الاجتهاد وطريقة الاحتفال بعاشوراء

الاجتهاد وطريقة الاحتفال بعاشوراء

إنَّنا نتصوّر أنَّ الاجتهاد لم يختلف في القاسم المشترك بين طريقة الاحتفال بعاشوراء في الماضي والحاضر، وهو إقامة مجالس العزاء، كما أنَّ الماضي كان يختزن اللَّطم، ولكن بشكلٍ هادئٍ معبّرٍ عن الحزن، ولكن ما حدث هو بعض العادات الشعبيَّة، وهي مسألة ضرب الرؤوس بالسَّيف، وضرب الظّهور بالسلاسل، وهذه العادات لم تنطلق من اجتهادٍ فقهيٍّ شارك في إنتاجها وتحويلها إلى عادة شعبيَّة لدى الناس، بل انطلقت من مبادراتٍ شعبيَّةٍ شخصيَّة استثارت عاطفة الناس فقلّدوها، ثم تعاظمت العاطفة وتجذّرت العادة، حيث أصبحت من المقدَّسات التي قد لا يجرؤ حتى العلماء على مواجهة المدّ الشعبي في ذلك، حتى إنَّ الَّذين يقفون ضد هذه العادات يوصمون بأنهم ضد الحسين وأهل البيت(ع)، وأنَّهم يريدون إسقاط هذه الذكرى وإبعادها عن الوجدان الشعبي، وما إلى ذلك.. وقد ثارت الغوغاء ـ حتى عند بعض العلماء ـ ضد السيد محسن الأمين، عندما حرّم هذه العادات في كتابه "التنزيه في أعمال الشبيه"، وعانى الكثير حتى سُبَّ وشُتِم ونُظِمت القصائد في هجائه.

لكن قد يقول قائل إنَّ هناك من المجتهدين الكبار جداً من المحدثين، منذ خمسين أو ستين سنة أو أكثر، قد أفتوا بإباحة هذه الشعائر، وإنها ليست محرمة في ذاتها، إلا إذا أدّت إلى التهلكة. وهنا نسأل، لماذا هذه الفتاوى؟

إنَّ المسألة انطلقت من جدل فقهي، وهو: هل يحرم إضرار الإنسان بنفسه إذا لم يكن الضَّرر بالغاً، كأن يجرح الإنسان يده، أو يجرح رأسه، أو ما إلى ذلك، مما لا يشكّل خطراً على حياته؟ هل الضرر محرّم في ذاته، أو أن المحرّم هو الإضرار الذي يؤدي إلى التهلكة أو إلى وضعٍ صحيٍّ خطيرٍ؟

هناك رأيان اجتهاديان في هذه المسألة:

هناك من يقول بحرمة الإضرار بالنفس من ناحية مبدئيَّة، إلا في الحالات التي تكون هناك مصلحة أهم، كما في تعريض الإنسان نفسه للضرر في الأسفار، أو في سهر الليالي حتى يحصل على ربح مادي أو معنوي، فهناك ميزان بين المفسدة في الضرر وبين المصلحة، وهذا أمر إنساني، فإذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة، فإنها تجمّد المفسدة، وشرعياً يسمى هذا "بباب التزاحم"، أي أنَّه إذا تزاحم حكم تحريمي ما مع حكم وجوبي أو جائز، وكانت المصلحة هنا أقوى من المفسدة هناك، فإنها تجمّد حكم التحريم، وعلى هذا الأساس، فهؤلاء يقولون إنه يحرم على الإنسان أن يجرح نفسه، حتى في التعبير عن التأسّي أو المحبة وغير ذلك.

وهناك رأي اجتهادي آخر يتبنّاه الكثيرون من العلماء، وهو أنه لا يحرم على الإنسان أن يضرّ نفسه إذا لم يصل الضرر إلى حالة صحيَّة سلبيَّة كبيرة، أو إلى التّهلكة.. وفي ضوء ذلك، أفتى هؤلاء العلماء بأنَّ ضرب الرأس بالسيف حزناً أو مواساةً، ليس محرماً في ذاته، وإنما يحرم إذا كان الضَّرر مؤدياً إلى التهلكة.

وهناك تحفّظات لدى بعض العلماء الذين يقولون بالإباحة من حيث العنوان الأولي، أي من حيث المبدأ، لأنه قد يحرم من ناحية العنوان الثانوي، وهذا ما أجاب به المرجع الكبير الراحل السيد أبو القاسم الخوئي(ره) عندما سُئِلَ عن الضرب بالسيف والسلاسل، فقال إنه لا يجوز إذا استلزم الهتك والتوهين. وعندما سُئِل مرة ثانية: كيف تفسّر الهتك والتوهين؟ قال: ما يوجب الذلّ والهوان للمذهب في نظر العرف السائد.

أما نحن، فقد أفتينا بالحرمة، لأننا نرى أنه يحرم إضرار الإنسان بنفسه، إلا في الحالات التي تفرضها الضرورة، ولذلك، قلنا إنه يحرم ضرب الرؤوس بالسيف، أو ضرب الظهور بالسلاسل، وحتى اللطم العنيف الذي يوجب إضراراً بالإنسان، ولو كان إضراراً غير خطير، لأننا نستفيد من النصوص التي بين أيدينا حرمة الإضرار بالنفس، كما أننا نجد أنَّ السيرة العقلائية تقتضي ذلك، فالناس يستنكرون على أيّ إنسان يضرب نفسه إذا لم تكن هناك مسألة أهم وأولى بالرعاية من هذا الإضرار. ومن هنا، فإننا نرى أنَّ هذا الأمر محرم شرعاً، حتى لو كان بعنوان الحزن والمؤاساة.

ولديّ ملاحظة أخرى في هذا المجال، وهي أنَّ الذين يضربون رؤوسهم بالسيف أو ظهورهم بالسّياط، يقولون: إننا نريد أن نواسي الحسين(ع) في جراحاته، أو نواسي زينب(ع) وأخواتها عندما جلدن بالسّياط، فنجلد ظهورنا ونجرح رؤوسنا... ولكنَّني أقول: إنَّ المواساة تفرض أن تجرح في الموقع الَّذي جرح فيه، وأن تجلد في الموقع الذي جلد فيه أيضاً، فالحسين جُرح وهو يجاهد..

ولذلك، فالَّذين يواسون الحسين هم الَّذين يجاهدون ويواجهون العدو الإسرائيلي من شباب المقاومة، فهم يجرحون في الموقع الَّذي جُرح فيه الحسين، والذين يواسون السيدة زينب هم الذين يجلدون في سجون العدو، لأنها جلدت وهي في خطِّ الثّورة والقضيَّة، سواء كانوا من الرجال أو النساء...

 لهذا، فإنني أجد أنَّ هذه العادات لا بدَّ من إزالتها من ناحية شرعية، لأنها محرمة بالعنوان الأولي بناءً على رأينا، ومحرّمة بالعنوان الثانوي أيضاً، من خلال السلبيات الكثيرة على مستوى الإنسان، وعلى مستوى صورة الطائفة الإسلامية الشيعية في العالم، ولذلك قلنا: هي نوع من أنواع التخلّف...

[المصدر: حديث عاشوراء]

إنَّنا نتصوّر أنَّ الاجتهاد لم يختلف في القاسم المشترك بين طريقة الاحتفال بعاشوراء في الماضي والحاضر، وهو إقامة مجالس العزاء، كما أنَّ الماضي كان يختزن اللَّطم، ولكن بشكلٍ هادئٍ معبّرٍ عن الحزن، ولكن ما حدث هو بعض العادات الشعبيَّة، وهي مسألة ضرب الرؤوس بالسَّيف، وضرب الظّهور بالسلاسل، وهذه العادات لم تنطلق من اجتهادٍ فقهيٍّ شارك في إنتاجها وتحويلها إلى عادة شعبيَّة لدى الناس، بل انطلقت من مبادراتٍ شعبيَّةٍ شخصيَّة استثارت عاطفة الناس فقلّدوها، ثم تعاظمت العاطفة وتجذّرت العادة، حيث أصبحت من المقدَّسات التي قد لا يجرؤ حتى العلماء على مواجهة المدّ الشعبي في ذلك، حتى إنَّ الَّذين يقفون ضد هذه العادات يوصمون بأنهم ضد الحسين وأهل البيت(ع)، وأنَّهم يريدون إسقاط هذه الذكرى وإبعادها عن الوجدان الشعبي، وما إلى ذلك.. وقد ثارت الغوغاء ـ حتى عند بعض العلماء ـ ضد السيد محسن الأمين، عندما حرّم هذه العادات في كتابه "التنزيه في أعمال الشبيه"، وعانى الكثير حتى سُبَّ وشُتِم ونُظِمت القصائد في هجائه.

لكن قد يقول قائل إنَّ هناك من المجتهدين الكبار جداً من المحدثين، منذ خمسين أو ستين سنة أو أكثر، قد أفتوا بإباحة هذه الشعائر، وإنها ليست محرمة في ذاتها، إلا إذا أدّت إلى التهلكة. وهنا نسأل، لماذا هذه الفتاوى؟

إنَّ المسألة انطلقت من جدل فقهي، وهو: هل يحرم إضرار الإنسان بنفسه إذا لم يكن الضَّرر بالغاً، كأن يجرح الإنسان يده، أو يجرح رأسه، أو ما إلى ذلك، مما لا يشكّل خطراً على حياته؟ هل الضرر محرّم في ذاته، أو أن المحرّم هو الإضرار الذي يؤدي إلى التهلكة أو إلى وضعٍ صحيٍّ خطيرٍ؟

