{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}.
من أعمال الحجّ، أن يقف النّاس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء... إنها وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكر، ويهديها الصراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها، ويحقّق لها أحلامها...
وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنَّ النُّسك هنا هو الوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنَّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه، وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع، فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرّحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الرّوحي الذي يملأ كيانه، في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل.
ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمّل الخاشع، والدعاء المنفتح على الله، والصلاة السابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة، ولكن في مكان آخر: {فَاذْكُرُواْ الله عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الذي هدانا إلى طريق الحقّ بعد أن كنّا من قبله من الضالين.
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرّضى والروح والطمأنينة، ويبعده عن نوازع الشكّ والقلق والضياع، ويوجّهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كلّ دنس أو رجس أو التواء، والقريبة إلى الحبّ والخير والسَّلام، أو يؤدّي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو الله ورضوانه، في جنّة عرضها السَّماء والأرض أعدّت للمتقين، ما يضمن له خير الدنيا والآخرة، وينطلق ليتعرّف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبيّة للضلال في داخل النفس وخارجها، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الآخرة...
وبذلك يحسّ بالشكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشعور بالامتنان لله الذي وهبه هذه النعمة، بأكثر مما يحسّ به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.
ولعلّ في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال، وبين حياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعيّة، لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب.
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}. يُقال إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس، لأنها تشعر بموقعها المميَّز الذي يختلف عن مواقع النّاس، من حيث العلوّ والرفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات.
وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}».
لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كلّ هذه النّوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، ولا سيّما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كلّ الفوارق التي تميّزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصّفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميّز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشعور بالتفوّق والكبرياء.
وهناك تفسير آخر للآية: وهو «أنَّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشّمس للرمي والنحر عن الجبائي. قال: والآية تدلّ عليه، لأنه قال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} ثُمَّ قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا}، فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أنَّ الإفاضتين واجبتان، والنّاس المراد به إبراهيم، كما أنه في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس} نعيم بن مسعود الأشجعي».
ولعلّ الوجه الأوّل أقرب وأظهر، لأنَّ إرادة شخص واحد من النّاس خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل. ولا دليل هنا على ذلك، كما لا دليل فيها على أنَّ هناك إفاضتين، لأنَّ كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع. أمّا الآية الثانية، فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة، وهو الطريق العام.
{وَاسْتَغْفِرُواْ الله}، ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كلّ ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبيّة البعيدة عن خطّ الإيمان وروحيّته، ووعدهم بالمغفرة والرحمة، {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لأنَّ الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".