عرضت بعض وكالات الأنباء والصّحف العالميّة، الخميس الماضي، صوراً معبِّرةً لإشعال «جمعيَّة المرسم الحسيني» الشّموع تعاطفاً مع ضحايا إعصار الفلبين، وفي يوم الجمعة، نشرت صور مجموعةٍ من الشّباب وهم يرتدون أثواباً وأقنعةً تنكّريةً شبيهةً بملابس منظّمة «كوكلوكس كلان» العنصريّة.
هذه المنظّمة تعرف اختصاراً بـ (KKK)، وهي منظّمة إرهابية ظهرت في الولايات المتحدة العام 1866، على يد المحاربين القدامى، بهدف مقاومة سياسة تحرير العبيد في أعقاب الحرب الأهليّة. فهل هناك يدٌ خفيّة تريد ربط عاشوراء البحرين بمنظّمة إرهابيّة كانت تقتل السّود في أميركا؟ أم هو حبّ تقليد؟ وهل كان عن غفلةٍ أم عن قصدٍ لتشويه هذه الذّكرى الدينيّة لتكون مادةً لبرنامج مذيعٍ من المهرّجين؟
انتقدت أمس الإعلام الرّسمي لما أصابه من مرض التّقليد، ودبلجة الأفلام المكسيكيّة والتركيّة، ولكن يبدو هذا المرض القاتل أصابنا أيضاً كشعوب. والأسوأ، حين تتحوّل هذه الممارسات المستوردة من الشّرق والغرب، إلى شعائر «مقدّسة» وكأنها جزءٌ من الدّين.
قبل أيّامٍ، تم تداول مقطع فيديو مسجّل في إحدى الحسينيّات بدولة الكويت، وللوهلة الأولى حسبته سيركاً، إذ يظهر فيه شخص يرتدي زيّاً تنكرياً لأسد، وهو يلوّح للجمهور ليزيد تفاعله معه. الفيديو استلمته من عدّة أصدقاء، وفي أحدها كُتب عليه «لطميّة الأسد»، مع صوت شخص يقهقه على هذا المشهد المثير للشّفقة. فهل هذا هو ما تفتّقت عنه عقول البعض لزيادة إبكاء الجمهور؟
هذه المدرسة الإسلاميّة العريقة الّتي كانت تتفاخر بأصالتها واجتهادها، وقدّم علماؤها أطروحة «البنك اللارِبَوي في الإسلام» في السبعينيات، فيما أغلقت المدارس الأخرى أبواب الاجتهاد منذ ألف عام، تُصاب في آخر أيّامها بمرض التقليد القاتل، بعد غياب جيل المراجع والخطباء الكبار، فتبرز هذه الظواهر التي تسيء إلى أكبر ثورة بيضاء في التاريخ، وإلى أكبر ثائر على الظلم والاستبداد.
في كتاباته، درس منظّر الثورة الإسلاميّة علي شريعتي، مصدر «ضرب القامة»، كعالم اجتماع، وأعاده إلى جذوره أيّام الدولة الصفوية، حين عيّنت وزيراً خاصّاً للشعائر الدينيّة، لأسباب سياسية بحتة، في خضمّ صراعها مع الدولة العثمانية. وكان الوزير يزور أرمينيا شمال إيران، واكتشف هذه الممارسة لدى المسيحيّين، فأدخلها في موسم عاشوراء، لتتحوّل إلى «شعيرةٍ» دينيّة، لها من القداسة والرّسوخ ما يجعل كتّاباً وخطباء ورجال دين يدافعون عنها حتى اليوم، بكلّ حماسة وإيمان.
قبل سنواتٍ، حين عاد بعض المهجّرين المتديّنين من لندن، حملوا معهم دعوةً للمشي على الجمر في محرّم، بدل أن يعودوا مشبّعين بالدّعوة إلى العدل وحكم القانون والمساواة واحترام حقوق البشر. عادوا دعاةً لتطبيق أبشع ما أنتجته الدّيانة الهندوسية من ممارسات شاذّة، وهذا العام، نشرت إعلاناتٌ للمشاركة فيها. لقد أصبح المشي على الجمر المستورد من الهندوس، شعيرةً مقدّسةً عند بعضنا، وعلى الجميع أن يسكت، فالحسين هو الجدار الّذي يقبل أن تُلصق به كلّ الإهانات!!
هل تعرفون الآن لماذا يُبدع المفكّرون المسيحيّون ويجلّون حين يكتبون عن الحسين، فيأتون بالمعجز من البيان نثراً وشعراً؟ أمّا حين نكتب نحن عنه، فنصوّره في هيئة رجل منهار يبكي في كلّ موقفٍ، واختلق شعراؤنا أطناناً من الأبيات الرّكيكة الّتي لا تليق بمقام رجلٍ هو أوّل من قال: «هيهات منّا الذلّة»؟ وصدق شيخنا الوائلي حين قال:
وصغناك من دمعٍ وتلك نفوسُنا نصوّرها لا أنت، بل أنت أرفعُ
إنّه نداءٌ لكلّ من يهمّه أمر الدّين والعقل، قبل أن تتحوّل ملابس منظّمة «كوكلوكس كلان» العنصريّة إلى شعيرة مقدّسة، وخصوصاً علماء الدّين المكلّفين بقول كلمة الحقّ، في وجه هذه الفوضى الّتي تعبث باسم الحسين.
المصدر: صحيفة الوسط البحرينيّة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .