في حدود الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في عاشوراء

في حدود الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في عاشوراء

هناك سؤال يتردَّد: هل كان الإمام الحسين(ع) يعلم بما سيصيبه في نهاية المطاف عندما بدأ مسيرته إلى كربلاء؟ وإذا كان يعلم ذلك، كيف جاز له أن ينطلق في مسيرته الَّتي تؤدّي به إلى القتل بعد النّهي القرآني عن إلقاء النفس في التهلكة؟

والجواب عنه أنَّ في حديث السّيرة الحسينيَّة عدة إشارات إلى أنه كان عالماً بمصيره من خلال الأحاديث المروية عن رسول الله(ص)، وفيما أثاره في حواره مع الّذين طلبوا منه العودة عن قراره بالسفر إلى العراق، وفيما تحدَّث به إلى القوم الذين رافقوه من مكَّة، حيث أعلن لهم النهاية المحتومة التي سينتهي إليها في سفره ذاك، وربما كانت طبيعة الأمور في موازين القوة تفرض ذلك، ولا سيما في منتصف الطريق، عندما عرف بمقتل سفيره وابن عمه، مسلم بن عقيل، في الكوفة بعد خذلان الناس له... وفي ضوء ذلك، كيف نفسّر المسألة من النّاحية الفقهيَّة؟

ربما يثير البعض المسألة في دائرة خصوصيات الإمام الحسين(ع) في تكاليفه الشَّرعيَّة الَّتي قد تفرضها إمامته، مما يجوز له ولا يجوز غيره، لأنَّ دوره يختلف عن دور الآخرين، ولذلك، فإنه يطرح المسألة على أساس أنّه عرف بتكليفه فيما حدَّد الله له من تكاليف، فليس لنا أن نخوض في الموضوع في دائرة التصوّر الشَّرعي في تكاليفنا.

ولكنَّنا نتساءل: ما هي المشكلة في القضيَّة؟! ولماذا لا يجوز للرسالي الثائر أن يتحرك بالثورة ضد الفئات التي تتحدى الإسلام في حركته وفي قوّته وفي امتداده، في المواقع التي يواجه فيه الخطر المحقّق أو المحتمل؟

إنَّ الجواب عن ذلك هو أنَّ هناك فرقاً بين الحالات الفرديَّة التي تؤدي إلى الموت، والحالات الجهادية التي تتحرك في مواقع الخطر، فقد رخص الله للمجاهدين أن يتحركوا في الساحات التي تؤدي بهم إلى القتل، فرادى أو جماعات، لأن الإسلام يفرض عليه ذلك، ما يجعل دائرة الجهاد خارجةً عن دائرة حركة إلقاء النفس بالتهلكة.

وفي ضوء ذلك، فإن الإمام الحسين(ع) حدّد لنفسه ولأصحابه من أهل بيته وغيرهم المهمة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعياً هو الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العليا، تماماً كما هي حالة المجاهدين في زمن النبي(ص) فيما كانوا يواجهونه من احتمالات الخطر الكبير، ويأملون من خلال الشهادة التي يحصلون عليها الفوز بالجنة فيما وعد الله به عباده المجاهدين الذين اشترى منهم أموالهم وأنفسهم {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[i]، كما جاء في الآية الكريمة.

ثم لو كانت المسألة كما يقولون، فلماذا لا يكون فعل الإمام دليلاً شرعياً على استثناء مثل هذه الحالات من إطلاق النهي عن إلقاء النفس بالتهلكة؟ وإذا كان الفعل كما يقولون، لا إطلاق فيه، فيقتصر فيه على مورده، وهو الإمام الحسين(ع)، فهناك نقطة لا بد من التوقف عندها، وهي أن أهل بيته وأصحابه انطلقوا بالموقف من خلال العناوين العامة للجهاد، بإذنه وبرعايته، ما يوحي أن المسألة لا تتصل بالمورد الخاص، بل تمتد إلى الخط العام، مما يؤدي بنا إلى الاستنتاج الفقهي بأن من الممكن لأية حالة مماثلة فيما هي الظروف والمواقع أن تأخذ الشرعية لحركتها من عاشوراء، على أساس أنها خارجة عن دائرة النهي الشرعي في إلقاء النفس بالتهلكة.

ونبقى في الإطار الفقهي في قضية عاشوراء، لنطرح أسئلة أخرى يلتقي مع السؤال الأول في بعض جوانبه، ولكنه يختلف عنه في العنوان والامتداد: هل نستطيع أن نفهم شرعيّة العمل المسلّح في حركة التغيير للواقع الإسلامي المنحرف من خلال هذه الحركة الحسينية؟ وهل يمكن أن تنطلق عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أمة الإسلام، لتدفع بالقيادة الإسلامية وبالمسلمين معها، إلى التحرك في خط المواجهة، ولا سيما إذا كان الواقع الإسلامي واقع القيادة المنحرفة التي تعمل على إضعاف الخط الإسلامي الفكري أو العملي؟ وهل كانت حركة الثورة في عاشوراء حركة فاعلة في مستوى المبادرة الحسينية، أو كانت حركة منفعلة بالضغط الأموي الذي عمل على محاصرة الإمام الحسين(ع) ومن معه، ما أدى إلى أن يقفوا في مواجهة القوة المحاصِرة دفاعاً عن النفس؟

هذه علامات استفهام قد يطرحها البعض ليؤكد أنَّ الحسين تحرّك من خلال ما كان يتصوَّره من الظروف الطبيعية للواقع، حيث كان الرفض للبيعة حركة تتجه إلى صنع القوة من خلال الاتصالات التي كان يجريها مع الشخصيات الفاعلة في الكوفة والبصرة وغيرهما، ومن خلال الاستجابة للرغبة الكبيرة التي عبّر عنها الكثيرون من الشخصيات القيادية في الكوفة، الأمر الذي أقنعه بالقدرة على أن يواجه المسألة من موقع قوي يعيد الشَّرعية إلى موقعها القوي، ليواجه السلطة غير الشرعية على أساس العناوين الجديدة التي تتمخض عنها الحركة، ليطلب من كلّ القوى، بما فيها الحاكم الجائر، الابتعاد عن موقع السلطة، فإذا رفض ذلك، كانت محاربته محاربة للرافضين للطّاعة في الدخول في البيعة العامة المرتكزة على شرعية الإسلام.

إنَّ الإمام الحسين(ع)، كان مقتنعاً بقدرته على أن يجعل من الكوفة مركز السّلطة الشرعيَّة، تماماً كما كان عليه أمر أبيه الإمام علي(ع)، من دون أن يقوده ذلك إلى قتالٍ، من خلال نجاح سفيره مسلم بن عقيل في سيطرته على الكوفة، وهذه هي وجهة نظر هؤلاء، وقد يؤكّدون نظرتهم بأنَّ الحسين(ع) لو كان يعرف أن الأمر يؤدي إلى قتال، لما بدأ تحركه بهذا الشكل الثائر القوي، لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفرضان على المسلم، قائداً كان أو جندياً، مثل هذا الأسلوب في الحركة، بل قد يُشْكِل الأمر إذا أدى ذلك إلى العنف الجارح أو القاتل.

ولكننا في دراستنا للسيرة الحسينية، من خلال الكلمات الصادرة من الإمام الحسين(ع) في أحاديثه مع الشخصيات التي حاولت أن تصرفه عن مسيره، تحت تأثير التحذير من الخطر الذي يواجهه من خذلان أهل الكوفة ومن ضغط بني أمية، نجد أنَّ الإمام الحسين(ع) كان واعياً للنتائج القاسية التي قد تنتهي إليه حركته، ولو على مستوى الاحتمال الكبير، بل قد يستشعر الباحث من بعض الكلمات أنَّ المسألة كانت مورد قناعة يقينيَّة لديه، ولا سيَّما إذا عرفنا أنَّ طبيعة مثل هذا الموقف الذي يواجه فيه رأس السلطة ليبعده عن موقعه.

كان يفرض تلك النتائج كما كان الأمر مع أبيه الذي كان يدافع عن موقعه الشرعي ضد الذين تمردوا عليه، ومع أخيه الإمام الحسن(ع) الذي كان ينطلق من الموقع نفسه، حيث كان من الصعب، بدرجة عالية جداً، أن تنتهي المسألة إلا بقتال عنيف، مع ملاحظة مهمة، وهي أن الإمام الحسين(ع) كان يرفض الصلح على أي مستوى، لأن المرحلة التي كان يتحرك فيها لا تستجيب لأية مصلحة إسلامية في الصلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن(ع) في حربه مع معاوية، وهذا ما يجعل من مسألة النتائج الخطرة أمراً طبيعياً جداً.

ثم نلاحظ أنَّ الإمام الحسين(ع) عرف بمقتل مسلم بن عقيل، وخذلان أهل الكوفة له، وسيطرة بني أمية من خلال ابن زياد على الكوفة، في الوقت الذي لم يكن الأمر قد ضاق به إلى مستوى الحصار الذي يمنعه من العودة إلى المدينة أو الذهاب إلى مكان آخر، فلو أنَّ المسألة مسألة حركة تبرر نفسها بما تملكه من القوة، بعيداً عن أية مبادرة للمواجهة الحادة العنيفة التي تنتهي بالحرب، لكان من المفروض أن يعود الإمام الحسين(ع) من حيث أتى عند معرفته بأن ميزان القوة قد بدأ يميل إلى جانب خصومه.

وهكذا نرى أنَّ الموقف كان حاسماً في الإصرار على الثورة في خط الشهادة، ولذلك، وقف في كربلاء ليرفض كلّ العروض التي قدَّمها إليه ابن زياد عبر جماعته، في تقديم السلامة له ولأهل بيته ولأصحابه، بشرط أن يتنازل ليزيد ويدخل في عملية صلح جديد معه، على طريقة الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن(ع) ومعاوية، أو على طريقة أخرى.

إنَّ الإمام الحسين(ع) وضع عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أمة جده رسول الله(ص)، في واجهة حركته، ليذكّر المسلمين الَّذين يريد لهم أن يكونوا معه، بالعناوين الشرعية التي تفرض عليهم التحرك معه، وليحدّثهم أنَّ مسألته ليست مسألة ثائر يتطلَّع إلى السّلطة من موقع الزهو والسيطرة الطاغية، فليست القضية قضية تحديات المسألة الذاتية في مواجهة مسألة ذاتية أخرى، بل هي للإيحاء إليهم بأن هذه العناوين تفرض على كل الناس الاستجابة لأية قيادة تعمل من أجل تحويلها إلى واقع حيّ، كما تفرض على القيادة أن تتحرك من أجلها...

 [حديث عاشوراء]


[1] [التوبة: 111]

هناك سؤال يتردَّد: هل كان الإمام الحسين(ع) يعلم بما سيصيبه في نهاية المطاف عندما بدأ مسيرته إلى كربلاء؟ وإذا كان يعلم ذلك، كيف جاز له أن ينطلق في مسيرته الَّتي تؤدّي به إلى القتل بعد النّهي القرآني عن إلقاء النفس في التهلكة؟

والجواب عنه أنَّ في حديث السّيرة الحسينيَّة عدة إشارات إلى أنه كان عالماً بمصيره من خلال الأحاديث المروية عن رسول الله(ص)، وفيما أثاره في حواره مع الّذين طلبوا منه العودة عن قراره بالسفر إلى العراق، وفيما تحدَّث به إلى القوم الذين رافقوه من مكَّة، حيث أعلن لهم النهاية المحتومة التي سينتهي إليها في سفره ذاك، وربما كانت طبيعة الأمور في موازين القوة تفرض ذلك، ولا سيما في منتصف الطريق، عندما عرف بمقتل سفيره وابن عمه، مسلم بن عقيل، في الكوفة بعد خذلان الناس له... وفي ضوء ذلك، كيف نفسّر المسألة من النّاحية الفقهيَّة؟

ربما يثير البعض المسألة في دائرة خصوصيات الإمام الحسين(ع) في تكاليفه الشَّرعيَّة الَّتي قد تفرضها إمامته، مما يجوز له ولا يجوز غيره، لأنَّ دوره يختلف عن دور الآخرين، ولذلك، فإنه يطرح المسألة على أساس أنّه عرف بتكليفه فيما حدَّد الله له من تكاليف، فليس لنا أن نخوض في الموضوع في دائرة التصوّر الشَّرعي في تكاليفنا.

ولكنَّنا نتساءل: ما هي المشكلة في القضيَّة؟! ولماذا لا يجوز للرسالي الثائر أن يتحرك بالثورة ضد الفئات التي تتحدى الإسلام في حركته وفي قوّته وفي امتداده، في المواقع التي يواجه فيه الخطر المحقّق أو المحتمل؟

إنَّ الجواب عن ذلك هو أنَّ هناك فرقاً بين الحالات الفرديَّة التي تؤدي إلى الموت، والحالات الجهادية التي تتحرك في مواقع الخطر، فقد رخص الله للمجاهدين أن يتحركوا في الساحات التي تؤدي بهم إلى القتل، فرادى أو جماعات، لأن الإسلام يفرض عليه ذلك، ما يجعل دائرة الجهاد خارجةً عن دائرة حركة إلقاء النفس بالتهلكة.

وفي ضوء ذلك، فإن الإمام الحسين(ع) حدّد لنفسه ولأصحابه من أهل بيته وغيرهم المهمة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعياً هو الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العليا، تماماً كما هي حالة المجاهدين في زمن النبي(ص) فيما كانوا يواجهونه من احتمالات الخطر الكبير، ويأملون من خلال الشهادة التي يحصلون عليها الفوز بالجنة فيما وعد الله به عباده المجاهدين الذين اشترى منهم أموالهم وأنفسهم {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[i]، كما جاء في الآية الكريمة.

ثم لو كانت المسألة كما يقولون، فلماذا لا يكون فعل الإمام دليلاً شرعياً على استثناء مثل هذه الحالات من إطلاق النهي عن إلقاء النفس بالتهلكة؟ وإذا كان الفعل كما يقولون، لا إطلاق فيه، فيقتصر فيه على مورده، وهو الإمام الحسين(ع)، فهناك نقطة لا بد من التوقف عندها، وهي أن أهل بيته وأصحابه انطلقوا بالموقف من خلال العناوين العامة للجهاد، بإذنه وبرعايته، ما يوحي أن المسألة لا تتصل بالمورد الخاص، بل تمتد إلى الخط العام، مما يؤدي بنا إلى الاستنتاج الفقهي بأن من الممكن لأية حالة مماثلة فيما هي الظروف والمواقع أن تأخذ الشرعية لحركتها من عاشوراء، على أساس أنها خارجة عن دائرة النهي الشرعي في إلقاء النفس بالتهلكة.

ونبقى في الإطار الفقهي في قضية عاشوراء، لنطرح أسئلة أخرى يلتقي مع السؤال الأول في بعض جوانبه، ولكنه يختلف عنه في العنوان والامتداد: هل نستطيع أن نفهم شرعيّة العمل المسلّح في حركة التغيير للواقع الإسلامي المنحرف من خلال هذه الحركة الحسينية؟ وهل يمكن أن تنطلق عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أمة الإسلام، لتدفع بالقيادة الإسلامية وبالمسلمين معها، إلى التحرك في خط المواجهة، ولا سيما إذا كان الواقع الإسلامي واقع القيادة المنحرفة التي تعمل على إضعاف الخط الإسلامي الفكري أو العملي؟ وهل كانت حركة الثورة في عاشوراء حركة فاعلة في مستوى المبادرة الحسينية، أو كانت حركة منفعلة بالضغط الأموي الذي عمل على محاصرة الإمام الحسين(ع) ومن معه، ما أدى إلى أن يقفوا في مواجهة القوة المحاصِرة دفاعاً عن النفس؟

هذه علامات استفهام قد يطرحها البعض ليؤكد أنَّ الحسين تحرّك من خلال ما كان يتصوَّره من الظروف الطبيعية للواقع، حيث كان الرفض للبيعة حركة تتجه إلى صنع القوة من خلال الاتصالات التي كان يجريها مع الشخصيات الفاعلة في الكوفة والبصرة وغيرهما، ومن خلال الاستجابة للرغبة الكبيرة التي عبّر عنها الكثيرون من الشخصيات القيادية في الكوفة، الأمر الذي أقنعه بالقدرة على أن يواجه المسألة من موقع قوي يعيد الشَّرعية إلى موقعها القوي، ليواجه السلطة غير الشرعية على أساس العناوين الجديدة التي تتمخض عنها الحركة، ليطلب من كلّ القوى، بما فيها الحاكم الجائر، الابتعاد عن موقع السلطة، فإذا رفض ذلك، كانت محاربته محاربة للرافضين للطّاعة في الدخول في البيعة العامة المرتكزة على شرعية الإسلام.

إنَّ الإمام الحسين(ع)، كان مقتنعاً بقدرته على أن يجعل من الكوفة مركز السّلطة الشرعيَّة، تماماً كما كان عليه أمر أبيه الإمام علي(ع)، من دون أن يقوده ذلك إلى قتالٍ، من خلال نجاح سفيره مسلم بن عقيل في سيطرته على الكوفة، وهذه هي وجهة نظر هؤلاء، وقد يؤكّدون نظرتهم بأنَّ الحسين(ع) لو كان يعرف أن الأمر يؤدي إلى قتال، لما بدأ تحركه بهذا الشكل الثائر القوي، لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفرضان على المسلم، قائداً كان أو جندياً، مثل هذا الأسلوب في الحركة، بل قد يُشْكِل الأمر إذا أدى ذلك إلى العنف الجارح أو القاتل.

ولكننا في دراستنا للسيرة الحسينية، من خلال الكلمات الصادرة من الإمام الحسين(ع) في أحاديثه مع الشخصيات التي حاولت أن تصرفه عن مسيره، تحت تأثير التحذير من الخطر الذي يواجهه من خذلان أهل الكوفة ومن ضغط بني أمية، نجد أنَّ الإمام الحسين(ع) كان واعياً للنتائج القاسية التي قد تنتهي إليه حركته، ولو على مستوى الاحتمال الكبير، بل قد يستشعر الباحث من بعض الكلمات أنَّ المسألة كانت مورد قناعة يقينيَّة لديه، ولا سيَّما إذا عرفنا أنَّ طبيعة مثل هذا الموقف الذي يواجه فيه رأس السلطة ليبعده عن موقعه.

كان يفرض تلك النتائج كما كان الأمر مع أبيه الذي كان يدافع عن موقعه الشرعي ضد الذين تمردوا عليه، ومع أخيه الإمام الحسن(ع) الذي كان ينطلق من الموقع نفسه، حيث كان من الصعب، بدرجة عالية جداً، أن تنتهي المسألة إلا بقتال عنيف، مع ملاحظة مهمة، وهي أن الإمام الحسين(ع) كان يرفض الصلح على أي مستوى، لأن المرحلة التي كان يتحرك فيها لا تستجيب لأية مصلحة إسلامية في الصلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن(ع) في حربه مع معاوية، وهذا ما يجعل من مسألة النتائج الخطرة أمراً طبيعياً جداً.

ثم نلاحظ أنَّ الإمام الحسين(ع) عرف بمقتل مسلم بن عقيل، وخذلان أهل الكوفة له، وسيطرة بني أمية من خلال ابن زياد على الكوفة، في الوقت الذي لم يكن الأمر قد ضاق به إلى مستوى الحصار الذي يمنعه من العودة إلى المدينة أو الذهاب إلى مكان آخر، فلو أنَّ المسألة مسألة حركة تبرر نفسها بما تملكه من القوة، بعيداً عن أية مبادرة للمواجهة الحادة العنيفة التي تنتهي بالحرب، لكان من المفروض أن يعود الإمام الحسين(ع) من حيث أتى عند معرفته بأن ميزان القوة قد بدأ يميل إلى جانب خصومه.

وهكذا نرى أنَّ الموقف كان حاسماً في الإصرار على الثورة في خط الشهادة، ولذلك، وقف في كربلاء ليرفض كلّ العروض التي قدَّمها إليه ابن زياد عبر جماعته، في تقديم السلامة له ولأهل بيته ولأصحابه، بشرط أن يتنازل ليزيد ويدخل في عملية صلح جديد معه، على طريقة الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن(ع) ومعاوية، أو على طريقة أخرى.

إنَّ الإمام الحسين(ع) وضع عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أمة جده رسول الله(ص)، في واجهة حركته، ليذكّر المسلمين الَّذين يريد لهم أن يكونوا معه، بالعناوين الشرعية التي تفرض عليهم التحرك معه، وليحدّثهم أنَّ مسألته ليست مسألة ثائر يتطلَّع إلى السّلطة من موقع الزهو والسيطرة الطاغية، فليست القضية قضية تحديات المسألة الذاتية في مواجهة مسألة ذاتية أخرى، بل هي للإيحاء إليهم بأن هذه العناوين تفرض على كل الناس الاستجابة لأية قيادة تعمل من أجل تحويلها إلى واقع حيّ، كما تفرض على القيادة أن تتحرك من أجلها...

 [حديث عاشوراء]


[1] [التوبة: 111]

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية