{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} الكعبة الحرام {مَثَابَةً للنّاس} مرجعاً ومآباً
يثوبون إليه ويقصدونه من كلّ مكان، فيكون موقعاً لحركتهم العبادية، ومناسبةً
لاجتماعهم من خلال قدومهم إليه ورجوعهم منه؛ وقيل: مكاناً للثواب يثيب الله فيه
عباده على حجّهم إليه وعبادتهم له، كما في مفردات الراغب الأصفهاني. وَأَمْن، يأمن
فيه النّاس على أنفسهم من الظلم والاضطهاد والقتل، لأنَّ الله جعله ساحةً للسلام،
فلم يرخّص لأحد في الاعتداء على أحد، ليعيش النّاس هذه التجربة الروحية التي
يتمرّدون فيها على غرائزهم ونوازع الانتقام في ذواتهم، وينمّون عناصر الخير والعفو
والتسامح في أخلاقهم، من موقع الجهاد النفسي الذي يفرض فيه الإنسان على نفسه الصبر
على المشاعر الانتقامية.
وقيل: إنَّ هذا التشريع تحوّل إلى واقع حيّ في حياة النّاس الذين يعظِّمون البيت
الحرام ويقدّسونه، حتى كان الرّجل يلقى قاتل أبيه فلا يتعرَّض له. وقد تحدّث الله
عن ذلك في آية أخرى في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً
ءامِناً وَيُتَخطّفُ النّاس مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ}[العنكبوت: 67]. ولا يخفى ما في ذلك من النعم
والبركات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
ثُمَّ أمر الله المسلمين أن يتّخذوا من مقام إبراهيم، الملاصق للبيت أو الواقع خلفه،
مصلَّى، فقال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، أي مكاناً
يصلّون فيه، وقد فرض الله على الحجّاج والمعتمرين الإتيان بركعتي الطواف بعد الطواف
بالبيت، خلف مقام إبراهيم، مهما أمكن.
{وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} اللّذين أوكل الله إليهما مهمة
بناء البيت {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} الذي أردته مكاناً للطواف والاعتكاف والركوع
والسجود، ولغير ذلك من ألوان العبادة، فكان لا بُدَّ من أن يكون طاهراً من الأصنام
التي تمثّل الشرك الذي ينافي التوحيد، ومن كلّ القذارات المادية والمعنوية والقولية
التي تتنافى مع أجواء العبادة. والمقصود من هذا العهد الإلهيّ لهما، أن يؤسّساه على
الطهارة الكاملة.
{لِلطَّآئِفِينَ} الذين يطوفون بالبيت، {وَالْعَاكِفِينَ} أو المعتكفين الذين
يقومون بالمسجد ويلازمونه ويجاورون فيه للعبادة، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الذين
يركعون ويسجدون لله في صلاتهم.
البلد الآمن
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} الذي أراد للبيت أن يكون مركزاً لبلدٍ يسكنه النّاس،
ويجتمعون فيه للحصول على ضروراتهم العامة والخاصة؛ {رَبِّ اجْعَلْ هذ} المكان الذي
يضمّ البيت الحرام {بَلَدًا آمِنً}، يعيش النّاس فيه الأمن والطمأنينة، {وَارْزُقْ
أَهْلَهُ} المقيمين فيه {مِنَ الثَّمَرَاتِ} التي يحتاجون إليها في غذائهم، {مَنْ
ءَامَنَ مِنْهُم بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، من هؤلاء الذين أخلصوا لله إيمانهم،
وانفتحوا عليه، وعاشوا الاستعداد للّقاء به في اليوم الآخر الذي يخضعون فيه للحساب،
لأنَّ الكافرين لا يستحقّون الخير الإلهيّ.
ولكنَّ الله الذي استجاب له دعاءه، أعلن له أنّ الرّزق الذي يمثّل متاع الحياة
الدنيا لا يختصّ بالمؤمنين فقط، بل يشمل الكافرين، {قَالَ وَمَن كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيل} مما أرزقه من متاع الحياة الدنيا في حاجاته المادية
والمعنوية، لأني أعطي النّاس جميعاً ما يحتاجونه في وجودهم الدنيوي، سواء المؤمن
والكافر، والمطيع والعاصي، لأنَّ الدنيا ليست هي الأساس في قرب النّاس وبعدهم في
قضايا العطاء والمنع، بل هي الدار الآخرة التي تمثّل المكان الفصل في اليوم الفاصل
الذي تتحدَّد فيه المواقع ونتائج المصير بين المؤمن والكافر، فيلقى المؤمن جزاء
إيمانه، أمّا الكافر، فإني أترك له الفرصة في الدنيا، {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} في الخلود في العذاب من خلال سخط الله وغضبه.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 3.