كيف نستوحي ذكرى الحسين (ع) في واقعنا اليوم؟!

كيف نستوحي ذكرى الحسين (ع) في واقعنا اليوم؟!

كيف نستطيع استيحاء ذكرى الإمام الحسين (ع) في حركتنا الإسلاميّة الصاعدة؟

هل نبقى معها لنحرّكها على أساس الأمجاد التاريخيّة التي تزهو بها الأُمم والشعوب، لنؤكّد أنها ليست منفصلة عن الجذور العميقة في التّاريخ، إذ إنّ هناك أكثر من إشراقة مضيئة في ظلال الماضي السحيق، أم ننطلق بها، في مفرداتها الفكريّة والروحيّة والحركيّة، لنعيش إيحاءاتها المتنوّعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلّعاته المستقبليّة؟

إنَّ الجواب عن هذا السؤال ينطلق من القاعدة القرآنيّة الإسلاميّة التي تركّز على أساس أنّ الماضي هو مسؤوليّة الذين عاشوه وصنعوه، في الدوائر السلبيّة والإيجابيّة، وذلك في قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

فليس المجد التاريخيّ مجداً لنا بالمعنى الحركيّ للمجد، بل هو مجد الأبطال الذين صنعوه. فنحن لم نصنعه، فلا علاقة لنا به، حتى لو كنّا أبناء هؤلاء، فلن نحصل على أيّ ثواب عليه {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى}]النجم: 39-41].

سبب الارتباط بالأئمَّة (ع)

إنَّ قيمة التاريخ في الإسلام هي قيمة العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة، وترصد الثّوابت التي لا تخضع في خصوصيّاتها للفترة الزمنيّة، بل تشمل كلّ خطوط الزمن، لأنّها خصوصيّات الحياة كلّها.

وهذا ما يجعلنا نرتبط بالشخصيّات الإسلاميّة القياديّة في مستوى النبيّ (ص) والأئمّة (ع)، لأنّ حركتها ليست حركة اللّحظة التي عاشت فيها، بل هي حركة الرّسالة في التجسيد الحيّ الذي يتمثّل في خطواتها الفكريّة والروحيّة والعمليّة. فنحن نرى أنّ قول المعصوم وفعله وتقريره، يمثّل الخطّ الشّرعيّ الذي يؤكّد لنا شرعيّة الخطّ الذي ينطلق منه، ويتحرّك فيه، وبهذا كانت الرّسالة حركة في وعي الرّسول وفي سلوكه، كما كانت انفتاحاً على الآفاق العامّة والخاصّة في ذهنيّة الإمام وكلماته وخطواته.

شرعيَّة النَّهج الثَّوريّ

وفي ضوء ذلك، لم تكن حركة الإمام الحسين (ع (مجرد حركة سياسية ثورية، بالمعنى التقليدي للكلمة الذي يستغرق في الذات والحدث والمرحلة، ليعيش الجانب الإنساني الحركي التجريدي فيها، بل هي حركة إسلاميّة بالمعنى الثّوري للإسلام، بحيث تلتقي فيها الأبعاد التفصيليّة الرساليّة التي تحدّد لنا شرعيّة النهج الثّوري المتحرّك في نطاق التضحية حتى الاستشهاد، مع طبيعة الظروف الموضوعيّة المحيطة بالحدث الكبير في تلك المرحلة، وفي الظروف المماثلة لها في المراحل الأخرى، الأمر الذي يجعلها حالةً تطبيقيةً للخط الإسلامي النظري، في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين خطّي الاستقامة والانحراف، في الموقع القيادي الشرعي، أو في الموقع المتمرّد على الشرعية.

فلم يكن الإمام الحسين (ع) ثائراً يتمرّد على الذّلّ من موقع إحساسه الذاتي بالكرامة، أو التزامه العائلي بالعزّة، ولم يكن إنساناً متمرّداً على الواقع بالمعنى المزاجي الانفعالي الرافض للأوضاع الخاصّة التي لا تنسجم مع مزاجه، كبعض الثائرين الذين ينطلقون في ثورتهم وتمرّدهم من حالة انفعال عامّة لا تملك أيّ نهج في الخطوط التفصيلية للسلوك العملي في هذا الاتجاه، بل كان مسلماً في ثورته وتمرّده، متمسّكاً بخطّ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الذي يفرض على المسلم الثّورة على واقع الانحراف من أجل أن يغيّره نحو واقع الاستقامة.

وهذا ما يفرض علينا أن ندخل في عمليّة مقارنة بين ظروف المرحلة التي عاشها الحسين (ع)، وظروف المرحلة التي نعيشها، في طبيعتها وفي مفرداتها وفي خطوطها التفصيليّة، وفي تحدّياتها الفكريّة والعمليّة، لنتعرّف من خلال ذلك معنى الشرعيّة في حركتنا في الظّروف المماثلة.

وهذا ما نلاحظه في الكلمة الأولى التي بدأ بها الإمام الحسين (ع) حركته، في ما سطّره الرواة من سيرته، أنّه خاطب أصحابه قائلاً: "أيّها النّاس، إنّ رسول الله (ص) قال: "مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله. وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم، قد لزموا طاعة الشّيطان، وتولّوا عن طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وإنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله".

إنّها الثَّورة على السلطان الجائر المستحلّ لحرمات الله في عباده، فلا يرى لأحد حرمةً أمام طغيانه واستبداده، النَّاكث لعهده، فلا يعاهد أحداً إلا لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصلحته، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أخرى لتحقيق مصالح أخرى، بعيداً من أخلاقيّة الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده، المخالف لسنّة رسول الله ونهجه في خطّه وشريعته، لأنَّ الالتزام بها لا ينسجم مع خططه الذاتيّة، وأطماعه الماديّة، وشهواته الغريزيّة، الأمر الذي يجعل إسلامه شكليّاً كلاميّاً لا يقترب من الصّدق في الالتزام أو الاستقامة في خطّ السير، العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، فهو الرجل الآثم في تعامله مع النّاس، العدواني في تصرّفاته معهم، لأنّه لا يعيش مسؤوليّة الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤوليّة، فهو الوحش في صورة الإنسان.

هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثّورة لتغييره واستبدال إنسان آخر به، من خلال الكلمة الثّائرة، والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير أن يبتعدوا عن ساحة الصّراع ضدّه، والثّورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل.

الثَّورة بداية التّغيير

وهكذا كان الحسين (ع) يتحدّث عن الخطّ العريض للجانب الفكريّ من خطّ الثّورة. أمّا الجانب التطبيقيّ في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء النّاس في صورة الحاكم وأتباعه، هم الّذين تركوا طاعة الرّحمن، ولزموا طاعة الشّيطان، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم، واقتربوا من الشّيطان في ذهنيّاتهم وخطواتهم، وبدَّلوا الشّريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم.

ثمّ كان من أمرهم، أنّهم استأثروا بثروة الأُمَّة، فحوّلوها إلى ثروة شخصيّة، وعطّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا النّاس والحياة والدِّين كلّه، فكان لابدَّ للحسين (ع) أن يغيِّر بقوله وبفعله.

وكانت الثّورة الاستشهاديّة هي بداية التغيير، من أجل أن تطلق الصّرخة المدوّية، المضرّجة بالدماء، المنفتحة على كلِّ قيم الحقّ والعدل والعزّة والكرامة والإنسانيّة والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.

تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلاميّ، لأنها حركة داخليّة في ما يعانيه الوضع الإسلاميّ العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم.

فماذا عن مرحلتنا في ظروفنا المعاصرة؟

استلهام الثّورة الحسينيّة

إننا نواجه التحدّي الكبير في الاستكبار العالمي، الذي يطبق على الواقع الإسلامي كلّه في ثقافته وسياسته واقتصاده وحربه وسلمه. من خلال إطباقه على الواقع الإنساني كلّه. كما نواجه التحدّي الآخر في الانحراف الدّاخلي في الحكم، الذي لا يأخذ الإسلام عنواناً له، ولا ينطلق من العدل في حركته تجاه المحكومين، الأمر الذي يجعل الواقع أكثر خطورة، في طبيعته وفي نتائجه السلبيّة، على كلِّ مسيرتنا، من الواقع الذي عاشه الإمام الحسين (ع) في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنّه كان ينحرف عنه في خطّ السّير ونهج الحركة.

فهل نستطيع أن نبتعد عن خطّ الثّورة في ذهنيّة المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكّر لحركة التّغيير في وعي الواقع العملي لروحية التّغيير؟

لا بدَّ أن يكون كلّ واحد منها مشروعاً ثائراً في الخطّ والحركة والمعاناة.

أمّا حركيّة الثّورة في الفعل، وشرعيّة التّغيير في النّهج، فقد نحتاج فيها إلى رصد ظروف الواقع العمليّ من حيث القدرة والإمكانات والنّتائج، لنخطّط من موقع الدراسة الدّقيقة الحيّة، لنعرف كيف نواجه التحدّي في الفعل وردّ الفعل، وكيف تنتصر القضيّة فينا، لنهيِّئ الظروف لتقريب موعد النّصر، أو لتحريك خطواته في اتجاه المستقبل.

ليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أسلوبنا، لأنّ من الممكن أن يكون لهذا الأسلوب ظرفه الخاصّ الذي فرضته حركة الأحداث في تلك المرحلة، مما قد لا تتوفّر فيه خصائص الظّروف التي تعيشها مرحلتنا الحاضرة.

ولكن لا بدَّ أن تكون الروحيّة الحسينيّة هي التي تمثّل معنى روحيّتنا، فقد واجه الإمام الحسين (ع) الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التّراجع مهما كانت الاحتمالات. وهذا ما عبّر عنه بقوله: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ".

فإنّ من المعروف أنّ الصّبر هنا ليس صبر المنهزمين، بل هو صبر الواثبين المتطلّعين الذين يرصدون المستقبل في الأفق الواسع، ليجدوا فيه إشراقة النّور الذي يشقّ الظلمات.

إنّ المسألة هي أن يبقى الهدف حيّاً في أفكارنا، وفي تطلّعاتنا، وفي خططنا الثّوريّة، وفي خطواتنا العمليّة، لنجعل الحياة كلّها، في ما نملكه من الطّاقات، حركة نحو الهدف الكبير؛ لتكون الوسائل العمليّة المتنوّعة خاضعةً للظروف الموضوعيّة التي تحكم واقع الحياة والإنسان في نطاق المراحل القريبة والبعيدة.

*من كتاب "من وحي عاشوراء".

كيف نستطيع استيحاء ذكرى الإمام الحسين (ع) في حركتنا الإسلاميّة الصاعدة؟

هل نبقى معها لنحرّكها على أساس الأمجاد التاريخيّة التي تزهو بها الأُمم والشعوب، لنؤكّد أنها ليست منفصلة عن الجذور العميقة في التّاريخ، إذ إنّ هناك أكثر من إشراقة مضيئة في ظلال الماضي السحيق، أم ننطلق بها، في مفرداتها الفكريّة والروحيّة والحركيّة، لنعيش إيحاءاتها المتنوّعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلّعاته المستقبليّة؟

إنَّ الجواب عن هذا السؤال ينطلق من القاعدة القرآنيّة الإسلاميّة التي تركّز على أساس أنّ الماضي هو مسؤوليّة الذين عاشوه وصنعوه، في الدوائر السلبيّة والإيجابيّة، وذلك في قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

فليس المجد التاريخيّ مجداً لنا بالمعنى الحركيّ للمجد، بل هو مجد الأبطال الذين صنعوه. فنحن لم نصنعه، فلا علاقة لنا به، حتى لو كنّا أبناء هؤلاء، فلن نحصل على أيّ ثواب عليه {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى}]النجم: 39-41].

سبب الارتباط بالأئمَّة (ع)

إنَّ قيمة التاريخ في الإسلام هي قيمة العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة، وترصد الثّوابت التي لا تخضع في خصوصيّاتها للفترة الزمنيّة، بل تشمل كلّ خطوط الزمن، لأنّها خصوصيّات الحياة كلّها.

وهذا ما يجعلنا نرتبط بالشخصيّات الإسلاميّة القياديّة في مستوى النبيّ (ص) والأئمّة (ع)، لأنّ حركتها ليست حركة اللّحظة التي عاشت فيها، بل هي حركة الرّسالة في التجسيد الحيّ الذي يتمثّل في خطواتها الفكريّة والروحيّة والعمليّة. فنحن نرى أنّ قول المعصوم وفعله وتقريره، يمثّل الخطّ الشّرعيّ الذي يؤكّد لنا شرعيّة الخطّ الذي ينطلق منه، ويتحرّك فيه، وبهذا كانت الرّسالة حركة في وعي الرّسول وفي سلوكه، كما كانت انفتاحاً على الآفاق العامّة والخاصّة في ذهنيّة الإمام وكلماته وخطواته.

