عاشت السيِّدة زينب (ع) روح القوَّة في الإسلام من الموقع الَّذي عاشه الحسين (ع)، لأنّها تربَّت في حضن رسول الله (ص) وفي أحضان فاطمة (ع)، وعاشت مع أخويها الحسن والحسين (ع)، ولهذا أصبحت الإنسانة المملوءة علماً وإسلاماً ووعياً وقوّة.
هذه الإنسانة الَّتي كانت تشدّ أزر الحسين (ع) وتواكبه في كلّ أوضاع المأساة في كربلاء، كانت مع الحسين (ع) عندما كان يعيش أفكار الموت وهو يردِّد: "يا دهر أُفٍّ لكَ من خليل"، وأرادت من خلال لهفتها وصرختها أن تشغِلَ الحسين عن ذلك، ليتحدَّث لها، ولينفتح الحديث في اتّجاهٍ آخر. وهكذا رأيناها عندما يسقط عليّ الأكبر، كانت أوّل إنسان تستقبل الحسين (ع) لتخفِّف عنه، وعندما كان يفقد القاسم أو العباس أو أيّ شهيد من الشّهداء، كانت زينب، كما تقول السِّيَر الحسينية، هي التي تقابل الحسين لتحتضِنَ كلّ آلامِه، وكلّ عناصر المأساة في ذاته، كانت ترافق مشاعر الحسين، كما كانت ترافق أفكاره، وكانت تشعر بمسؤوليَّتها في أن تظلّ الإنسانة الَّتي يشعر الحسين (ع) أنّها معه تشاركه فكره، وتشاركه ألمه، وتشاركه موقفه، وتشاركه كلّ تطلُّعاته. ولهذا، من الصعب أن تقرأ حادثة في عاشوراء إلَّا وزينب لها دور وحضور في تلك الحادثة، وعندما استُشهِدَ الحسين (ع)، يُنقل عنها أنّها قالت وهي ترفع جسدَ الحسين (ع) لله: "اللَّهمَّ تقبَّل منّا هذا القربان". إنّها لا تشعر بالمأساة الذاتيَّة، إنّها تشعر بأنَّ المجاهدين، سواء كانوا أنبياء أو أئمّة، هم القرابين التي تُقدَّم إلى الله من أجل رضاه، ومن أجل إعلاء كلمته وتثبيت رسالته.
وهكذا رأينا زينب (ع) وهي تسير في موكب الأسر، وهم يسيرون بالنّساء وبعليّ بن الحسين (ع) إلى الكوفة، في الطَّريق إلى الشَّام، زينب القويّة الحكيمة في مجلس ابن زياد. ينقل التَّاريخ بعض المواقف في هذا المجال، عندما أدخلت على مجلس ابن زياد، لبست أرذل ثيابها وتنكّرت، كانت لا تريد له أن يعرفها، ومضت حتّى جلست ناحية من القصر، قال ابن زياد: مَن هذه؟ فلم تجبه، فأعاد الكلام ثانية وثالثة، يسأل عنها فلم تجبه، فقالت له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة (ع) بنت رسول الله (ص)، فأقبل عليها ابن زياد، وخاطبها بما فيه من الشَّماتة والغلظة والجرأة على الله ورسوله، كما تقتضيه أخلاقه، قال لها: "الحمد لله الَّذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم"، فأجابته (ع)، وهي في هذا الموقف الضَّعيف تبقى الإنسانة المسلمة القويّة التي تحمل الرسالة ولا تخشى في الله لومةَ لائم، كما علَّمها الإسلام ذلك، قالت له: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمَّد (ص) وطهَّرَنا من الرّجْسِ تطهيراً". قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم"، لاحظوا ردَّها، قالت: "إنَّما يُفْتَضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرُنا، والحمد لله". كأنّها تقول له: أنتَ الفاسق والفاجر، وأنتَ الذي افتضحت بجريمتك، ولسنا الذين افتضحنا بجهادنا. قال: "كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيكِ وأهل بيتك؟"، قالت: "ما رأيتُ إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج، ثكلتك أُمُّك يا بن مرجانة"، أرادت أن تذكره بنسبه غير الشّرعيّ من خلال نسب أبيه، فغضب واستشاط حين أعْيَاه الجواب، لم يستطع أن يجيب، فكانت تقابله بكلّ جُرأة. هنا لجأ إلى السّبّ والشَّتم، قال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين (ع) والعتاة المردة من أهل بيته، فقالت له هذا الجواب، حين أراد أن يستثيرها عاطفياً: "لقد قتلتَ كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإنْ كان هذا شفاءك فقد اشتفيت"1، لأنّك لا تحمل معنى من معاني الإنسانيَّة.
ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) قال: مَن أنت؟ قال: أنا عليّ بن الحسين، قال: أليس قتل الله عليّ بن الحسين، قال له: قد كان لي أخٌ يسمَّى عليّاً قتله الناس، قال: بل الله قتله، قال: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر: 42]، ولكنَّ الناس قتلوه، والله توفَّاه، فغضب ابن زياد، وقال: أَلَكَ جرأة لجوابي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلَّقت به عمَّته زينب (ع)، وقالت: يا بن زياد، حسبُك من دمائنا. وعانقته، وقالت: والله لا أُفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه، لا يمكن أن أسمح لأحد بأن يقتل عليّ بن الحسين الَّذي هو وديعة الحسين عندي، إذا أردتَ أن تقتله فاقتلني معه، ثمّ قال الإمام لها: صبراً يا عمّتي حتّى أُكلِّمه بطريقةٍ ثانية، قال له: "أبالقتل تُهَدِّدني، أمَا عَلِمْتَ أنَّنا قوم لا نخاف الموت، القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشَّهادة؟!"2.
وبذلك، كان موقف زينب (ع) الموقف الذي يمثّل القوّة الروحيَّة التي استطاعت من خلالها أن تلقِمَ هذا الطاغية حجراً في مجلس ملكه، وأن تنقذ عليّ بن الحسين (ع).
وهكذا كانت نهاية المطاف، عندما دخلت إلى مجلس يزيد، وخطبت خطبتها. يزيد يجلس جلسة المنتصر ويتحدَّث بلهجة الطاغية، وتقف زينب، وهو يستعرض السبايا، ويتحدَّث بطريقة تفوح منها رائحة الشَّماتة، قالت له: "صَدَقَ الله سبحانه حين يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}[الروم: 10]، أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السَّماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء، أنَّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وأنَّ ذلك لعظم خَطرك عنده، فشمَخْتَ بأنفك، ونظرت في عطفك مسروراً، فمهلاً مهلاً، لا تعش جَهلاً، أَنَسِيتَ قول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[آل عمران: 178]. أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء، (يا بن الطلقاء هذه تذكرة بأنَّ النبيّ عفا عن أجداده عندما قالَ لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، في مكّة) تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوهَهنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناقب والمناقِل..."، إلى أن تقول له بعد ذلك: "اللَّهمَّ خذ بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فَرَيْتَ إلَّا جلْدَكَ، ولا حَزَزْتَ إلَّا لحمك، وَلَتَرِدَنَّ على رسول الله (ص) بما تحمَّلت من سفك دماء ذريّته، وانتهكت من حرمته في عِتْرَته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران: 169]، وحسبُك بالله حاكِماً وبمحمَّد (ص) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين أنَّك بئس للظالمين بدلاً". ثمّ تقول له بعد ذلك: "أنا زينب، ولئن جَرَتْ عليَّ الدَّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغرُ قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصّدور حَرَّى. ألاَ فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجبَاء بحزبِ الشَّيطان الطّلقاء".
ثمّ تقول له بعد ذلك، "فكد كيدك، واسْعَ سعيك، وناصِب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تميتُ وَحْيَنا، ولا تدرِك أَمَدَنا، وهل رأيك إلَّا فَنَدْ؟ وأيّامك إلَّا عَدَد، وجمعُكَ إلَّا بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: 18]"3.
هذه هي زينب، الإنسانة المسلمة القويّة التي لم تستطع كلّ الضغوط وكلّ الآلام وكلّ الفجائع وكلّ المآسي أن تُسْقِطَ موقفها، وأن تجعلها تنسحبُ من الساحة. وعندما نقدّم زينب (ع) إلى جانب الحسين (ع)، نستذكر أنّ أُمّها فاطمة كانت إلى جانب عليّ (ع)، وأنَّ جدَّتها خديجة كانت إلى جانب رسول الله (ص)، ونفهم من هذا، أنَّ الله يريدُ للمرأة المسلمة أن تقف وقفةَ الحقّ، وأن تواجه الظالمين، وأن تواجهَ الطغاة، وأن تملك القوَّة في المواقع الَّتي تفرض عليها أن تقول كلمة الحقّ، فالله لم يكلّف الرَّجل فقط في ما هي مسألة الجهاد في المواقف، بل كلَّف المرأة والرجل، قد لا يكون كلَّف المرأة بالجهاد المسلَّح، ولكنَّه كلَّفها بالجهاد السياسي الَّذي تقف فيه ضدّ الظالم. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...}[التوبة: 71]. ولهذا فإنَّ الله كلَّف هذا، وكلَّف تلك، ومسألة عاشوراء، هي مسألة الرجل المسلم والمرأة المسلمة، والخطّ الإسلامي الّذي يجب أن يتعاون فيه الرجل والمرأة من أجل بلوغ الغاية في نصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسول الله.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".
[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:45، ص:116.
[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:45، ص:118.
[3]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:45، ص:134.