جعل الله سبحانه وتعالى العهدَ في كلِّ موقعٍ يعاهد فيه إنسان إنساناً، سواء كان عهداً بين القيادة والنَّاس، أو كان عهداً بين الناس أنفسهم، أو بين القادة أنفسهم، فإنَّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنَّ الله أمَرَ بأن يفي النَّاس بعهودهم، وذلك في قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 34].
وقد أعطى أصحاب الحسين (ع) العهد من أنفسهم أمام الله، على أساس أنْ ينصروا الإمام الحسين، وأعطوا من أنفسهم الالتزام بأن يصلوا الذين أمَرَ الله بأن يوصلوا، وهم أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً.
لقد كان الحسين (ع) البقيّة الباقية من أهل البيت (ع)، لكنّ أولئك قطعوا ما أمَرَ الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، باعتبار أنَّ كلّ فئة تُسانِد ظالِماً وتُقاتِل معه وتنضم إليه، فإنَّ من الطبيعي أن تكون من المفسدين في الأرض، لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض، وهكذا، لأنَّ الحسين (ع) أراد أن يقول: أيُّها الناس، وازِنوا الموقف بين المعسكرين، بين المعسكر الَّذي انضمّ إلى الإمام الحسين (ع) والمعسكر الآخر.
إنَّ أصحاب الحسين (ع) هم من الذين تحدَّث الله عنهم: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}[الرَّعد: 19 ـــ 21]. وأراد الحسين (ع) أن يركِّز في هؤلاء أمام الناس هذه القيمة الإسلامية، وهي أنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وعندما جاءتهم المشاكل، وأراد منهم الآخرون أن يغيِّروا أو يبدِّلوا، رفضوا أن يبدِّلوا، وأصرّوا على أن يبقوا مع الحسين (ع)، حتّى في الموقف الذي وقَفَ فيه الحسين (ع) ليحلّهم من بيعته قائلاً: "أنتم في حلٍّ من بيعتي... وهذا اللَّيل قد غَشِيَكُم فاتّخذوه جَمَلا"1، ولكنّهم لم يغيِّروا ولم يبدّلوا، بل قالوا: لا نتخلَّى عنك يا بنَ رسول الله، حتّى لو قُتِلْنا وقُطِّعْنا وأُحْرِقْنا، لأنّنا ننطلق معك والالتزام بخطِّك، من خلال أنَّك وليّ الله وابن وليّه، ومن خلال أنّك إمام هذا الدّين وقائد المسلمين.
قالوا له: يا بن رسول الله، لقد التزمنا بالإسلام، قالوا له ذلك بموقفهم، وإنْ لم يقولوا له بكلامهم. قالوا له يا بن رسول الله، لقد التزمنا بالإسلام بكلِّ أحكامه ومفاهيمه، والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلاميَّة التي ركَّزها رسول الله، عندما قال: "حسين منّي وأنا من حسين"2، وعندما قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"3، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"4، فالتزمنا قيادتك، لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك، وعندما صرخت بهذا الصَّوت: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّةِ جدّي"5، لما صرخت بهذا الصَّوت، وحدَّدت موقفك وطبيعة ثورتك وحركتك، بأنّها تهدف إلى إصلاح ما أفسده الظالمون والمنحرفون من الواقع الإسلامي، سرنا معك، لأنَّ الله أراد منَّا أن نصلح.
يا حسين، لستَ وحدك المسؤول؛ إنَّنا مسؤولون في أن ننطلق معك، لنصلح ولنقوّيَ حركة الإصلاح، بما تقوّي به حركتك وموقف الإصلاح، بما تثبِّت به موقفك، لأنَّ كلّ مؤمن وكلّ مسلم مسؤول عن أن يطلب الإصلاح في أُمَّة رسول الله (ص)، لأنَّ رسول الله قال للأُمَّة كلِّها "كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيَّته"6.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".
[1]الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 220.
[2]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج43، ص 271.
[3]البحار، ج43، ص 263.
[4]البحار، ج 44، ص 2.
[5]البحار، ج 44، ص:329.
[6]البحار، ج 72، ص:38.