هناك رأيان اجتهاديان في هذه المسألة:

هناك من يقول بحرمة الإضرار بالنفس من ناحية مبدئيَّة، إلا في الحالات التي تكون هناك مصلحة أهم، كما في تعريض الإنسان نفسه للضرر في الأسفار، أو في سهر الليالي حتى يحصل على ربح مادي أو معنوي، فهناك ميزان بين المفسدة في الضرر وبين المصلحة، وهذا أمر إنساني، فإذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة، فإنها تجمّد المفسدة، وشرعياً يسمى هذا "بباب التزاحم"، أي أنَّه إذا تزاحم حكم تحريمي ما مع حكم وجوبي أو جائز، وكانت المصلحة هنا أقوى من المفسدة هناك، فإنها تجمّد حكم التحريم، وعلى هذا الأساس، فهؤلاء يقولون إنه يحرم على الإنسان أن يجرح نفسه، حتى في التعبير عن التأسّي أو المحبة وغير ذلك.

وهناك رأي اجتهادي آخر يتبنّاه الكثيرون من العلماء، وهو أنه لا يحرم على الإنسان أن يضرّ نفسه إذا لم يصل الضرر إلى حالة صحيَّة سلبيَّة كبيرة، أو إلى التّهلكة.. وفي ضوء ذلك، أفتى هؤلاء العلماء بأنَّ ضرب الرأس بالسيف حزناً أو مواساةً، ليس محرماً في ذاته، وإنما يحرم إذا كان الضَّرر مؤدياً إلى التهلكة.

وهناك تحفّظات لدى بعض العلماء الذين يقولون بالإباحة من حيث العنوان الأولي، أي من حيث المبدأ، لأنه قد يحرم من ناحية العنوان الثانوي، وهذا ما أجاب به المرجع الكبير الراحل السيد أبو القاسم الخوئي(ره) عندما سُئِلَ عن الضرب بالسيف والسلاسل، فقال إنه لا يجوز إذا استلزم الهتك والتوهين. وعندما سُئِل مرة ثانية: كيف تفسّر الهتك والتوهين؟ قال: ما يوجب الذلّ والهوان للمذهب في نظر العرف السائد.

أما نحن، فقد أفتينا بالحرمة، لأننا نرى أنه يحرم إضرار الإنسان بنفسه، إلا في الحالات التي تفرضها الضرورة، ولذلك، قلنا إنه يحرم ضرب الرؤوس بالسيف، أو ضرب الظهور بالسلاسل، وحتى اللطم العنيف الذي يوجب إضراراً بالإنسان، ولو كان إضراراً غير خطير، لأننا نستفيد من النصوص التي بين أيدينا حرمة الإضرار بالنفس، كما أننا نجد أنَّ السيرة العقلائية تقتضي ذلك، فالناس يستنكرون على أيّ إنسان يضرب نفسه إذا لم تكن هناك مسألة أهم وأولى بالرعاية من هذا الإضرار. ومن هنا، فإننا نرى أنَّ هذا الأمر محرم شرعاً، حتى لو كان بعنوان الحزن والمؤاساة.

ولديّ ملاحظة أخرى في هذا المجال، وهي أنَّ الذين يضربون رؤوسهم بالسيف أو ظهورهم بالسّياط، يقولون: إننا نريد أن نواسي الحسين(ع) في جراحاته، أو نواسي زينب(ع) وأخواتها عندما جلدن بالسّياط، فنجلد ظهورنا ونجرح رؤوسنا... ولكنَّني أقول: إنَّ المواساة تفرض أن تجرح في الموقع الَّذي جرح فيه، وأن تجلد في الموقع الذي جلد فيه أيضاً، فالحسين جُرح وهو يجاهد..

ولذلك، فالَّذين يواسون الحسين هم الَّذين يجاهدون ويواجهون العدو الإسرائيلي من شباب المقاومة، فهم يجرحون في الموقع الَّذي جُرح فيه الحسين، والذين يواسون السيدة زينب هم الذين يجلدون في سجون العدو، لأنها جلدت وهي في خطِّ الثّورة والقضيَّة، سواء كانوا من الرجال أو النساء...

 لهذا، فإنني أجد أنَّ هذه العادات لا بدَّ من إزالتها من ناحية شرعية، لأنها محرمة بالعنوان الأولي بناءً على رأينا، ومحرّمة بالعنوان الثانوي أيضاً، من خلال السلبيات الكثيرة على مستوى الإنسان، وعلى مستوى صورة الطائفة الإسلامية الشيعية في العالم، ولذلك قلنا: هي نوع من أنواع التخلّف...

[المصدر: حديث عاشوراء]

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية