ما يترك أثراً سلبيّاً في السّلوك البشريّ العام، فالإنسان المستسلم للحسد والحقد الّذي يتملَّكه، يخرج عن طبيعته الإنسانيّة السويّة، ويجعله ذلك إنساناً فاسداً منحرفاً يصل إلى حدِّ قتل أخيه الإنسان بكلِّ دمٍ بارد.
يقول الحقّ تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة: 27 ـ 31].
هذه قصَّة قابيل وهابيل ابنيْ آدم في بداية رحلتهما في الأرض، إذ رفض الله تعالى قبول قربان الأوَّل، فواجه ذلك بتمرّدٍ وعنجهيَّة، ووصل به الأمر لاحقاً إلى البغي والعدوان على أخيه.
ثم جرى حوار بين الأخوين، إذ نرى التَّهديد والوعيد بقتل الأخ المؤمن، وما قابله به أخوه من أجواء المودَّة والانبساط والمشاعر الصَّافية البريئة، ولم يقابله بأيِّ موقفٍ عصبيٍّ منطلقٍ من ردّ فعل، بل استوعب الموقف باللّين في الكلام والشّعور.
يقصّ الله تعالى علينا خبر هابيل وقابيل في تجربتهما الأولى، والَّتي أظهرت بكلِّ وضوح أبعاد شخصيَّة كلٍّ منهما، إذ قدَّما قرباناً لله تعالى كنوعٍ من العبادة والتقرّب إلى الله تعالى، فتقبّل الله من هابيل، ولم يتقبّل من قابيل.
وبحسب ما ذكر المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "...فإنَّ الظاهر من هذا، أنَّ هناك ناراً إلهيَّة يرسلها الله لتأكل القربان المقبول وتترك غير المقبول، وقد أكَّدت هذا المعنى الرّوايات الإسلاميَّة الواردة في هذا الموضوع، كما تحدَّثت عن الخلفيّات النفسيّة لهذين الرّجلين في الإخلاص لله.. وقالت، كما في تفسير القمّي نقلاً عن الميزان: لما قرّب ابنا آدم القربان، قرَّب أحدهما أسمن كبشٍ كان في ضيافته، وقرّب الآخر ضغثاً من سنبل، فتقبّل الله من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبّل من الآخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: والله لأقتلنّك ـ إلى آخر الحديث...".[تفسير من وحي القرآن، ج 8، ص 130].
لقد تحوَّل الغضب والحسد عند قابيل إلى إرادة جديَّة في القتل والعدوان، إذ لم يتحمّل رؤية أخيه في الحياة لما منحه الله من الفضائل الأخلاقيَّة والروحيَّة، فاستسلم لنوازع الشرّ في نفسه، وانقاد لوسوسة نفسه، فقتل أخاه، فأصبح في حالة خسرانٍ لدنياه وآخرته، حيث استحقَّ سخط الله وغضبه.
فقد جاء في الرّواية العامَّة ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ عن جعفر الصّادق(ع) قال: "قتل قابيل هابيل وتركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فقصده السّباع، فحمله في جرابٍ على ظهره حتى أرْوح، وعكفت عليه الطّير والسّباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، فبعث الله غرابيْن فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر له بمنقاره وبرجله، ثم ألقاه في الحفرة وواراه، وقابيل ينظر إليه، فدفن أخاه".[مجمع البيان، ج:3، ص 232].
ويعلِّق على ذلك المرجع السيّد فضل الله(رض) بقوله: "فإذا صحّت هذه الرواية، فإنّها تدلّ على أنَّ المسألة كانت تعليماً إلهيّاً من خلال الإلهام للغراب حتى يفعل ذلك، مما لم يكن معتاداً للطّيور، وربما يؤيِّد ذلك ما يمكن استفادته من قوله تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي}، أي كما وارى هذا الغراب سوأة الغراب الآخر. ولكن جاء في بعض كتب التفسير، أنَّ الغراب من بين الطّير من عادته أنّه يدّخر بعض ما اصطاد لنفسه بدفنه في الأرض، وبعض ما يقتات بالحبّ ونحوه من الطّير، وربما بحث في الأرض للحصول على مثل الحبوب والدّيدان، لا للدّفن والادّخار، والله العالم". [تفسير من وحي القرآن، ج:8، ص:136].
وهكذا تعلّم قابيل طريقة الدَّفن من التّجربة الحسيّة للغراب. من هنا نتعلَّم من خلال هذا الحوار بين الأخوين، أن ننمِّي نزعة الخير فينا، ونبتعد عن نوازع الشّرّ، كي لا نقع في المحذور، ونسقط في عالم الخطيئة الّتي تسلبنا إرادتنا وحريّتنا.
ونتعلَّم أنَّ الإيمان بالله تعالى ليس مجرَّد فكرةٍ تعيش في الفراغ أو على السَّطح، بل هو موقف وفعل وسلوك في مواجهة التّحدّيات، والثّبات على الحقّ من منطلق الإيمان الّذي يفرض التزام الحقّ قولاً وعملاً.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.