شرعيَّة النَّهج الثَّوريّ

وفي ضوء ذلك، لم تكن حركة الإمام الحسين (ع (مجرد حركة سياسية ثورية، بالمعنى التقليدي للكلمة الذي يستغرق في الذات والحدث والمرحلة، ليعيش الجانب الإنساني الحركي التجريدي فيها، بل هي حركة إسلاميّة بالمعنى الثّوري للإسلام، بحيث تلتقي فيها الأبعاد التفصيليّة الرساليّة التي تحدّد لنا شرعيّة النهج الثّوري المتحرّك في نطاق التضحية حتى الاستشهاد، مع طبيعة الظروف الموضوعيّة المحيطة بالحدث الكبير في تلك المرحلة، وفي الظروف المماثلة لها في المراحل الأخرى، الأمر الذي يجعلها حالةً تطبيقيةً للخط الإسلامي النظري، في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين خطّي الاستقامة والانحراف، في الموقع القيادي الشرعي، أو في الموقع المتمرّد على الشرعية.

فلم يكن الإمام الحسين (ع) ثائراً يتمرّد على الذّلّ من موقع إحساسه الذاتي بالكرامة، أو التزامه العائلي بالعزّة، ولم يكن إنساناً متمرّداً على الواقع بالمعنى المزاجي الانفعالي الرافض للأوضاع الخاصّة التي لا تنسجم مع مزاجه، كبعض الثائرين الذين ينطلقون في ثورتهم وتمرّدهم من حالة انفعال عامّة لا تملك أيّ نهج في الخطوط التفصيلية للسلوك العملي في هذا الاتجاه، بل كان مسلماً في ثورته وتمرّده، متمسّكاً بخطّ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الذي يفرض على المسلم الثّورة على واقع الانحراف من أجل أن يغيّره نحو واقع الاستقامة.

وهذا ما يفرض علينا أن ندخل في عمليّة مقارنة بين ظروف المرحلة التي عاشها الحسين (ع)، وظروف المرحلة التي نعيشها، في طبيعتها وفي مفرداتها وفي خطوطها التفصيليّة، وفي تحدّياتها الفكريّة والعمليّة، لنتعرّف من خلال ذلك معنى الشرعيّة في حركتنا في الظّروف المماثلة.

وهذا ما نلاحظه في الكلمة الأولى التي بدأ بها الإمام الحسين (ع) حركته، في ما سطّره الرواة من سيرته، أنّه خاطب أصحابه قائلاً: "أيّها النّاس، إنّ رسول الله (ص) قال: "مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله. وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم، قد لزموا طاعة الشّيطان، وتولّوا عن طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وإنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله".

إنّها الثَّورة على السلطان الجائر المستحلّ لحرمات الله في عباده، فلا يرى لأحد حرمةً أمام طغيانه واستبداده، النَّاكث لعهده، فلا يعاهد أحداً إلا لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصلحته، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أخرى لتحقيق مصالح أخرى، بعيداً من أخلاقيّة الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده، المخالف لسنّة رسول الله ونهجه في خطّه وشريعته، لأنَّ الالتزام بها لا ينسجم مع خططه الذاتيّة، وأطماعه الماديّة، وشهواته الغريزيّة، الأمر الذي يجعل إسلامه شكليّاً كلاميّاً لا يقترب من الصّدق في الالتزام أو الاستقامة في خطّ السير، العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، فهو الرجل الآثم في تعامله مع النّاس، العدواني في تصرّفاته معهم، لأنّه لا يعيش مسؤوليّة الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤوليّة، فهو الوحش في صورة الإنسان.

هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثّورة لتغييره واستبدال إنسان آخر به، من خلال الكلمة الثّائرة، والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير أن يبتعدوا عن ساحة الصّراع ضدّه، والثّورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل.

الثَّورة بداية التّغيير

وهكذا كان الحسين (ع) يتحدّث عن الخطّ العريض للجانب الفكريّ من خطّ الثّورة. أمّا الجانب التطبيقيّ في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء النّاس في صورة الحاكم وأتباعه، هم الّذين تركوا طاعة الرّحمن، ولزموا طاعة الشّيطان، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم، واقتربوا من الشّيطان في ذهنيّاتهم وخطواتهم، وبدَّلوا الشّريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم.

ثمّ كان من أمرهم، أنّهم استأثروا بثروة الأُمَّة، فحوّلوها إلى ثروة شخصيّة، وعطّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا النّاس والحياة والدِّين كلّه، فكان لابدَّ للحسين (ع) أن يغيِّر بقوله وبفعله.

وكانت الثّورة الاستشهاديّة هي بداية التغيير، من أجل أن تطلق الصّرخة المدوّية، المضرّجة بالدماء، المنفتحة على كلِّ قيم الحقّ والعدل والعزّة والكرامة والإنسانيّة والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.

تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلاميّ، لأنها حركة داخليّة في ما يعانيه الوضع الإسلاميّ العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم.

فماذا عن مرحلتنا في ظروفنا المعاصرة؟

استلهام الثّورة الحسينيّة

إننا نواجه التحدّي الكبير في الاستكبار العالمي، الذي يطبق على الواقع الإسلامي كلّه في ثقافته وسياسته واقتصاده وحربه وسلمه. من خلال إطباقه على الواقع الإنساني كلّه. كما نواجه التحدّي الآخر في الانحراف الدّاخلي في الحكم، الذي لا يأخذ الإسلام عنواناً له، ولا ينطلق من العدل في حركته تجاه المحكومين، الأمر الذي يجعل الواقع أكثر خطورة، في طبيعته وفي نتائجه السلبيّة، على كلِّ مسيرتنا، من الواقع الذي عاشه الإمام الحسين (ع) في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنّه كان ينحرف عنه في خطّ السّير ونهج الحركة.

فهل نستطيع أن نبتعد عن خطّ الثّورة في ذهنيّة المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكّر لحركة التّغيير في وعي الواقع العملي لروحية التّغيير؟

لا بدَّ أن يكون كلّ واحد منها مشروعاً ثائراً في الخطّ والحركة والمعاناة.

أمّا حركيّة الثّورة في الفعل، وشرعيّة التّغيير في النّهج، فقد نحتاج فيها إلى رصد ظروف الواقع العمليّ من حيث القدرة والإمكانات والنّتائج، لنخطّط من موقع الدراسة الدّقيقة الحيّة، لنعرف كيف نواجه التحدّي في الفعل وردّ الفعل، وكيف تنتصر القضيّة فينا، لنهيِّئ الظروف لتقريب موعد النّصر، أو لتحريك خطواته في اتجاه المستقبل.

ليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أسلوبنا، لأنّ من الممكن أن يكون لهذا الأسلوب ظرفه الخاصّ الذي فرضته حركة الأحداث في تلك المرحلة، مما قد لا تتوفّر فيه خصائص الظّروف التي تعيشها مرحلتنا الحاضرة.

ولكن لا بدَّ أن تكون الروحيّة الحسينيّة هي التي تمثّل معنى روحيّتنا، فقد واجه الإمام الحسين (ع) الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التّراجع مهما كانت الاحتمالات. وهذا ما عبّر عنه بقوله: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ".

فإنّ من المعروف أنّ الصّبر هنا ليس صبر المنهزمين، بل هو صبر الواثبين المتطلّعين الذين يرصدون المستقبل في الأفق الواسع، ليجدوا فيه إشراقة النّور الذي يشقّ الظلمات.

إنّ المسألة هي أن يبقى الهدف حيّاً في أفكارنا، وفي تطلّعاتنا، وفي خططنا الثّوريّة، وفي خطواتنا العمليّة، لنجعل الحياة كلّها، في ما نملكه من الطّاقات، حركة نحو الهدف الكبير؛ لتكون الوسائل العمليّة المتنوّعة خاضعةً للظروف الموضوعيّة التي تحكم واقع الحياة والإنسان في نطاق المراحل القريبة والبعيدة.

*من كتاب "من وحي عاشوراء".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية