إنَّنا نستطيع أن نفكّر فيما حشده التّشريع الإسلاميّ في الحجّ من عدة جوانب، تتفرَّع في شكلها وفي طبيعتها وفي إيحاءاتها، فإذا وقفنا في أجواء الإحرام، فإنَّنا نشعر بأنَّ هناك نوعاً من أنواع التَّدريب ليتحرَّر الإنسان من كلّ ما يعيق حركته من الارتباط بالأشياء الَّتي يمارسها في عاداته، أو في أجواء الترف التي يحبّها، أو في أجواء الحياة الاجتماعية التي يعيش في داخلها.
الإجابة لله وحده
ثم بعد ذلك، نجد أنَّ كلمات التلبية ـ فيما توحي به في معانٍ واسعةٍ ـ تعني التزاماً أمام الله سبحانه، بطريقةٍ مؤكّدةٍ مضافةٍ بالاستجابة لكل نداءات الله، ليس ـ فقط ـ ما يقوله بعض المفسرين والمحلّلين، إنَّ كلمة «لبيك» يراد بها الاستجابة لنداء إبراهيم(ع) فيما أمره الله به، من أن يؤذن للناس بالحج ليدعوهم إلى الإقبال إليه، في ما تحدث به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:26، 27]. فنحن نرى أنَّ المسألة أكثر شمولاً في ذلك؛ لتكون استجابةً لكل نداءات الله في كتابه وفي رسالته في ما وجهه للناس، بعنوان "يا أيها الناس"، وفيما وجهه للمؤمنين من خلال الإيمان بعنوان "يا أيها الذين آمنوا".
إنَّ كلمة «لبيك» تعني أنَّنا ـ يا رب ـ نلتزم في موقفنا هذا بكل نداءاتك بالإسلام كله، في عباداته، وفي أخلاقه، وفي جهاده، وفي سياسته واقتصاده، وفي مواجهة كلّ التّحديات التي يواجهها الإنسان من الشَّيطان الداخلي في عمق نفسه، أو من الشَّيطان الخارجي في عمق واقعه وفيما يحيط بحياته.
إنها الحركة الصارخة في النداء الذي تنطلق به كل حناجر الحجاج؛ لتؤكد موقفهم الذي يريد أن يلتزم الإسلام من جديد، في مسيرتهم إلى مركز الدعوة الإسلامية الأُولى في مكّة، لتكون مسيرة الحجاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول ـ من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة ـ: يا رب، إذا كان الناس قد تركوا الإسلام، فلم يؤمنوا به، ولم يرتبطوا به، وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطه، وتركوا الكثير من تعاليمه، وانتموا إلى الاتجاهات الأُخرى التي تختلف عن خطه المستقيم. إذا كان الواقع هو ذلك، فها نحن قادمون إلى بيتك المحرم، لنقول لك من كل قلوبنا، ومن كل عقولنا، ومن كل مواقعنا ومواقفنا وتطلعاتنا.. «لبيك اللهم لبيك»، فقد جعلت الإسلام لنا ـ بكل عمقه وامتداده ـ رسالة الحياة، ونحن نريد أن ننطلق إلى الحياة من خلاله.
ومن هنا، قد نفهم أنَّ التشريع لم يقتصر على كلمة «لبيك»، ولكنه أضاف كلمة «وحدك لا شريك لك»؛ ليؤكد الإنسان فيها أن التلبية التي تتوجه إلى الله سبحانه، لا يمكن أن تتوجه لأيّ إنسانٍ آخر. فنحن في الحياة عندما نريد أن نستجيب لنداءٍ من أيّ منادٍ، أو لكل مبدأ أو قانونٍ من أيّ مشرّعٍ أو مفكّر، أو لأية علاقة بالناس، فلا بد من أن يكون ذلك منطلقاً من استجابتنا لله، وعلاقتنا به؛ لتكون علاقاتنا بالحياة كلها منطلقةً من ذلك، فلا شيء ولا أحد مع الله، فهو وحده الَّذي نتوجَّه إليه بكل ما في قلوبنا من محبة وإخلاص وعبودية، ولا نتوجه إلى أي شخص معه، بل إن علاقتنا بالناس منطلقة من علاقتنا بالله، من خلال باب الله الذي يدخل منه الجميع، حتى إنَّ علاقتنا برسول الله، وبكلّ رسل الله، لا ترتبط بهم كأشخاص، بل بصفة أنهم رسل الله والمبلغون عنه، وهكذا هي علاقتنا بالأئمة والأولياء، من خلال أنهم عباد الله الذي أطاعوه بما يجب وعبدوه كما يريد.
«ليبك لا شريك لك» لن نجيب غيرك، ولن نستمع إلى أيّ نداءٍ، سواء انطلق من حاكم، أو من حكومة، أو من حزب، أو من محور إقليمي أو دولي، فأنت وحدك المحور الذي نتحرك في ساحته؛ لأن ذلك هو الذي يجعلنا ننسجم مع عقيدتنا إذا أجبناك.
«لبيك لا شريك لك»، وتعود الكلمة من جديد؛ لتتضاعف، ولتعمق المشاعر في نفس الإنسان، لتطلّ على كل ما في الحياه من ملوكٍ وجبابرةٍ وطغاة، وما تحتويه من نعم وثروات، فلا نجد المداحين الذين يمدحون هذا ويحمدون ذاك؛ ليؤكد الإنسان في موقف الحج أن الملك لله وحده، وأن الحمد له وحده، وأن النعمة له وحده، فكل حمدٍ مستمدٌ من حمده، وكل نعمةٍ مستمدّةٌ من نعمته، وكل ملك فهو ظلّ لملكه، فليس هناك محمودون ممدوحون، وليس هناك منعمون في ذاتهم، فهو وحده صاحب الحمد والملك والنعمة. وبذلك، يحس الإنسان هناك ـ أمام الله وحده ـ أنه بعيد عن كل أحد غير الله. ومن خلال ذلك، يتأكَّد معنى العبودية المطلقة لله، بأن تكون عبداً بكلّك، وبفكرك، وشعورك، وضميرك، وحركتك، وكل خطواتك العملية في الحياة وفي جميع مشاريعك على كل صعيدٍ، وأن تكون الإنسان الَّذي يعيش العبودية لله؛ لتنطلق حريتك أمام العالم، وأمام الأشياء من خلال ذلك، وبهذا تلتقي الحرية والعبودية في عمق الإنسان، فتتعمَّق حريتك بمقدار ما تتعمق عبوديتك لله، فأنت من موقع عبوديتك لله تأخذ حريتك. أما الآخرون، فإنهم يمارسون عبوديَّتهم للناس وللشَّهوات وللمطامع من موقع حريتهم المطلقة أمام الله.
التمرّد على الصنميَّة
ثم ننطلق في بعض إيحاءات الحج لنصل إلى البيت الحرام، فنتساءل: ماذا يعني البيت؟ وماذا يعني الطواف حوله؟ هل نقدس الأحجار التي يتألف منها؟
إنها ليست حتميّة جديدة تتخذ الأحجار الثابتة بدلاً من الأحجار المتحركة، بل هي التمرد على الصنمية، والرمز الذي يُراد من خلاله تربية الإنسان على طريقة جديدة في مواجهة حركة الإسلام في صعيد الواقع، فكيف نفهم ذلك؟
إننا ـ كمسلمين ـ قد نصنع لله بيتاً في مدننا وقُرانا، فهذا مسجد للقبيلة، وذاك مسجد للمحلة، وآخر مسجد البلد، وتتنوَّع الصفات المحدودة لتدخل فيها دوائرنا العائلية والقبلية، فهذا مسجد آل فلان، وذاك مسجد تلك القبيلة، وتدخل فيها دوائرنا القومية، فهذا مسجد العرب، وذاك مسجد العجم. وهكذا نحاول في مساجدنا أن نحافظ على كل الحدود التي تفصلنا عن بعضنا البعض، وتبعدنا عن ساحتنا الإنسانية الواسعة؛ لنؤكد فيها عصبياتنا العائلية والإقليمية والقومية، أو لنبقى في الدائرة الضيّقة المحدودة التي تحجب عنا رؤية الدائرة الواسعة للحياة وللإنسان، فكانت الكعبة ـ البيت الحرام ـ التي جعلها الله قياماً للناس كل الناس، بعيداً عن كل صفاتهم اللونية والعرفية والجغرافية؛ لتكون بيتاً لله في حجم العالم؛ البيت الإلهيّ العالمي الذي يشعر كل مسلم بأنه بيته ورمزه ومنطلقه، ولهذا أراد الله لهم أن يتوجَّهوا إليه أينما كانوا {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة: 144]، وأن لا يتوجّهوا إلى غيره؛ ليكون قاعدة وحدتهم، ومنطلق عالميَّتهم، وموقع إنسانيَّتهم.
تنوع إنساني داخل الوحدة
ثم قد نفهم جانباً آخر من الصورة، في الطواف حول البيت كعبادة، فنحن نعبد الله، بحسب الحالة الطبيعية، أفراداً في بيوتنا ومواقعنا الفردية، ثم نمارس العبادة ـ بعد ذلك ـ جماعة في صلاة جماعة محدودةٍ، قد تتسع في أفرادها وقد تضيق، تبعاً للموقع وللإمام وللمناسبة، وتبقى العبادة في حدودها الفردية والاجتماعية الضيّقة، فلا نعيش فيها الانفتاح في عبادتنا لله على مستوى حجم الأمة كلها، تبعاً للتنوع الواسع في النطاق العالمي الإنساني.
وهنا تأتي عبادة الطواف، لتكون العبادة حول البيت الإلهي العالمي في حجم الأمة كلّها، عندما يشترك المسلمون ـ من سائر أقطار العالم ـ ليعبدوا الله كأمةٍ، يتمثّل فيها العربي والفارسي والهندي والأميركي والأفريقي والأوروبي، وما إلى ذلك؛ لينطلق الجميع في عبادةٍ إسلامية عامّةٍ كأمةٍ؛ ليعيشوا الأفق الواسع في العبادة، وليتفاعلوا بهذه الشخصية الجديدة التي تؤكد في داخلهم معنى الامتداد الإنساني الشعوري في روحيه العبادة بين يدي الله، فيتخلصون بذلك مما اعتادوه في حياتهم؛ لأنَّ الناس إذا مارسوا فكرهم وعبادتهم ومسؤولياتهم في النطاق الضيّق، فإنَّ ذلك يتحول إلى حالةٍ نفسيةٍ ضيّقة مخنوقة في الدائرة المحدودة، فينسون صفتهم كجزء من الأُمة الواسعة، بينما توحي العبادة في داخل التنوع الإنساني للأُمة المسلمة بالبعد العالمي للشخصية وهي بين يدي الله رب العالمين؛ ليتمثل من خلال ذلك الهدف التربوي للحج، وهو صنع الإنسان المسلم العالمي، الذي يتحرر من ذاتيته وعائليته وإقليميته وقوميته عندما يطوف بالبيت العالمي لله.
وتلك هي القضية التي قد نحتاج إلى أن نتمثّلها ونعيشها في واقعنا الاجتماعي والسياسي، لندخل في نشاطاتنا في دور جيد وساحةٍ جديدةٍ؛ لأنَّ من مشاكلنا الإسلاميَّة أنَّ المسلمين قد يغلب عليهم الاهتمام بقضاياهم الخاصة، التي قد تتطور من الحالة الذاتية إلى حالة البلد الذي ينتمي إليه الإنسان المسلم، فيرى أنَّ قضايا بلده الإسلامي هي المحور الَّذي يجب أن يدور حوله كلّ النشاط الإسلامي، ما يجعله يصرف كلّ طاقاته في هذا الموقع، ويحاول أن يستفيد من كل قضايا العالم من أجل قضيته، من دون أن يفكر في أنَّ عليه أن يستفيد من بلده لخدمة قضايا العالم الإسلامي الأُخرى، الأمر الذي قد يتحول إلى شعور داخلي بالانفصال عن قضايا العالم.
وهكذا نلاحظ أنَّ الواقع السّياسي الذي يعيشه المسلمون في بلدانهم؛ تتوزع قضاياه وتتنوع ما بين قضية إقليمية إسلامية في هذا البلد، وقضية قومية في ذاك المحيط الجغرافي، وأن المسلمين يتحركون في حجم هذه القضايا تبعاً لمواقعهم المحلية، ولا يحاولون الاهتمام بقضايا الآخرين إلا من خلال علاقتها بهذه القضية، كما لو كانت قضيةً أجنيبةً يلامسونها كما يلامسون أية قضية بعيدة عن ساحتهم، وقد يسجلون على الآخرين نقطة سوداء إذا انشغلوا عن هذه القضية بقضيتهم، حتى لو كانت قضيةً إسلامية.
وقد يقول البعض: إنني أهتم بهذه القضية الخاصة لأنها قضية إسلامية، ولأن طبيعة الموقع الذي أمثّله في هذه الساحة يفرض عليّ الحركة في هذه الدائرة؛ لأني أعرف منها ما لا يعرفه الآخرون، ولأني أملك من مواقعها ما لا يملكه الآخرون، في نوعية الحركة، وفي طبيعة النتائج؛ ولأن قيمتها قد تفوق قيمة كثيرٍ من القضايا الإسلامية الأُخرى، بالنظر إلى أهميتها السياسية وقيمتها الاستراتجيّة فيما هو الواقع الإسلامي في حركة الصراع.
قد يكون هذا الكلام معقولاً ومقبولاً، ولكنّ هناك نقطةً مهمة، وهي أن العقلية الإسلامية الشاملة تفرض على الإنسان المسلم الذي يتحرك في قضية بلده أو منطقته ـ كقضيةٍ إسلامية ـ أن يدرس موقعها من المسألة الإسلامية في العالم، من حيث طبيعتها السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، ليعرف كيف تكون حجم حركته والموقف الذي يجب اتخاذه من هذا الوضع أو ذاك، أو هذا البلد أو ذاك، فهناك فرق بين أن يفكر في أن ينتصر لقضية بلده حتى لو انهزمت كل قضايا الإسلام في العالم، وبين أن يفكر ببلده كجزءٍ من قضايا الإسلام الكبرى.
إننا نقول: لا تتحمَّسوا لقضاياكم الخاصّة لتقولوا إنَّ المسلمين في هذا البلد يهتمون بقضاياهم، لأنَّهم لا يجدون أحداً من المسلمين الآخرين قادراً على حمايتها، فهناك نقطة مهمة لا بدَّ من ملاحظتها بدقة، وهي أنَّنا يجب أن نهتمّ بقضايانا على أساس أنَّها جزء من كلٍّ، لا على أساس أنها قضية منفصلة عن الجسم الإسلامي.
صياغة جديدة لشخصية المسلم
إننا ندعو ـ من خلال الحج ـ إلى أن نصوغ من جديد شخصية الإنسان المسلم العالمي، الذي يفكر في الإسلام بحجم العالم من خلال قدراته وإمكاناته، وليطور نفسه بحيث يستطيع أن يكون مفيداً للمسلمين في كل منطقة من مناطق الأرض، فلا تتجمد طموحاتنا في الزوايا الضيقة والمواقع المحدودة، ولا تتساقط مواقفنا عند الحواجز الذاتية الخاصة.
إننا إذا استطعنا الوصول إلى هذا الهدف الكبير في صنع الشخصيَّة الإسلاميَّة العالميَّة؛ فإننا نستطيع أن نعتبر أنفسنا في الموقع الصحيح للبداية الحاسمة التي نتحول فيها إلى أُمة، بدلاً من أن نبقى أفراداً متناثرين، أو جماعات متفرقة، وهذا هو ما نستوحيه من معنى الطواف حول البيت.
السعي تمثّل لمعنى الطاعة
ثم ننتقل إلى السعي بين الصفا والمروة، الَّذي يمثل حركة الإنسان من بداية معينة إلى نهاية معينة، في أشواط، من أجل أن نتعبَّد لله في ذلك، لأنه أمرنا به، فكان السعي حركةً في معنى الطاعة وسر العبادة، لتكون انطلاقةً إيجابية تربويةً في بداياتٍ ونهايات أُخرى في حركة الإنسان في طلب العلم، أو في تحصيل القوة، أو في مواجهة التحديات التي يفرضها المستكبرون، أو في إطلاق المواقف المتحدية ضدهم، أو في قضاء حوائج الناس؛ لأنَّ الله طلب منّا السعي من أجل هذه الأمور، كما طلبه منّا في هذا المكان.
إنَّ الله يريد منا أن نجعل الحياة حركةً من أجل الله في خطّ المسؤولية؛ لنحوّلها إلى ساحةٍ تبتعد عن كلّ الفئات الطّاغية والكافرة والمستكبرة؛ ليكون سعينا بدايةً ونقطة انطلاق إلى كلّ الساحات في العالم، فيما أرادنا الله أن نتحرك فيه من ساحات.
تأمل وتفكير ومراجعة للذات
ثم نعيش ـ في الحج ـ الوقفات، في عرفة، وفي المزدلفة، وفي منى التي نعيش لياليها في لحظات تأمّلٍ وتفكير، حيث يشعر الإنسان عندما يندمج في أجواء الحركة في الحياة، في أي موقعٍ من مواقعها، وفي أي اتجاه من اتجاهاتها في العلم والسياسة، والحرب والسلم، بأنه لا بد له من الوقوف ليفكر، وليتأمل، وليحسب حساب الأرباح والخسائر؛ ليكتشف ما يمكن أن يكون قد وقع فيه من انحرافٍ في خط السير، لئلا تؤدي به الغفلة في اندفاع الحركة إلى الشعور بالغرور، الذي يوحي له بضخامة معينةٍ في شخصيته التي لا وجود لها في الواقع، فيخيّل إليه بأنه لا يمكن أن يخطئ لأن الحق معه فيما يملكه من وضوح الرؤية للأشياء ومستوى المعرفة في عقله وتجربته.
إنّ هذه الوقفات توحي ـ من موقع الرمز ـ بأنَّ على الإنسان أن يخفّف من سرعة اندفاعاته؛ ليقف ويفكّر فيما قاله أو فعله، ليكتشف احتمالات الخطأ والصواب فيه؛ لينقد نفسه نقداً موضوعياً في كل ذلك، ويفهمها جيّداً.
إنَّ الموقف في عرفات والمزدلفة ومنى ـ أمام الله ـ هو موقفٌ نقديّ تأمليّ ليذكر الإنسان نفسه وربّه، ويفكر في موقعه من الله، وفي ما يجب أن يتحرك فيه نحو المستقبل من أعمالٍ ومشاريع ونتائج، ولا سيّما في منى، التي توحي إليه لياليها بأنه في الموقع الأخير من الحج، فكيف كان قبلها؟ وما الذي هو عليه الآن؟ وماذا يريد أن يفعل غداً؟ وما هي قصة طموحاته الجديدة؟ هل هي قصة الدنيا، أو هي قصة الآخرة والدنيا في عملية الاندماج بينهما، في ما هي الفكرة، وفي ما هي الروح، وفي ما هو الهدف الكبير في ابتغاء رضوان الله، كما يريد الله لنا أن نعيش المسألة هناك في الابتهال إليه، حيث يقول تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا}[البقرة:200 ـ 202]؟
وبذلك، فإن الحجّ لا يفصل الإنسان عن الدنيا، بل يريد أن يربطه بالآخرة إلى جانب الدنيا في عملية تكامل وامتداد.
إطلالة على فكرة الصراع مع الشيطان
وأخيراً، إنَّ الحجَّ يُطل بنا على فكرة الصراع مع الشيطان، من خلال الإيحاء الحسي في عملية رجم الشيطان بطريقة رمزية لا تبتعد عن الواقع فيما تتحرك به الحياة، بحيث لم يستحضر شيطاناً خفيّاً يعيش في زوايا نفسه من دون أن يعرف طبيعته، بل إنه يستحضر في داخل وعيه الذاتي كل الشياطين، من خلال طبيعة فكر الشيطان، لا من خلال حجمه، ويتطلع ليجد الشيطان في نفسه وفي واقعه؛ ليبصر ويحدق جيداً أين هو الشيطان في داخل ذاته؟ وأين هو في حياته الاجتماعية والسياسية؟ وما هو حجمه فيما يتمثل به من أحجام القوة في مواقع السلطة بين حجمٍ كبيرٍ وصغير، وأكبر أو متوسطٍ؟ وهذا هو معنى نهاية الحجّ في عملية رجم الشيطان.
أيها الإنسان المسلم الحاج، لقد انتهيت من عملية التدريب فيما هي التجربة على مستوى الحركة الذاتية في العبادة، في المواقع التي لا تمثل التحدي الصارخ في ساحة الصراع، وها أنت تقف لرجم الشيطان، لترى أمامك كل شياطين الكفر والظلم والاستكبار في مواقع القوة في العالم، وها إنك قد انتهيت من الحج إلى ساحة العمل؛ لتنطلق في الحياة كلها بكل أصنامها ومواقفها ومشاكلها وشياطينها ووسائلها وغاياتها.
إنها عملية النجاح في الحج بعد ذلك، ليست في نهاية الحج، بل في نهاية الحياة عندما يقوم الناس إلى رب العالمين.
ولكن هل ينتهى الحج بانتهاء أعماله؟ إنه لم ينته بل بدأ الآن، ليكون الحجّ إلى الحياة الإسلامية التي تنتظر أكثر من حج، إلى الساحات الملتهبة في الواقع الإسلامي في كل أنحاء العالم، ليكون الدين كله لله، وتكون الحياة كلها في خدمة الله.
وتلك هي قصَّة الإنسان عندما يعبد ربه من موقع إحساسه بالإيمان المسؤول والهدف المسؤول، لا من موقع إحساسه بالفراغ. وذلك هو البعد الحقيقي للحج؛ إنه صناعة الإنسان المسلم الذي يحب الله ويحب الإنسان والحياة من خلال هذا الحبّ الواعي الخاشع المسؤول.
*المصدر: رسالة الحج.